أسئلة في صناعة الإنسان المثقف

من أهم أهداف الثقافة والمثقفين، عملية الانتقال من اللفظ المنمّق إلى الجوهر العملي في ساحة التطبيق، وهذا من شأنه توسيع الثقافة الأفقية بين الناس.

  • "مجموعة مثقفين" للفنان جيانكارلو فيتالي (2015)

من الصعب تحديد حقل دقيق معيّن لا تعالجه الثقافة، وهو حقل متداخل الاختصاصات ترفده الدراسات الفكرية، والنفسية، والفلسفية، وكذلك الذكاء الاصطناعي راهناً. فكيف ترتبط الأبعاد البارزة لحرية الإنسان بالثقافة التي يعيش فيها وينتجها؟ وهل يمكن القول إنّ هذه الأبعاد مطبوعة بطريقة أو بأخرى بالثقافة؟ 

أعتقد أنه ينبغي الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب، وسيصبح هذا الاستنتاج واضحاً إذا ما نظرنا إلى الحلول المختلفة لمشكلة الحرية باعتبارها انعكاساً لخصوصيات فرعَي الثقافة، الفكري والروحي.

من الأهمية التأكيد أن مشاكل الثقافة والمثقفين في بلادنا العربية هي مشاكل واقعيّة خصوصاً في هذه المرحلة حيث الانهيارات في كل مكان، وحيث إن مشكلة الثقافة، وخصوصيتها، وارتباطها بالحرية قد أزيلت مع هذه المرحلة، فهي لا تفتح آفاق تفسير مناسب لعملية خلق الإنسان للثقافة، ولا لمشكلة الحرية الإبداعية ما دامت "مقتلة" المثقف اليومية مستمرة في مجتمع الهلال السوري الخصيب. 

تنظر الفلسفة إلى الثقافة الإنسانية كشيء موحّد، وكنوع من التكامل، وتتحدث عن الثقافة على هذا النحو. لكن هذه الوحدة الثقافية تمثل وحدة التنوع لا فقط من حيث المحتوى، بل أيضاً من حيث البنية، ولها العديد من التدرّجات الداخلية بناء على الخصائص القومية والاجتماعية وأشكال وأنواع الثقافة وغيرها. 

وقبل الدخول في قراءة دور الثقافة والمثقفين علينا الإشارة إلى خطورة ظاهرة التنظير والتثقيف العمودي على حساب الأفقي في مجتمعنا. ولكن ما هي الخطوات العملية التي يمكن أن تنهض بأكثرية الناس، وترتفع بمستوى تفكيرهم وثقافتهم، وكيف نجعل الشريحة الواسعة من المواطنين مثقفين، فاعلين، محوريين؟ 

هذه الأسئلة لا بد من الإجابة عنها، كي لا تبقى الأمور ملتبسة، وحتى لا تزداد حالة الغموض والتيه والضياع التي يعيشها مجتمعنا اليوم. فقد أصبح المثقف بالنسبة لأغلبية الأفراد داخل المجتمع هو ذاك الشخص الذي حصل على عدة شواهد. دكتوراه أو ماجستير ،ليظل مفهوم المثقف منحصراً في ورقة مكتوبة، لا لفهم أفكار الناس واختلاف آرائهم.

لعلنا أمام أسئلة كثيرة يجري توجيهها للنموذج الثقافي الذي من المهم أن يتصدى لدوره المعروف بين شرائح المجتمع، فلا فائدة من ثقافة لا تساعد الشباب، ولا خير بمثقف أناني يحتفظ بثقافته ووعيه لنفسه، ولا يقدم شيئاً من خبراته وتجاربه للآخرين وإلّا ستبقى أسئلته خالية من المعنى، ولا تُنتِجُ أنانيته وعدم الاعتراف بالآخر سوى التّفاهة.  

من الأسئلة التي تُطرح دائماً: لماذا يوجد اهتمام كبير بالثقافة النخبوية العمودية؟ ولماذا معظم الكتاب يسعون لنشر هذه الثقافة؟ وهل هذا يدل من خلال المعطيات التي يطرحها واقعنا الثقافي أن هناك انتشاراً للثقافة العمودية على حساب الثقافة الأفقية؟ ولماذا لا يضع المعنيون والمهتمون وأصحاب الشأن الخطط التي تكفل انتشار الثقافة الأفقية بلا عوائق؟ ولماذا لا يصل الوعي إلى الشريحة الواسعة من الناس، ولا تصل إليهم العمليات التثقيفية الأفقية المطلوبة؟

***

مع اشتداد الغموض والضبابية التي تلف حاضر ومستقبل الهلال السوري الخصيب، تزداد الحاجة إلى المثقف الرائد أو النموذج، لهذا يبحث المواطنون في الغالب عن الفرصة التي يعثرون فيها على إشارة للإنقاذ، كي يهتدوا بها، ويخرجوا من حالة الغرق في الفوضى والعبور إلى شاطئ الأمان والاستقرار.

