"وثاقية": هكذا نحفظ أرشيف مجتمع المقاومة

مشروع فرديّ لبناء أرشيف مجتمع المقاومة عبر جمع وحفظ الوثائق المتعلّقة بها. ما هو مشروع "وثاقية"؟ وماذا تخبرنا صاحبته أماني رمّال؟

لا يوفّر أهالي جنوب لبنان وسيلة للمقاومة ورفض الاحتلال، كما للتعبير عن تمسّكهم بأرضهم ودحض روايته الكاذبة عن أحقيته بها. أماني رمال، واحدة من هؤلاء، تمكنت بجهد فردي لافت من تحقيق مساهمة نوعية في حفظ أرشيف مجتمع المقاومة، فماذا نعرف عن تجربتها؟

في العام 2022 أطلقت أماني رمال مشروعها الخاص بعنوان "وثاقية" لبناء أرشيف مجتمع المقاومة عبر جمع وحفظ الوثائق المتعلقة بها، واليوم، بعد سنتين من العمل الفردي الجاد والاحترافي، ومن بلدة حاروف في قلب جنوب لبنان، تفتتح رمال – رافعةً شعار "لكل وثيقة حكاية" - متحف "وثاقية" الذي يحوي وثاقة مهمة ليست إلا جزءاً من أصل 2750 وثيقة من 95 رصيداً أرشيفياً تمكن المشروع من جمعها حتى الآن.

في 9 شباط/ فبراير الجاري، شهدت بلدة حاروف الجنوبية حفل افتتاح متحف "وثاقية"، بعد جهد بعيد نسبياً عن الأضواء من صاحبة فكرته أماني رمال، استمر على مدار قرابة 3 سنوات.

المتحف، بحسب النبذة التعريفية الرسمية عنه، هو تجربة معرفية بصرية مبنية من المجموعات الأرشيفية الشخصية للعائلات المقاومة، وهو يروي قصة احتلال لبنان منذ إرهاصاتها الأولى في العام 1948، ويشرح كيف تشكل الشريط الحدودي أو "الحزام الأمني" في العام 1985.

وفي حديث مع "الميادين الثقافية" تأسف رمال لاختزال تاريخ لبنان الحديث في سردية الحرب الأهلية اللبنانية، حتى أن مفردات مثل "مفقود" و"معبر" لا توحي للناشئة في هذا البلد بشيء خارج هذا السياق، ويدعم ذلك مشاريع أكاديمية وأرشيفية وتوثيقية ضخمة ساهمت – عن قصد أو غير قصد - في ذلك الاختزال، وفي تغييب سردية أخرى موازية، كان يفترض أن تتقدّم على الأولى، بوصفها وطنية وجامعة، هي سردية مقاومة اللبنانيين للاحتلال الإسرائيلي.

وبحسب رمال، فإن المشكلة تبدأ من عدم ضخ الوثائق اللازمة في السردية الثانية لتصبح نصوصاً يمكن تداولها بشكل كثيف وسهل ويسير على الإعلام المرئي والمسموع كما في السوشيل ميديا متحدثة عن "مفقودين" من نوع آخر و"معابر" من نوع آخر، لا يكادون يظهرون في هذا الإعلام، مع تغييب شبه كامل لحال الشريط الحدودي في ظل الاحتلال.

لذلك كان "وثاقية"، الذي تؤكد رمال أن المتحف ليس إلا جزءاً منه، وأن المشروع ينحو باتجاه بناء أرشيف مسجّل وصوتيّ لذاكرة الناس العاديين.

حفظ أرشيف المقاومة والتوعية إلى أهميته

وبالحديث عن أهداف المتحف، تؤكد رمال أن أولها توعية الناس على أهمية الوثائق الموجودة في منازلهم وضرورة الحفاظ عليها لأنها تشكل أرشيف مجتمع المقاومة، لافتةً إلى أنه بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، أصبحت هذه الوثائق أكثر ندرةً، خصوصاً في ما بات يعرف بـ "قرى الحافة الأمامية" أو "الشريط المحتل" سابقاً التي تعرّضت لعمليات تدمير ممنهجة.

ومن الأهداف أيضاً أداء دور تعريفي لدى الجيل الجديد الذي وصل إلى مرحلة الدراسة الجامعية وهو يجهل الكثير عن حكاية الاحتلال في المرحلة التي سبقت نشوء المقاومة بشكلها المعروف، وهو ما يحاول المتحف تقديمه من خلال "إنفوغراف" وخرائط تعريفية تشرح مخاطر الاحتلال واعتداءاته منذ العام 1948، ومرحلة إنشاء الشريط الحدودي في ثمانينات القرن الماضي.

