"مهرجان القطيع".. رحلة في أعماق الهوية التهامية

تظاهرة تراثية يمنية تتجاوز الاحتفال العابر. ما هو "مهرجان القطيع" في تهامة؟

  • يعدّ "مهرجان القطيع" واحداً من أبرز التظاهرات الفنية والتراثية في محافظة الحديدة

في عمق تهامة الخضراء، حيث تتشابك خيوط الأرض المعطاء مع أسرار البحر الوافر، وتتجسّد الذاكرة الشعبية في مواسم الحصاد وأهازيج الصيد العتيقة، ينهض سنوياً "مهرجان القطيع".

هذا الحدث الثقافي الفريد، الذي يُعدّ واحداً من أبرز التظاهرات الفنية والتراثية في محافظة الحديدة اليمنية، لا يقتصر على كونه احتفالاً عابراً، بل هو رحلة إلى وجدان الإنسان التهامي، ومسرح حيّ يُعيد رسم ملامح الهوية الأصيلة لهذه المنطقة العريقة، مُرسّخاً حضورها الحيوي في قلوب وعقول الأجيال المتعاقبة.

إنه دعوة مفتوحة للانغماس في عالم حيث يصافح الماضي الحاضر، وتُروى الحكايات عبر رقصات وإيقاعات تتجاوز حدود الكلمات، وتُبصر الأصالة في كل تفصيلة.

إحياء لروح تهامة

  • ينسج
    ينسج "مهرجان القطيع" لوحة متكاملة تعبّر عن غنى وعمق موروث تهامة

يُشكّل "مهرجان القطيع" ملتقىً حرّاً ومفتوحاً يُجسّد روح الإنسان التهامي في أبهى صورها، ويُسلّط الضوء على التقاليد والمعارف المتوارثة التي ظلت حاضرة بقوة في أدقّ تفاصيل الحياة اليومية، من تقنيات الزراعة المبتكرة وأساليب الصيد التقليدية، وصولاً إلى الأهازيج الشجية، والرقصات التراثية الأصيلة، والفنون الشعبية المتنوعة.

وينسج المهرجان لوحة متكاملة تعبّر عن غنى وعمق هذا الموروث، حيث تُقام فعالياته في أجواء شعبية خالصة تتداخل فيها الروح التهامية العفوية مع نبض المجتمع الحي، وتتغيّر ملامح الأماكن لتصبح مساحات للتعبير والعرض، وتستعرض ملامح الماضي التليد بلغة يفهمها ويستمتع بها أهل الحاضر.

كما في كلّ عام تقريباً، انعقد المهرجان خلال اليومين الثاني والثالث من عيد الأضحى المبارك (الموافق 11 و12 من ذي الحجة)، ما يُضفي على المناسبة الدينية بُعداً ثقافياً وروحياً عميقاً، ويجعل من مدينة القطيع قِبلة لعشاق الفنون الشعبية والتقاليد العريقة.

ويؤكد خالد محيي الدين، رئيس اللجنة المنظّمة لــ "مهرجان القطيع للتراث والموروث الشعبي التهامي"، أنّ هذا الحدث يُعدّ من أهم الفعّاليات التي تُسلّط الضوء على التراث الشعبي التهامي، الذي "طالما تعرّض للإقصاء والتهميش في كتب التاريخ وأبحاث الموروث الشعبي".

ويُضيف في حديث مع "الميادين الثقافية" أنّ المهرجان لا يقتصر على كونه احتفالاً، بل هو "منصة حيوية لإبراز الفنون والتقاليد التهامية الروحية والمادية". كما يوفّر المهرجان فرصة فريدة "للتفاعل الثقافي ومعالجة القضايا المحلية والاجتماعية ضمن بيئة تراثية مميّزة تُجسّد تاريخ مدينة القطيع العريق".

لوحاتٌ حية من الفن والتراث

  • تتنوع الأنشطة التي يتضمنها
    تتنوّع الأنشطة التي يتضمّنها "مهرجان القطيع" بين العروض التراثية والرياضات التقليدية

تتنوّع الأنشطة التي يتضمّنها "مهرجان القطيع" بين عروض تراثية، ورقصات شعبية، وليالٍ إنشادية، ورياضات تقليدية، وعروض فلكلورية تعكس الزخم الثقافي والتراثي الذي تمتاز به المنطقة، وتُقدَّم بأسلوب يستهوي الزوار من مختلف الشرائح والفئات.

ويحتضن المهرجان باقة غنية ومتنوعة من الفعاليات التي تُبهر الحضور وتُسافر بهم عبر الزمن، مُبرزة الزخم الثقافي والتراثي الذي تتميز به المنطقة:

الرقصات الشعبية الأصيلة: تُقدَّم بزيها التقليدي وإيقاعاتها المميزة، خاصة رقصات فرق "الزرانيق" الشهيرة التي تعكس حيوية ورشاقة الفن التهامي. وتبرز هنا "رقصة العُبدي" الفريدة، التي تُعدّ الواجهة الكبرى للمهرجان وأكثرها تميّزاً، وهنا يوضح محيي الدين أنها "تُحاكي انتصارات مدينة القطيع العسكرية منذ أواخر القرن العاشر الهجري"، حيث يؤدّيها الرجال بحركات مذهلة باستخدام العصي مصحوبة بأشعار وأهازيج وطبول، تُجسّد مشاهد تضامن وصراع رمزي يعكس روح الانتصار والتحدّي.

