"دروب الحرية".. رحلة ممتعة في قلب الفكر السياسي

يؤكد راسل أهمية "متعة العمل" بعد أن حولت الرأسمالية العمل إلى نشاط تجاري صرف، وهو أمرٌ لا روح فيه ولا متعة، فحل ربح القلّة محل الخدمة الوطنية للنقابات.

  • "دروب الحرية".. رحلة ممتعة في قلب الفكر السياسي

يندرج كتاب "دروب الحرية" لبرتراند راسل ضمن المحاولات الفكرية لتصور تنظيم أفضل للمجتمع الإنساني من الفوضى المدمرة المتوحشة التي وجد الجنس البشري نفسه فيها إلى اليوم، ولاسيما في ظل استشراء الشرور التي يتيح لها البشر أن تستمر بلا مسوغ. لذلك، فإن الفيلسوف البريطاني، بعد نظرة متأنية في التعريف بكل من الاشتراكية والفوضوية والنقابية، والشرور التي تكتنف كلاً منها، فإنه يضع ملاحظاته الموضوعية بشأن كل منها، وخصوصاً أنه كتب كتابه هذا عام 1918 في زمن كانت الفوضوية والنقابية لا تزالان نشطتين إلى حد ما، ولم تكن الدولة قمعتهما بعد، بينما الثورة الشيوعية في روسيا كانت لا تزال شيئاً جديداً، لذا كان راسل يحلل من دون التحيز الذي ألقاه استبداد النظام السوفياتي على الاشتراكية، متكئاً على مفهوم عام قائم على أن الاشتراكية والفوضوية نشأتا على قاعدة أن رأس المال الخاص هو مصدر الطغيان من جانب أفراد معينين على آخرين. وفي حين تعتقد الاشتراكية الأرثوذكسية أن الفرد سيصبح حراً إذا أصبحت الدولة هي الرأسمالية الوحيدة، فإن الفوضوية، على العكس من ذلك، تخشى أن ترث الدولة في هذه الحالة تقريباً الميول الاستبدادية للرأسمالي الخاص. وبناءً على ذلك، تسعى لإيجاد وسيلة للتوفيق بين الملكية الجماعية وأقصى قدر من التخفيض في سلطات الدولة، بل في نهاية المطاف هي مع الإلغاء الكامل للدولة.

ويهدف النقابيون إلى تنظيم الناس، ليس على أساس الحزب، بل على أساس المهنة، ويقولون إن هذا وحده يمثل المفهوم والطريقة الحقيقيين لمواجهة الحرب الطبقية، وتالياً فإنهم يزدرون كل عمل سياسي عن طريق وسيلتي البرلمان والانتخابات. وبالنسبة إليهم فإن نوع العمل، الذي يوصون به، هو العمل المباشر من جانب النقابة الثورية أو النقابة العمالية. وفي النهاية فإنهم يعتقدون أنه لا يمكن أن تكون هناك حرية فردية كافية حيث تكون الدولة قوية للغاية، حتى لو كانت الدولة اشتراكية.

ماركس وباكونين 

يبدأ راسل كتابه بالجانب التاريخي للحركات الثلاث، إذ يختصر ضمن فصل "ماركس والمذهب الاشتراكي" المفاهيم الرئيسة للمنظر الاقتصادي الألماني بـ"التفسير المادي للتاريخ" المتمحور حول أن جميع ظواهر المجتمع البشري يعود بصورة رئيسة إلى الشروط المادية. ففي الماضي جرت ثورة البرجوازية ضد الإقطاع، وفي المستقبل ستقوم ثورة البروليتاريا ضد البرجوازية التي ستقيم التوافق للمجتمع الاشتراكي بما فيه خير البشرية. أما المفهوم الثاني فهو "قانون تركز رأس المال" ويتنبأ فيه ماركس بأن الرأسماليات الكبيرة ستهضم الصغيرة، وبمرور الوقت سيغدو الرأسماليون أضعف فأضعف من الناحية العددية، وهو ما سيزيد في شرور النظام الرأسمالي وظلمه، وسيستنهض قوى المعارضة أكثر فأكثر. ونتيجة ذلك يتحدث عن مفهومه الثالث "حرب الطبقات" الناجم عن أن كل إنسان هو إما عامل بالأجر وإما رأسمالي. ونتيجة توسع النظام الرأسمالي واتضاح طبيعته، تتضح أكثر معالم التعارض بين البرجوازية والبروليتاريا بصورة أكبر، وتُدفع الطبقتان إلى خوض حرب تولِّد داخل النظام الرأسمالي قوى تفتته الداخلية، وكل ذلك تم تفصيله في "البيان الشيوعي".

يشرح راسل كيف قام "بيرنشتاين" وهو اشتراكي ألماني بحركة تنقيحية لأفكار ماركس، مفضلاً العمل التدريجي على الثورة، بحيث مثَّل ذاك المنظر تفسخ الأرثوذكسية الماركسية من الداخل، في حين مثلت النقابية هجوماً عليها من الخارج، وهو ما أبرزه "سوريل" في كتابه "تفكيك الماركسية"، وأيضاً في عمله الأضخم "تأملات حول العنف". 

أما في فصل "باكونين والفوضوية" فتتبدى النظرية التي تعارض كل أشكال الحكم القسري، بما فيها الدولة كونها تجسيداً للقوة المستخدمة في حكم المجتمع، إذ هناك رفض للمؤسسات التي تُفرض من خلالها إرادة قسم من المجتمع على قسم آخر، كالشرطة والقانون الجنائي، حتى إن الصيغة الديمقراطية للحكومة هي بنظر الفوضويين ليست أفضل كثيراً من الصيغ الأخرى ما دامت الأقليات تُرغم بالقوة أو باحتمال استعمالها على الخضوع لإرادة الأكثريات. لذلك، تبقى الحرية هي الخير الأسمى الذي يتم السعي إليه عبر طريق مباشر يلغي كل سيطرة قسرية على الفرد من الجماعة. 

ومثلما كان ماركس مؤسس الاشتراكية الحديثة، فإن ميخائيل باكونين هو مؤسس "الشيوعية الفوضوية"، والذي يقول في كتابه الأشهر "الله والدولة" إن "الدولة ليست المجتمع، وإنما هي شكل تاريخي من أشكاله فحسب، شكل متوحش بقدر ما هو مجرد. وُلدت الدولة تاريخياً في جميع البلدان من تزاوج العنف والسلب والنهب، وبكلمة، من الحرب والغزو. ومنذ بدايتها كانت الدولة، ولا تزال حتى يومنا هذا، المصادقة الإلهية على القوة المتوحشة واللامساواة المنتصرة".

يلجأ راسل في فصل "التمرد النقابي" إلى تأكيد أهمية "متعة العمل" بعد أن حولت الرأسمالية العمل إلى نشاط تجاري صرف، وهو أمرٌ لا روح فيه ولا متعة، ويدعو ذاك التمرد إلى اعتماد تربُّح القلّة محل الخدمة الوطنية للنقابات، والسلع الرائجة محل العمل المسؤول، والبيروقراطية وضخامة الدولة مع شركاتها الحديثة محل الاستقلال الذاتي ونزع المركزية، لأنه بذلك وحده سيفخر البشر بجودة عملهم لا بكميته فقط، وبذلك ينشغل النقابيون بنيل الحرية في العمل أكثر من انشغالهم بزيادة الرفاه المادي، من خلال القضاء على مظاهر الاضطهاد كافة، وتحرير الطاقات البناءة للإنسان. 

دمج الحرية في العدالة

بعد ذلك ينطلق الفيلسوف البريطاني إلى مناقشة مشكلات المستقبل وأهمها "العمل والأجر"، وبرأيه فإن من الضروري توفير ضروريات الحياة كافة مجاناً لجميع الناس، شريطة أن يعمل معظمهم عدداً معقولاً من الساعات، وأن يعود عملهم بأقصى مردودية يتيحها العلم والتنظيم، وتالياً أن يُوَفَّر دخل محدود يكفي لتأمين الضروريات، ومنح دخل أعلى، إلى الحد الذي يسمح فيه للراغبين في تولي عمل معين يعدّه المجتمع مفيداً، وبالمعنى العام أن تُدمج الحرية في العدالة.