"أرشيف صوتي" وأشياء أخرى.. مجالات أوسع بعد العدوان الأخير

وعن مجالات العمل في المرحلة المقبلة، وبعد انتهاء عدوان العام 2024، تلفت رمال إلى أن في طليعتها استكمال العمل على جمع الأرشيفات الشخصية التي تتضمن وثائق إما عن الاحتلال أو عن المقاومة، مع العائلات التي لم تتضرر منازلها في هذه الحرب في مناطق جغرافية محددة: الجنوب، البقاع الغربي، بعلبك، الهرمل، الضاحية الجنوبية، وبيروت الغربية.

ويضاف إلى ذلك كله جمع الأرشيف الورقي والإلكتروني الذي راكمته العائلات أثناء هذه الحرب من مذكرات ويوميات ومدونات وخواطر ورسومات لأطفال أو لفنانين وصور فوتوغرافية، بالإضافة إلى رسائل المقاومين التي تركوها في المنازل التي اضطروا للدخول إليها أثناء المعركة.

وكذلك، تشمل مجالات عمل "وثاقية" ما ذكر أعلاه بشأن بناء "أرشيف صوتي" لحكايات العائدين إلى ديارهم والذين صمدوا في قراهم ومدنهم.

6 عناوين ل ـ6 حكايات.. ماذا تحمل؟

وتقسم رمال الفئات الموضوعية التي ستعمل عليها في جمع الذاكرة تحت 6 عناوين مختلفة لكل منها مشروع منفصل، وأولها مشروع "حكاية وثيقة" المتعلق بقصص الوثائق التي يتم جمعها من المنازل التي لم تتعرّض للتدمير.

أما المشروع الثاني فهو "ما بقي الزيتون"، ويتعلق بقصص العائلات التي صمدت في قراها ومدنها، وكذلك الأفراد.

ويحمل المشروع الثالث اسم "قربان" ويتعلق بالناجين من المجازر الجماعية، أما المشروع الرابع فهو "منازل بروح واحدة" ويحكي قصص المنازل المدمرة، بالإضافة إلى مشروع "ميثاق" المتعلق بالمسعفين والطواقم الطبية التي صمدت في القرى المستهدف، بينما يحكي المشروع الأخير "نحبّ البلاد" قصص النزوح والعودة، خصوصاً عند العائلات التي نزحت أكثر من مرة واحدة.

السياسات المعتمدة.. على ماذا يتركز جهد "وثاقية"؟

وعن السياسات المعتمدة في اختيار القصص، تخبرنا رمال أن التركيز هو على القصص التي تتضمن كثافة في الأحداث والتي تظهر همجية الاحتلال ومعاناة النازحين والصامدين، وعلى العينات التي تسمح بنشر قصصها (صوت – تدوين)، وعلى العينات التي تشهد أحداث الحرب للمرة الأولى، مع الإشارة إلى استبعاد قصص شهداء المقاومة لتجنب أي تداخل مع عمل مؤسسات أخرى مثل مؤسسة حفظ آثار الشهداء "أحياء" التي تعمل على جمع هذه القصص.

كما أشارت رمال في حديثها معنا إلى أن مقاربة قصص المقاومين الذين شاركوا في المعارك البرية تتم حصراً من خلال ذاكرة الناس الذين صمدوا أو عادوا إلى قراهم.

وتؤكد رمال أن مشروعها عبارة عن مبادرة فردية قائمة بالكامل على التمويل الذاتي، ولا مرجعية أو اتجاهات حزبية محددة لها، مشيرةً إلى أن المشروع معني بحفظ إرث كل الحركات والأحزاب والجهات التي شاركت في العمل المقاوم في لبنان عبر الأزمنة المختلفة، من وثائق وإصدارات. 

إهداء إلى روح الشهيد أحمد بزي

وتهدي رمال مشروعها بكامله، والمتحف الذي جرى افتتاحه، وكل جهد بذل فيهما، إلى روح شهيد الإعلام والثقافة والأدب أحمد بزي، الذي تزامن إعلان استشهاده رسمياً مع افتتاح "وثاقية"، في مفارقة بالغة الدلالة، بعد شهرين من فقدان أثره أثناء المواجهات مع جيش الاحتلال في قرى الحافة الأمامية، وهو الذي كان مهتماً جداً بهذا العالم وبرواية قصة المقاومة بكافة الأشكال الممكنة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك