كيف يعيد "أيام التراث السكندري" اكتشاف الإسكندرية؟
تحت شعار "الإسكندرية، جدارية من الأحياء" تتواصل فعاليات مهرجان "أيام التراث السكندري" الذي يشكل تجربة حية لإعادة اكتشاف المدينة من خلال أعين سكانها وفنانيها، مقدماً فسيفساء من الأنشطة التي تربط بين الماضي والحاضر.
-
الصور من صفحة "أيام التراث السكندري" على "فيسبوك"
في شوارع الإسكندرية القديمة، حيث تتجاور الأزقة والمباني التاريخية، تستعيد المدينة روحها في الدورة الــ 16 من مهرجان "أيام التراث السكندري"، الذي انطلق في 30 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ويستمر حتى 8 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري تحت شعار "الإسكندرية، جدارية من الأحياء".
والمهرجان ليس مجرد حدث ثقافي، بل تجربة حية لإعادة اكتشاف المدينة من خلال أعين سكانها وفنانيها، مقدماً فسيفساء من الأنشطة التي تربط بين الماضي والحاضر.
وتنظم هذه الدورة مؤسسة "CEALex" أو "مركز الدراسات السكندرية"، بالتعاون مع محافظة الإسكندرية، ووزارة السياحة والآثار، والمجلس الأعلى للآثار، والمعهد الفرنسي بمصر في الإسكندرية، وجمعية التضامن مصر (ASE) في جنيف.
ويهدف المهرجان إلى جعل التراث ذاكرة حية يشارك فيها المجتمع المحلي بإعادة إنتاجها وحمايتها، من خلال فتح المباني التاريخية للزوار، وتنظيم أنشطة فنية وثقافية مفتوحة أمام الجميع مجاناً.
وأُهديت دورة هذا العام إلى روح الفنان الراحل، طارق نادر، الذي غيّبه الموت مطلع العام 2025، وترك بصمة عميقة في المشهد الثقافي السكندري.
وكان طارق من أبرز المشاركين في الاحتفالية منذ العام 2017، وعُرف بمسرحياته التي تناولت هوية المدينة وتاريخها، واختتم المهرجان أحد عروضه باقتباس من مسرحيته "لما كان البحر" جاء فيه: "إلى الصديق الوحيد الذي عرفته البهجة والروح الحرة، والعمر الذي اقتنصه منه الزمن.. أنا هنا معك، وأنت هنا معنا."
عبارة حملت بعداً إنسانياً رقيقاً يربط بين الفنان والمدينة والجمهور، مؤكدة أن التراث ليس ذكرى، بل حضور حيّ في حياة من يصنعونه ويعبرون عنه.
بين المحاضرة والمعرض
وانطلقت الفعاليات في المركز الثقافي الفرنسي بالإسكندرية بمحاضرة افتتاحية بعنوان "الإسكندرية، الأحياء التاريخية"، شارك فيها توماس فوشير، ومحمد عوض، ومحمد عادل دسوقي، وتناولت المحاضرة طبيعة الأحياء القديمة في المدينة وتطورها العمراني والاجتماعي عبر العصور، مؤكدين أن الإسكندرية ليست مجرد معالم حجرية، بل نسيج حي من البشر والذاكرة.
وقال محمد عادل دسوقي: "كل واحد منا يتحدث عن إسكندريته الخاصة، المدينة التي نشأ وتعلم فيها وتحرك في شوارعها. الإسكندرية مدينة واسعة ومتعددة الوجوه، وهذا ما حاولنا نقله من خلال الصور والخرائط والقصص الشخصية."
وأضاف أن المهرجان لا يقتصر على التراث المادي، بل يهتم أيضاً بالتراث غير المادي من فنون وآداب وحكايات متوارثة "الموضوع هذا العام مرتبط بالأحياء، لكننا نهتم كذلك بالتراث غير المادي الذي يعكس الحياة اليومية للسكان. المهرجان ليس مجرد صور وخرائط، بل إحساس مباشر بالمدينة وتفاعل مع ماضيها وحاضرها."
عقب المحاضرة، افتُتح معرض "قصة أحياء"، الذي صممه الفنان والمهندس المعماري، محمود سعيد، عرض فيه تاريخ الأحياء السكندرية من العصور القديمة حتى المعاصرة باستخدام خرائط نابوليون بونابرت وغاليسباي التي حُولت إلى نماذج ثلاثية الأبعاد.
وقُسِّم المعرض إلى 3 أقسام هي: الإسكندرية القديمة في العصور البطلمية والرومانية، والإسكندرية في العصور الوسطى والعصر الإسلامي، والإسكندرية الحديثة.
سعيد الذي أكد أن الهدف من المعرض هو إبراز القيمة الحقيقية للتراث من خلال تطور الأحياء قال: "ركزنا هذا العام على الحي الغربي في العصر الإسلامي، ووثقنا المباني التي لم تعد موجودة اليوم. هدفنا أن يرى الناس كيف تشكلت مدينتهم عبر العصور المختلفة."
بهذا المزج بين المحاضرة والمعرض، جسّد اليوم الأول جوهر المهرجان: الجمع بين المعرفة والتجربة، وبين التاريخ والناس.