وفيما يتعلق بمشكلة "الحكومة والقانون" التي تنطوي بجوهرها على قيود على الحرية التي هي أعظم الفضائل السياسية، فالحل الأساسي يكون قائماً على أن المجتمع المعافى لا يمكن أن يولد من تعظيم شأن الدولة، بل من النمو غير المقيد للأفراد.

أما كل ما يخص الأهداف الرئيسة التي يتعين على "العلاقات الدولية" تحقيقها فتتلخص في تجنب الحروب، ومنع اضطهاد الأمم القوية للأمم الضعيفة. لذا، يجب الالتفات إلى الحاجات الأساسية للطبيعة البشرية، وتالياً نشر السعادة التي تتنافى مع الرغبة في خوض الحرب، وأيضاً مع العدائية الحقودة التي يفرضها وجودنا المتأزم.

ولتبقى مسألة "الفن والعلم في ظل الاشتراكية" مهمة جداً، وتقتضي تقدير الفن والفنانين من جانب المجتمع وألا نكتفي بتقييم كل شيء بحسب منفعته، لذلك فإن تلطيف حدة صراعات العيش وتخفيض ساعات العمل وتقليل أعباء الوجود، والتي ستنتج من نظام اقتصادي أفضل، كل ذلك لن يعجز عن زيادة متع الحياة والطاقة اللازمة لخلق بهجة صرفة في العالم، وتمتُّع عفوي أكبر بالجماليات وأعمال الفنانين. 

ويخلص راسل في فصل "العالم كما يمكن أن يصبح" إلى أن "الفوضوية الصرفة، بالرغم من كونها الغاية القصوى التي يجب على المجتمع أن يدنو منها باستمرار، مستحيلةٌ في الوقت الراهن"، وأنها لن تدوم لأكثر من عام أو عامين على أقصى تقدير في حال تبنّيها. 

من الجهة الأخرى، وعلى الرغم من مساوئ متعددة تشوبهما، تبدو لي الاشتراكية الماركسية والنقابية مؤهلتين لتقيما عالماً أفضل وأكثر سعادة من عالمنا هذا. غير أني لا أعدّ أياً منهما أفضل نظام للتطبيق. ستمنح الاشتراكية الماركسية، كما أخشى، سلطة مفرطة للدولة، في حين أعتقد أن النقابية، التي تهدف إلى إطاحة الدولة، ستجد نفسها مرغمة على إعادة بناء سلطة مركزية من أجل وضع نهاية للمنافسة بين المجموعات المتعددة من المنتجين. النظام الأفضل القابل للتطبيق هو، بحسب ما أرى، نظام الاشتراكية النقابية الذي يقر بما هو صائب في مزاعم كل من اشتراكيي الدولة والخوف النقابي من الدولة، عبر تبنيه نظاماً فيدرالياً بين المهن لأسباب مماثلة لتلك التي تدفع باتجاه الفيدرالية بين الأمم".

والفريد في كتاب راسل، الصادر تعريبه عن "دار نينوى للدراسات والنشر" في دمشق، وتعريب جبران خزعل، أنه لا يزال ذا صلة بأيامنا هذه على رغم أنه نشر قبل أكثر من قرن من الزمان، كما أن فكر برتراند الثاقب ووضوحه الأخلاقي مكَّناه من شرح الأيديولوجيات السياسية المعقدة بمزيج نادر من الصرامة العلمية والدعوة العاطفية إلى الكرامة الإنسانية، من خلال فحص آليات القوة والإنتاج والوفاء البشري، بحيث إنه يحفز على إعادة التفكير في أسس العدالة الاجتماعية، ومحاولة استكشاف الحلول الجذرية التي تعد بالحرية الحقيقية. لذا فإن نقاداً كثيرين يَعُدّون كتاب "درب الحرية"، أو "السبل المقترحة إلى الحرية" في ترجمات أخرى، هو رحلة ممتعة ومقنعة في قلب الفكر السياسي.