"ماء العروس" لخليل صويلح.. ترميم السيرة الروائية
يصرّ "صويلح" على الانتصار لحكايا الجدّات، ولرائحة البخور التي طغت عليها رائحة البارود، وللشرب من ماء العروس في عمق النهر حيث لا قشّ أو طحالب أو طين.
-
"ماء العروس" لخليل صويلح.. ترميم السيرة الروائية
مرة أخرى يعود خليل صويلح في روايته "ماء العروس" (شركة المطبوعات للدراسات والنشر 2025) إلى اشتباكاته المديدة بين الحسكة مسقط رأسه وبين العاصمة، في محاولة لترميم سيرته الروائية التي ما فتئت تُطِلُّ برأسها في أعماله السابقة كاحتضار الفرس واختبار الندم وعزلة الحلزون وسيأتيك الغزال وغيرها، لكنه هذه المرة يعزّز ذاك الاشتباك بأسلوبيّة مميّزة في السرد، إذ جعل من الراوي روائياً ومُنَظِّراً لتقنيات السرد، ومن بطله الرئيسي قاصّاً مبتدئاً، بينما تتضافر المرويات بين الراوي والقاصّ لترسم مع بعضها حال البلد بكلّ حرائقه، وطبقات الذُّل والهوان والخيبات التي أصابت شعبه.
القشة التي أشعلت جمر الحكاية هي "فلاش ميموري"، تتضمّن متحفاً للأنقاض من الكتابات المنسية والعبارات الفوضوية، والقصص المبتورة، والمسوّدات، والأسماء، والصور الفوتوغرافية... لذا كان على الراوي وضعها في سياقاتها، وإعادة بناء الأحداث وترتيبها، وأيضاً إحياء الشخصيات بعد أن خمَّرَها الزمن، وهو ما أدّى بالنتيجة إلى اشتباكات في الأزمنة جعلت من الماضي حاضراً، ومن الحاضر مضارعاً مستمراً إلى آخره.
وما صنعه صويلح كان ـــــ كما جاء في الرواية ـــــ أشبه بما فعله نوح حين اختار من يركب سفينة نجاته، لذا انتقى أزواجاً من الشخصيات المتناقضة، فمن جهة شخصية "حمّاد الركّاض الهزّاع الذياب" وحكايته عن آلية التفريق بين الخيول الأصيلة والخيول الهجينة، إذ يتمّ تجويعها وإذلالها لأسبوع ثم يسوقونها إلى المعلف، فمن تأبى الطعام تُعزل باعتبارها أصيلة، والتي تهرول إلى المعلف توضع في خانة الخيول الهجينة.
حمّاد هجر القبيلة بعد أن قلب دِلال القهوة المرّة فوق الموقد في إشارة إلى تمرّد معلن على القوانين الحكومية الجائرة ضدّ البدو بدءاً من أيام العثمانيين فالانتداب الفرنسي وليس انتهاءً بحكومات الاستقلال، التي أمعنت جميعها في محو صفات الأنفة البدوية واستبدالها بطبقات الإذلال التي دمغت الأجساد والأرواح، لذا وجد الراوي في لعبة تغيير المصائر أنّ عليه تمجيد تلك الشخصية ذات الاسم الغرائبي فجعل لها مقاماً على تلة مهجورة يَؤمُّه المذلُّون أمثال "سائر البشير" الذي ساقته دورية من عسكر الحدود أمام عائلته مُكبَّل اليدين ومربوطاً بأحصنتهم الهجينة، بعدما اكتشفوا بندقية في خيمته. هذه الحادثة التي ستترك أثرها على الجميع، وخاصةً على ابنه ذي الست سنوات إسماعيل الذي أصابه سلس بولي من خوفه على أبيه، ولم تنجح حكايات جدَّته في شفائه بدايةً، لكنّ سردياتها باتت بمثابة تميمة ترافقه طيلة أيام حياته فيما بعد.
بين الذُّلّ والكرامة
تحرير الأب من الاعتقال الذي تزامن مع انقلاب "آذار الأسود" عام 1963 تمّ بصفقة قام بها "عبود السطام" سائق الشاحنة كلَّفت عائلة البشير ثلاثة خراف، وموافقة الأب على الانتساب إلى صفوف حزب البعث، وكي لا يعود "ساري" وحيداً إلى مضارب عشيرته ويكون فريسة للوحوش وقطّاع الطرق، قاده الراوي إلى تلة يعلوها حصن طيني مهجور، وضريح بالقرب منه هو ضريح الولي "حمّاد الركاض الهزاع الذياب" حيث التقى المتناقضان في درجات الذل والكرامة، وبين أن يشتري بندقية أخرى، أو يتطوّع في سلاح الهجّانة أو يصبح طبيب أعشاب مسترشداً بخبرة الغزلان، اختار له الراوي المهنة الأخيرة التي ستجعله أقرب إلى شخصية من شخصيات الواقعية السحرية في شفائها للمرضى بخلطات غرائبية من الأعشاب البرية، لكنه لم يلبث أن أخصاها لصالح الرواية، إذ اضطرّ "ساري" لاستئصال إحدى خصيتيه، لكنه بالمقابل أوقع في خضمّ إسعافه دفتر يومياته الذي يخلو من أيّ تدوينة في أيام الأربعاء، ما بقي لغزاً عصياً عن الكشف.