"مركز الدراسات السكندرية": من البحث الأثري إلى الوعي المجتمعي
"مركز الدراسات السكندرية"، هو مؤسسة فرنسية تابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي الفرنسية، تعمل في الإسكندرية منذ عام 1990. بدأ نشاطه بالحفريات البحرية عند الميناء الشرقي قرب قلعة قايتباي، ثم توسع ليشمل دراسة تاريخ المدينة من خلال أقسام متخصصة في الأرشيف، دراسة المباني، والمساحة الجغرافية.
وتقول مروة عبد الجواد، المنسقة الرئيسية للمهرجان إن: "الفعالية الوحيدة التي ينظمها المركز على مستوى المدينة هي (أيام التراث السكندري)، وهدفنا أن نصل إلى جمهور واسع. نفتح أماكن غير معتاد أن يدخلها الناس ليستمعوا إلى محاضرات ويشاهدوا معارض، وكلها مرتبطة بتاريخ الإسكندرية."
وتضيف أن الفكرة بدأت عام 2014 كمبادرة بسيطة، ثم تحولت إلى حدث سنوي كبير يختار كل عام موضوعاً مختلفاً. هذا العام، اختير شعار "الإسكندرية، جدارية من الأحياء" ليقدم سرداً بصرياً وإنسانياً لتاريخ الأحياء، من العمارة والشوارع إلى الناس الذين عاشوا فيها.
أما حول إهداء الدورة لطارق نادر فقالت عبد الجواد: "كان طارق نادر شريكاً أساسياً في أيام التراث منذ سنوات. له جمهور واسع وحضور قوي، ولا يمكن أن تمر الدورة من دون تكريمه. أعدنا عرض مسرحيته (صيف.. شتاء) بحضور والدته، تقديراً لعطائه ووفائه للمدينة."
وتشير عبد الجواد إلى أن تمويل المهرجان بالكامل من المعهد الفرنسي في مصر، مع دعم الفنانين والأنشطة المشاركة، مؤكدة أن جميع الفعاليات مجانية ومفتوحة للجمهور، لأن الهدف نشر الثقافة والوعي بالتراث لا الربح المادي.
التراث في عيون الجمهور
من بين الجمهور الدائم للمهرجان، الممثلة هدير هنداوي التي ارتبطت بالاحتفالية منذ انطلاقها، وقالت: "بدأت علاقتي بأيام التراث السكندري منذ دورته الأولى. إنه اسم جذاب لفعالية قوية ومؤثرة. وبصفتي محبة لكل ما هو تراثي، فإن كونه خاصاً بالإسكندرية يجعلني أحرص على حضور فعالياته، لا سيما الفنية منها."
وتضيف عن تجربتها: "في عامي 2023 و2024 شاركت مع عازف العود، أدهم حبشي، في إلقاء شعر كفافيس عن الإسكندرية، مرة في ڤيلا البحارة الألمان، وأخرى في المؤسسة الثقافية اليونانية. كانت تلك المرة الأولى التي أزور فيها كلا المكانين، والمهرجان منحني تلك الفرصة."
وتصف هنداوي المهرجان بأنه "منظم ومحترم"، لأنه "يساعد الجمهور على اكتشاف مؤسسات ومواقع جديدة يمكنهم من خلالها التعبير عن أنفسهم والاستمتاع بإنتاج فني وثقافي يبرز التراث بطريقة حديثة"، مشيرة إلى أن الجولات الميدانية هي أكثر ما يميز الفعالية، لأنها تسمح باكتشاف أماكن مجهولة من المدينة.
وعن إهداء الدورة لطارق نادر، تقول هنداوي: "أنا سعيدة جداً بإهداء المهرجان له، فقد كان صديقاً لي منذ عام 2011. تعرفت عليه حين كنت ممثلة في فريق أخرجه طارق في مشروع القراءة الكبرى بالمكتبة، ومنذ ذلك الحين شاركنا العديد من المشاريع. كان طارق يحب الإسكندرية بصدق، ويجعلنا نراها بعينيه، لذلك استحق أن يكون شخصية العام بلا شك."
روح المشاركة المجتمعية
يشارك في المهرجان فنانون وباحثون وتجمعات محلية، يقدم كل طرف رؤيته الخاصة للتراث من خلال المسرح أو التصوير أو المحاضرات.
وحول هذه النقطة توضح مروة عبد الجواد: "كل شريك يعمل على التراث من خلال بحث معمق، والجمهور بدوره يتعلم. من يحب الفن يجد لوحة تلامسه، ومن يفضل المحاضرات يستفيد، ومن خلال هذا التفاعل تبدأ أجيال جديدة في تقديم مشاريع ومبادرات خاصة بها."
ويرى منظمو المهرجان أن تأثيره بات ملموساً على الأرض. إذ أصبح يجتذب العائلات والشباب وطلبة الجامعات، الذين يرون في أنشطته وسيلة للتقرب من مدينتهم بطريقة جديدة. لم يعد التراث مجرد حنين للماضي، بل أصبح تجربة معاصرة تعزز الانتماء والهوية.
من خلال هذه الدورة، يثبت مهرجان "أيام التراث السكندري" مكانته كحدث ثقافي يربط بين الفن والهوية، ويمنح الإسكندرية فرصة لتروي حكايتها بنفسها.



