مهرجان بيروت للسينما الفنية الوثائقية: عروض، تراث، فلسفة، وإنسانية
يقدّم المهرجان 35 فيلماً ومعرضين و15 ضيفاً عبر أكثر من 100 لقاء على شاشة مسرح "بيريت" وفي "المكتبة الشرقية" بجامعة القديس يوسف.
تعود بيروت هذا الخريف لتحتضن "مهرجان بيروت للسينما الفنية الوثائقية" في دورته الــ 11 تحت شعار "مهرجان من أجل الإنسانية"، مع برنامج حافل بعروض الأفلام والأنشطة المواكبة التي تشمل معارض وندوات ولقاءات حوارية.
وانطلق الافتتاح الرسمي في 4 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، على أن يمتد الحضور الثقافي للمهرجان إلى ما بعد العروض، ويستمر خلال ما تبقّى من العام الحالي وحتى العام المقبل، في محاولة واعية لرفع السينما من فعل تقني وفني إلى مستوى فكري وفلسفي واجتماعي ينشغل بقضايا الإنسان وتحدّياته.
وتوضح مؤسِسة المهرجان، أليس مغبغب، أنّ الدورة الجديدة تمضي مع فنّانين وصنّاع أفلام ومتخصصين من مستوى عالمي، متمسّكة بالقيم الأساسية لإنسانيتنا المشتركة. في عالم يضجّ بالزيف وتتحكّم به حروب مستمرة وأزمة تغيّر المناخ وتفاقم الأزمات البيئية وصعود الذكاء الاصطناعي واستمرار تهديدات حقوق الإنسان، تتضاعف المخاوف حول المستقبل، ويمنح المهرجان المخرجين والفنانين والمتحدّثين مساحة للتعبير بوصفها فعلاً للإيمان والأمل.
لذلك يقدّم البرنامج 35 فيلماً ومعرضين و15 ضيفاً عبر أكثر من 100 لقاء بين 4 و14 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري في بيروت، على شاشة مسرح "بيريت" وفي "المكتبة الشرقية" بجامعة القديس يوسف.
وافتتح البرنامج بفيلم "الحمراء" للمخرج الفرنسي مارك جامبولسكي، لما يمثّله قصر الحمراء من كنز معماري وتاريخي جمع إرثاً عربياً إسلامياً وأوروبياً ومسيحياً وعالمياً. شيّد بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، وكان قصراً وقلعة للمملكة الإسلامية في غرناطة في ذروة مكانتها الاجتماعية والثقافية، ويعود اليوم في صيغة سينمائية تستعرض عجائب العمارة وتنوّعها.
وكذلك تكريم العازفة والمؤلّفة والمغنية اللبنانية الأرمنية، سينثيا زافين، الذي شكّل محطة مؤثرة بعد نيلها جائزة "اليراعات الذهبية" لعام 2025، توسّطها لقاء جمع المخرجين اللبنانيين هادي زكاك وإليان الراهب مع زافين في حوار أضاء على رحلتها الفنية واستكشف العوالم الحساسة التي اشتغلت عليها في الصوت والصورة والذاكرة.
وحضر كذلك فيلم "الفن المناخي من الاحتجاج إلى الطوباوية"، للمخرج الألماني، ماثياس فريك، تبعه حوار مع جوانا دمر، المتخصصة في علم المياه، حول علاقة الفن بالبيئة وأدوات التعبير عن المخاطر التي تهدّد الكوكب.
ومن العناوين أيضاً "من إسطنبول إلى بيروت ومن بغداد إلى القاهرة" للمخرجة إيلانا نفارو في قراءة لعادات الحداثة ومساراتها، إلى جانب رقصة "لون الرمان" التي جاءت من لقاء بين مصمّم الرقص مراد مرزوقي، والمديرة الفنية ساتيه خاتشاتريان، تكريماً لسيرجي باراجانوف في صيغة تشاركية بين الثقافتين الفرنسية والأرمنية.