أما إسماعيل فالتحق بالمدرسة بعد إلغاء كَتْمِ قيده، وتغذَّت مخيّلته من مرويّات جدّته التي تتضمّن الكثير من ألف ليلة وليلة مع استبدال افتتاحيّة "بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد" بعبارة "يكَول يا محفوظ السلامة أن..."، وكذلك من مشاهداته في قرية الجابرية المتاخمة لنهر الخابور التي انتقل إليها مع عائلته، ونمو الغريزة الطفولية مع "مهيرة" التي تكبره بسنتين وكانا ينامان في بانيو استأجره والده من الكامب الفرنسي المجاور، وأيضاً من حكايات "جاسم عطية" المتوهّمة عن نساء القلعة المجاورة، ومن معايشاته في قرية الخندق عند سفوح جبل سنجار التي عُيِّنَ فيها مدرّساً، حيث العزلة لا تحتمل والخواء لا يُطاق، إلا بمرور "مزنة" ابنة السَّقا، ومحاولاته القصصية الأولى التي باءت بالفشل إلى أن أكمل حكاية "ترفة والشاويش والآغا عبد الحميد"، لكنها أثارت ضده الأعراف القبلية كونها أصبحت وثيقة مكتوبة ولم تبقَ في حيّزها الشفهي. ولخّص محنته عنها بالقول "الحكاية سرّ، والقصة قفص".
فلسفة المسافات القصيرة
وكنوع من رفض العزلة انتقل للعيش في دمشق، وهناك سيختبر فلسفة المسافات القصيرة في غرفته المستأجرة ضمن حيّ الديوانية، بعيداً عن فلسفة الخلاء والفسحات المفتوحة على الأفق التي كان يعيشها، كما سيتعرَّف إلى نماذج مختلفة من البشر، منهم ناديا زوجة العامل في سوق الأغنام والتي أغوته بأن يُعلِّمها في غياب زوجها كيف تكتب اسمها، لتصبح الكتابة بحدّ ذاتها غوايةً بالنسبة له، وهناك المخرج السينمائي الذي يريد التصدّي لسيناريو كتبه "إسماعيل" لكنه لم يمسك بإحكام بطبقات الذل التي يُريد "إسماعيل" تصويرها، وفي إحدى الغرف التي انتقل إليها سيتعرّف إلى الشاب التونسي "الميلود العماري" الذي يدرس الفلسفة ويعشق رولان بارت، ويعمل ليلاً كعامل تنظيفات، وعلى مصعب هاشم سارق الكتب الذي يعمّل حمّالاً في دار نشر وشعاره "الكتاب ببطحة عرق"، لكنه يُطرد من عمله بعد اكتشاف سرقته لطرد من رسالة الغفران للمعري، فهَجَر الغرفة واشتغل سائق تاكسي ومنظراً لقصيدة الومضة، وتعرَّف أيضاً إلى الشاعر ربيع نوح الذي فقد سمعه وجزءاً من نطقه بخطأ طبي عندما كان في التاسعة من عمره، ويعمل محرّراً ثقافياً في إحدى صحف العاصمة، ويعشق زميلته مريام بهنام التي رفضت حبه بحجة سفرها إلى كندا، لكن تعلُّقه بها دفعه للانتحار، فسكن مكانه محمد البخاري ولد سيدي المختار، وبعده مخرج مسرحي عراقي.
إعادة تأهيل النسيان
هذا الاشتباك مع مناخات وأمكنة وأشخاص جدد لم يقطعه عن ماضيه، إذ شاهد "عبود السطّام" في مقهى الروضة من دون أن يلتفت إليه، كما التقى بـ"جاسم عطية" الذي بات رقيباً يعيش في "عش الورور" وهناك أخبره "كان عليّ أن أخترع الحكايات لكي أنجو من وحدتي، فالذين يلجأون إلى رواية القصص أشخاص غير سعداء"، لكن كلّ ذلك كان بمثابة محفّزات للكتابة بغية تبرير الكآبة التي يعيشها كمهنة لا كهوية مؤقتة، ولا سيما بعدما تعرَّف إلى مكتبة الحرية، واتسعت رفوف مكتبته وآفاق وعيه، وبات يقرأ للجاحظ وثربانتس وسانت دي أكزوبري، ويتابع أفلام بازوليني، ويحضر بروفات مسرحية لصديقه عاشق عطيل، الباحث عن أوفيليا تناسب طموحاته الفنية والجنسية، وغير ذلك من معارف جعلته في مرحلة ما بمثابة ندّ لشخصية الراوي ذاته الساعي إلى "فحص آخر للحكاية يكشف عن ثراء هذا العالم المهمل، وعلى مهارة الرواة في تحويل الطين إلى خزف، وسمّ الأفعى إلى ترياق، ووحشة الصحراء إلى قوس ربابة مشدود إلى أقصاه".
