رواية" المحصول الأحمر": تجربة المقاومة البرازيلية ضد الإقطاع

"المحصول الأحمر" أنسنت الآلام المحلية وانطلقت بها من المحلي الضيّق إلى العالميّ الواسع. ووضعت صاحب "بلاد الكرنفال" و"كاكو" و"زوربا البرازيلي" و... في عداد كبّار الكتّاب الكلاسيكيّين ليس في أميركا اللاتينية فحسب وإنما في العالم.

  • رواية
    رواية" المحصول الأحمر" لجورج أمادو

تنتمي رواية" المحصول الأحمر لجورجي أمادو إلى أدب المقاومة في مداراتها الواسعة، وقضاياها الملتزمة بحرية الإنسان، إننا إزاء كتابة أدب مقاومة من نوع آخر، فالمقاومة ليست دائماً بندقية ومحاربين ورصداً وكمائن واستطلاعاً، إنها مقاومة الإنسان الباحث عن العيش بكرامة في ظلّ وجود قوى الهيمنة والاستغلال، سواء تمثّلوا بالاستعمار الكولونيالي أو بالملّاك والإقطاعيّين الذين يأكلون تعب الفلاحين وعرقهم الأحمر بلون الدماء.

لقد نجح أمادو في أن يكون صوت البرازيل وشعورها وفرحتها، ومرآة وصورة شعب بأكمله.. على حدّ تعبير خوسيه ساراماغو، أو كما قال كاسترو ألفيس في تعليقه على الرواية، تساقط، يا ندى الدم الرقیق.. تساقط أيّها الندى في وجه الجلّاد إنها، إنها أيّها المحصول الأحمر... إنها، إنّها أيّها الثأر الضاري... إنها المقاومة في مواجهتها للإقطاع، للتوزيع السيّئ لملكية الأراضي، واحتكار الأرض، العلّة الأساسية في تأخّر شعوبنا وشقائها وجهلها على حدّ تعبير لويس كارلوس بريستس.

كتب جورجي أمادو روايته" المحصول الأحمر"، وهي تتحدّث عن مجموعة من الفلاحين الذين يعملون في مزرعة الإقطاعي الدكتور أوريليانو، ويقاسمونه المحصول، ليستفيقوا ذات صباح على خبر بيع المزرعة، وليجدوا أنفسهم في العراء. باعوا كلّ ما يمتلكونه من أشياء بسيطة وأسمال بالية، باعوا حتى دجاجاتهم وأغنامهم وخنازيرهم وانطلقوا حاملين صررهم فوق رؤوسهم وفي أيدهم في سهوب السرتون الشاسعة وصحراء الكاتنغا العارية المليئة بالأفاعي والأشواك في رحلة شتات قاسية مجتازين الأدغال المظلمة باتجاه سان باولو أرض الأحلام، حيث قيل إنه توجد أرض بلا مقابل ومال وفير، تزرع البن وتقطفه.

 في الطريق الوعرة يموت من يموت ويعيش من يعيش متغلّباً على ظروف الجوع والعطش والمرض حيث يكتنف الكاتنغا من القصص التي لا تصدَّق، وتحاط بألوان الشقاء الأشدّ رعباً، تلك التي لا تستطيع أيّ رواية أن تقصّها من دون أن تبدو عبثاً. إنها الرحلة التي لا تنتهي أبداً ويبدأها دائماً من جديد، رجال يشبهون الذين سبقوهم كالماء في كأس يشبه ماء كأس أخرى. إنها الوجوه نفسها ذات اللون غير المحدّد والأقدام الضخمة ذات الأصابع المشقّقة الفائضة عن الخفاف، الشعر قليل الكثافة، الجسم الهزيل والمقاوم والنساء أنفسهنّ بلا جمال في الوجوه المتعبة، يملأن صحراء" الكتانغا بحيواتهنّ اليائسة، بآهات الوجع، بخطاهنّ التي تفتح ممرات سرعان ما تغلقها الأشواك. 

في رحلة الأهوال تلك يجتاز الفلاحون المطرودون عشرات الفراسخ فتتورّم أقدامهم، وتتقرّح جروحهم وتنزّ قيحاً وصديداً من دون أن يفارقهم الخوف من تهديد العصابات وقطّاع الطرق، ونفاد المؤن من قديد وحبوب دقيق وقهوة وفاصوليا وغيرها. 

المرض والجوع أهزلا أجسادهم، وجعلاهم أشخاصاً عدوانيّين، فازدادت بينهم الخصومات، والمشاجرات على أتفه الأسباب، كأنّ الأمعاء الخاوية خير محرّض على المشاحنات، حتى طيور البغاث تجرّأت عليهم وحامت فوقهم طامعة في سقوط الحمار المنهك، وباشرت بمناقيرها تنهش قطعاً من لحمه قبل أن يسقط أرضاً، فما كان عليهم إلا أن ينهزوها بالحجارة والأغصان اليابسة لتبتعد عنهم في طيرانها، وتحلّق بعيداً في الفضاء.

تصل القافلة إلى نهر سان فرانسيسكو فيأخذ العجب من الرجال والنساء والأطفال كلّ مأخذ، إذ لم يكونوا قد شاهدوا مثل هذه الحياة الثرية، واستدعت فكرة الوفرة رؤية الماء، كانوا يتصوّرون أنّ تلك الأراضي القريبة ستكون ذات خصب مذهل... وظلوا يتخيّلون كيف هو البحر، فإذا كان لنهر سان فرانسیسكو كلّ هذه الحياة الغنية وكأنها أكذوبة، فالبحر إذاً، أي ماء غزير لن يكون فيه؟ "لم يملّوا من النظر بإعجاب إلى النهر ليس مارتا وفانسنت فقط وإنما جميع الآخرين الذين جاءوا من تلك البلدان، حيث كانت الأرض، بسبب قلة المياه، متصحّرة وقاحلة، ولم يبق سوى الحيوانات العنيفة، والإنسان الأكثر عنفاً. لقد كانوا متكئين على الدرابزين يتبادلون بعض الكلمات، وكان جوهر حديثهم يتركّز حول ما يمكن القيام به من مشاريع في سان باولو. لم يكن يتوقّع أحد منهم أن يحصلوا على المال بسهولة، لكن ما كانوا يأملون به هو أن يكون موجوداً، وألّا تكون الأرض قاحلة، ومن الصعب الحصول عليها بالقدر الذي كانت فيه الأرض التي غادروها لتوّهم".

تقدّم لنا الرواية صورة شاملة عن المجتمع البرازيلي الذي لا نعرف منه ـــــ في العالم العربي ـــــ إلّا نجوم الكرة والفوز بكأس العالم في كرة القدم لمرات عديدة.

انطلقت" المحصول الأحمر "من المحليّة إلى العالميّة بسرعة البرق وطبعت منها ملايين النسخ حول العالم ـــــ ومنها دار الفارابي في بيروت ـــــ لأنها تحدّثت عن المجتمع البرازيلي بمختلف شرائحه من عمال وفلاحين وإقطاعيين وضباط وبرجوازيين وقساوسة ورجال دين. لقد مشينا مع أمادو دروب الجوع والأمل ولذعتنا ملوحة عرق الفلاحين، وتسكّعنا مع الباعة العرب الجوّالين القادمين من سوريا ولبنان ورطنا بلكنتهم البرازيلية الركيكة وهم ينادون على بضاعتهم من عطورات، وخواتم ملوّنة، وعقود ذهبية وأشياء جميلة، ولوحات للقديسين، وللسيدة العذراء والقديسة بربارا....

لقد أنمت" المحصول الأحمر" فينا براعم التمرّد على الألم واشتممنا في صفحاتها رائحة البن البرازيلي في بساتين ريو دي جينرو، وتابعنا قطّاع الطرق وهو يواجهون رجال الشرطة...

إنها رواية ملحمية أنسنت الآلام المحلية وانطلقت بها من المحلي الضيّق إلى العالميّ الواسع. ووضعت صاحب " بلاد الكرنفال" و"كاكو" و"زوربا البرازيلي" و... في عداد كبّار الكتّاب الكلاسيكيّين ليس في أميركا اللاتينية فحسب وإنما في العالم.