ليالٍ إنشادية صوفية: تُقام أمسيات خطابية وإنشادية تُبرز جماليات الفنون الصوفية التهامية، والتي تُعدّ جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمنطقة، وتستمر حتى منتصف الليل، لتقدم أناشيد وأهازيج ذات طابع روحي وثقافي عميق، تُلامس القلوب وتُغذّي الأرواح.

السباقات التراثية: لا تغيب عن المشهد مظاهر الفروسية والمروءة التي ميّزت البيئة التهامية. يحتضن المهرجان سباقات الهجن والخيول، بالإضافة إلى رياضة القفز على الجمال، التي تُشكل استدعاءً حياً لرياضات الأجداد، وتُلهب حماسة الشباب والجمهور.

عروض الفولكلور الشعبي: في اليوم الأخير من المهرجان، تُقام عروض الفولكلور الشعبي، التي تشمل حكايات وأساطير وقصصاً تمثيلية تُبرز التراث الزراعي والثقافي لمدينة القطيع. تُقدَّم هذه العروض من خلال لوحات فنية واستعراضات حيّة، تُجسّد تاريخ المدينة الثقافي والزراعي وتُبرز إبداعات المجتمع المحلي في الحفاظ على هذا الإرث.

استعراضات الحياة اليومية: يُقدّم المهرجان استعراضات حيّة لطرق الزراعة القديمة، وأدوات الصيد التقليدية، وتقنيات حفظ المحاصيل والأسماك، في مشاهد بصرية تنقل الزائر إلى أعماق التاريخ المحلي، وتُعزّز فهمه لكيفية عيش الإنسان التهامي في الماضي.

الأزياء التراثية والمنتجات المحلية: يُعرّف المهرجان بجمال وتنوّع اللباس التهامي التقليدي في عروض للأزياء التراثية. كما تُعرض المنتجات الزراعية والحرف اليدوية التي تشتهر بها المنطقة، مما يُسلّط الضوء على الاقتصاد المحلي والموروث الحرفي.

أبعاد تنموية ورسالة للأجيال

  • يسعى
    يسعى "مهرجان القطيع" لأن يكون جسراً للتواصل بين الأجيال

يُشكّل "مهرجان القطيع" رافعة اقتصادية موسمية تُنعش الأسواق المحلية، وتدعم الصناعات الصغيرة من خلال عرض المنتجات التهامية التقليدية. كما يُعدّ من الناحية التعليمية تجربة تعلّم حقيقية للأبناء والزوّار، تنقل مفاهيم الهوية والانتماء عبر التفاعل المباشر مع العروض، لا التلقين المجرّد.

ويمنح المهرجان مساحة للمثقّف الشعبي لعرض تراثه غير المكتوب، ما يُعيد الاعتبار للمعرفة الشعبية كمكوّن أساسي من الموروث الثقافي الوطني.

ويؤكّد محيي الدين أن المهرجان يسعى لأن يكون جسراً للتواصل بين الأجيال، ومظلة لتوحيد الجهود من أجل الحفاظ على التراث التهامي. ويُشير إلى أن المهرجان يهدف إلى تقديم رسالة واضحة عن غنى الثقافة التهامية وعمقها التاريخي، معرباً عن أمله في أن يصبح حدثاً ثقافياً بارزاً على مستوى اليمن والمنطقة.

وتظهر الرسالة الثقافية للمهرجان جليّة في حرصه على تمكين المجتمع المحلي من تقديم تراثه بلسانه الخاص، من دون وساطة أو تنميط، مما يمنح الفعّالية أصالة في الطرح وصدقاً في التلقّي، ويُشجّع الإبداعات الشبابية في مختلف المجالات الفنية والتقليدية.

كما يُسهم المهرجان بفعّالية في ربط الأجيال بالهوية؛ ففيه يجد الكبار فسحة لاستذكار ما عاشوه وتجاربهم السابقة، بينما يكتشف الصغار تفاصيل جديدة عن بيئتهم وأصولهم، لتتكوّن بذلك حلقة تواصل حيّة ومستمرة بين الماضي الملهم والمستقبل الواعد.

ويُقدّم المهرجان تجربة تعلّم فريدة للأبناء والزوّار، حيث تُنقل مفاهيم الهوية والانتماء عبر التفاعل المباشر مع العروض والأنشطة، بدلاً من التلقين المجرّد في الفصول الدراسية.

في زمن تتسارع فيه وتيرة العولمة وتنتشر فيه الثقافات الغربية، يظل "مهرجان القطيع" صوتاً أصيلاً ينادي بضرورة العودة إلى الجذور، والاعتزاز بالموروث، مؤكداً أنّ الثقافة التهامية قادرة على أن تتحدّث إلى العالم بلغة الفنّ، والتراث، والأصالة.

اخترنا لك