ذاك الراوي اشتغل على ما أسماه "إعادة تأهيل النسيان" من خلال تأجيج الحكاية بتعزيز التشابكات بين الجزيرة السورية ودمشق، بين الماضي والحاضر، جاعلاً من نفسه "مثل برج المراقبة في تسجيل أحوال الحضور والتخفّي لاقتناص الطريدة قبل فرارها بقفزة واحدة"، ولذلك تراه يدمج بين ضرب أوتاد الخيمة في الجابرية بأبواق الحافلات وصخب الباعة تحت جسر الرئيس، ومن على سطح بيته كان يُراقب ساري البشير وهو يبتعد عن المضارب متوغّلاً في الحماد، وأحياناً يُصوّره على أنه يدقّ بعصاه على بابه بما يشبه اقتحام الدوريات الأمنية، ولا يكتفي بذلك بل يُرافق إسماعيل في تحرّكاته الدمشقية، ومنها في البيت الذي استأجره في ساروجة، ذاك الحي الذي شهد حريقاً عام 2023 طال "مركز الوثائق التاريخية"، بالتزامن مع حرائق غابات الساحل وقطع أشجار الغوطة تحت الرعاية الأمنية من أجل تحويلها إلى فحم، وهو ما استدعى لديه "الحريقة" التي ألغت حيّ سيدي عامود بعدما احتمى به الثوّار وقام الجنرال الفرنسي هنري غور بضربهم بالمدفعية من جبل المزة، فسُمِّي ذاك الحي من يومها بـ"الحريقة"، وأيضاً استبدال نصوص الفروسية بأرشيف النار لدى الحكواتي الدمشقي في حي النوفرة، إلى جانب حوار مع امبيرتو إيكو صاحب "اسم الوردة" عن الحرائق وعن "النخاع الشوكي للرواية"، ومن ثم زلزال شباط، وهدير طائرات وانفجارات بعيدة، وقطع رأس تمثال المعري،... وغيرها مما جعله "كَمَن يُرتِّبُ موتاه في رتل طويل، كما لو أنهم ذاهبون في مهمة قتالية مؤقتة، وكما لو كان حارس مقبرةٍ للغرباء".
شخصيات تشبه حطام البلاد
تلك الحراسة جعلت الراوي يقتنص شخصيات غرائبية تشبه حطام هذه البلاد، من مثل الخزافة شذى سليم التي دخلت المصحة بعد فقدانها جميع أفراد عائلتها في الحرب، وخرجت منها لتخاطب أصص الزهور وكأنها أشخاص ثم لتذوي وتغيب. ولاعب النرد في المقهى الذي يلاعب نفسه ويتوهّم خصمه ويشتمه، وعندما ينتصر يشتم الطغاة الذين لم يربحوا حرباً واحدة في تاريخهم الملطّخ بالهزائم. وسناء سنجقدار التي أصابها مَسّ بعد قصة حب فاشلة، فقامت بفضح سلوكيّات حبيبها القديم عبر رواية "بيان الهذيان" لتموت بعدها بنزيف دماغي، وقيس جبران الذي يكتب كشارلز بوكوفسكي مع اختلاف في اللغة بحسب نسبة الكحول المضروب في جسده، وهناك الرسامة شذى السليم التي غيّر لها الراوي اسمها إلى دنيا زاد ثم إلى مريم لتعديل مزاج الحكاية.
ورغم كلّ ذاك الخراب إلا أنّ "صويلح" يصرّ على الانتصار لحكايا الجدّات، ولرائحة البخور التي طغت عليها رائحة البارود، وللشرب من ماء العروس في عمق النهر حيث لا قشّ أو طحالب أو طين، ولهذا فإنه يُضمِّن حكايته ـــــ بطبقاتها السردية المتعدّدة ـــــ ضربة حاسمة، تتمثّل باحتجاج إسماعيل على الراوي إذ كان يرغب بهزائم أقلّ، وبلسان حادّ كالشفرة، وبغراميات عظيمة لم تتحقّق.