وتتواصل الاختيارات مع "القسطنطينية" أو "ميزوبوتاميا" للمخرج أوليفر جوليان في مقاربة لنهوض المدن ومساراتها، و"ديبو" للمخرجة الهولندية سونيا هيرمان دولز مع حوار بعدها، و"كلمات غير محكية" من كندا للمخرجة جوزيان بلانك، و"أورلاندو" عن حياة مؤلف موسيقي من عصر النهضة للمخرج البلجيكي جواشيم ثوم، ثم "فخ العين" للمخرج الفرنسي توماس سيب. ويتعزّز البرنامج مع فيلم "أكثر من متحف" من إسبانيا لمخرج موريسكو فيلا سان خوان، و"أوسع من السماء" للمخرج السويسري فاليريو جالونغو، و"جان كوكتو" للمخرجة الأميركية ليزا إيموردينو فريلاند، إضافة إلى الفيلم الفرنسي الياباني الكيني "من التراب وإلى التراب" للمخرج كوزاي سيكين في رحلة بصرية عبر الذاكرة والموت والحضور.
كما يُعرض "توراندوت آي واي واي" للمخرج مكسيم ديريفيانكو في قراءة لتجربة فنية تجمع سرديات معاصرة، إلى جانب "آيلين غراي" و"بيت على البحر" للمخرجة بياتريس مينغر التي تتحاور مع الجمهور عبر تقنية الاتصال المرئي.
وتتناوب العروض مع نقاشات وورش لتوسيع المعنى الفني والإنساني لهذه الأفلام وإدراجها في سياقاتها الجمالية والمعرفية بما يعزّز حوار المتلقّي مع العمل الوثائقي الفني.
كما يخصّص المهرجان محاضرة للبروفيسور نادر البزري، الأستاذ الباحث في معهد واربورغ بجامعة لندن بعنوان "المتاحف كأنساق وجودية معمارية للذاكرة والاستشراف المستقبلي". وتستكشف المحاضرة المتحف من منطلقات فلسفية ومعمارية بوصفه مكاناً وجودياً وتفاعلياً تتقاطع فيه الذاكرة والتجربة المعيشة مع الزمان والمكان، وتناقش الفناء الكينوني للحالة الإنسانية وآفاقها الوضعيّة ضمن استشراف احتمالات المستقبل. بعيداً عن كون المتحف وعاء ثقافياً لحفظ الأرشيف، يقترح البزري تصوّراً يرى فيه موضعاً حركيّاً يتشابك فيه الماضي والحاضر والمستقبل داخل إحاطات معمارية ومدينية معقّدة.
كما تحضر الشاعرة اللبنانية الراحلة، إيتيل عدنان، في معرض يضمّ قصائد وروايات ومقالات بين 1966 و2021، وهو أول معرض من نوعه لها بتنظيم المهرجان بالتعاون مع المكتبة الشرقية في الذكرى المئوية الأولى لولادتها. يستمر المعرض حتى 19 كانون الأول/ديسمبر 2025 في قاعة القراءة بالمكتبة الشرقية بجامعة القديس يوسف، ضمن مسعى يفتح أرشيفاً جمالياً وفكرياً يعيد قراءة أثر عدنان في الأدب والفنون البصرية.
ولغزة مساحة مميّزة عبر حلقة "غزة باقية" التي تدرج أفلاماً وندوات ضمن برنامج العروض. هكذا تعقد ندوة "غزة: تاريخ وبطولات وتحوّلات" بمشاركة المؤرّخة آن ماري إده، وأخصائي الآثار، رينيه آلتر، الذي عمل 25 عاماً في غزة، ويعرض شهادته عمّا رأته عيناه في المجزرة. يتولّى المؤرّخ يوجين ريبيلار إدارة الندوة التي تشهد توقيع كتاب "غزة: نقل التراث" بالعربية والفرنسية لرينيه آلتر، بما يكرّس الذاكرة الثقافية ويصونها في مواجهة العنف والطمس.
كما يقدّم المهرجان العرض الإقليمي الأول لفيلم "ضع يدك على روحك وانطلق" للمخرجة سيبيدا فاريس، بالتعاون مع فاطمة حسونة، وهو عمل فرنسي فلسطيني إيراني يعرض للمرة الأولى في الشرق الأوسط وأفريقيا.
ويأتي الفيلم بوصفه رداً فنياً على المجزرة بحقّ الفلسطينيين، حيث عملت حسونة على التوثيق الميداني كشاهد عيان على ما جرى في غزة، لتتداخل الصورة والصوت مع السرد الشاهد في صيغة بصرية مكثّفة. يندرج هذا الاختيار ضمن رؤية المهرجان التي تعلي من قيمة الفنّ كأداة للمعنى وبوصلة أخلاقية تفتح الأسئلة وتقاوم النسيان.