هذه القضايا والأهداف تحتاج إلى نموذج يجسدها ويدل الشباب وغيرهم عليها، ولا بد أن يتصدر ذلك النموذج المثقف الواعي لمسؤوليته اليوم وغداً، فالناس جميعاً يعيشون إرهاصات التحول الهائل والصادم في حياتهم التي تواجه سيول التغيير الجارفة، "والمثقف يموت حينما يتخلى عن قضايا مجتمعه وعصره، لينغمس كلياً في ممارسة الحياة"، كما يقول الفيلسوف الإيطالي؛ أنطونيو غرامشي.

إن فكرة الحرية، كانت إحدى المشاكل الأساسية للوجود الإنساني في أوروبا، والإنسان هو الكائن الوحيد على كوكب الأرض القادر على أن يكون حراً، وهو الكائن الوحيد الذي يصنع الثقافة، والوجود الإنساني هو الوجود في الثقافة، وقد عاش الإنسان في الثقافة منذ البداية، منذ ظهور الجنس البشري، فالثقافة هي التي تشكل صفاته الإنسانية وترفعه فوق الطبيعة. 

أما الفلسفة فتسمى الوعي الذاتي بالثقافة، لكن الفلسفة بشكل عام لم تفهم جوهر الثقافة ومعناها ودورها ومكانتها في حياة الإنسان والمجتمع إلا مؤخراً؛ ومنذ بضعة قرون فحسب، وخلال عصر التنوير، دخل مفهوم الثقافة ذاته حيز الاستخدام، وصار الوعي بأن النشاط الإنتاجي الإبداعي للإنسان، الذي يهدف إلى تشكيل عالم الثقافة، يتغلغل بشكل متزايد في الفلسفة، التي كانت مشبعة بأفكار عصر النهضة والإصلاح ومفكري القرن الــ 17.

لقد جرى تأكيد عدم انفصال الحرية عن الثقافة، والثقافة باعتبارها التجسيد الموضوعي للحرية هي فكرة رائعة وعميقة، وفي نهاية المطاف، أسس الإبداع البشري تكمن إما في الإله أو في الطبيعة.

***

إن أهمية الدور التثقيفي الذي يجب أن تتصدى له المنظمات الثقافية المدنية، وإمكانية أن تشارك بفاعلية عالية في توسيع ونشر الثقافة بين جميع أفراد المجتمع الواحد، حتى يتوفر لنا مجتمع مثقف واعٍ يفهم ويحلل ويستنتج ويكون قادراً على مواكبة التطورات السريعة الهائلة على المستويين، الإقليمي والدولي. ولعلنا هنا نسترجع كيف أسهم الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، في تحرير المثقفين العرب من الماركسية الدوغمائية، كما من صرامة العقلانية البنيوية.

إن من أهم أهداف الثقافة والمثقفين، عملية الانتقال من اللفظ المنمّق إلى الجوهر العملي في ساحة التطبيق، وهذا من شأنه توسيع الثقافة الأفقية بين الناس، فالمثقف القائم على الأفكار وحدها، والذي يرتكز على الألفاظ وحدها، والذي يركز على الظاهري بدلاً عن الداخلي الجوهري، لا يمكن أن يُسهم في توسيع رقعة الثقافة لتتمدد وتشمل أولئك الذين لم تتوفر لهم فرص التعليم والتثقيف وفاتهم قطار الثقافة.

كيف يمكن أن تتم عملية هذا الانتقال من الشكلي الثقافي إلى الجوهري، ومن ترويج المظهر على المضمون؟

 هناك خطوات على الشباب الناهض تأكيدها، كالتركيز على الثقافة التفاعلية المتجانسة والمتفاعلة في بوتقة واحدة. وصناعة المثقف الذي يكون قادراً على صنع ثقافة سلوكية اجتماعية تشمل المجتمع كله. والسعي لدفع أكبر عدد أو نسبة من الشريحة المهمشة، إلى ساحة الثقافة التفاعلية. وتوفير الفرص الفعلية لتطوير الثقافة الأفقية بين الشباب بشكل فعلي.

إن الثقافة كما يفهمها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ليست مجرد عنصر (براني) مفارق للذات الإنسانية، كعناصر الطقس والمناخ مثلاً، وإنما هي عنصـر (جواني) متغلغل في عمق الذات المجتمعية، وتتجلى تأثيراتها في كل المواقف الإنسانية التي يعيشها الفرد/ المجتمع، وإن الثقافة بهذا المعنى ليست مجرد فضاء يعيش فيه الإنسان، بقدر ما هي حقيقة تحيا في الإنسان وتوجه سلوكه حيثما وُجد. 

اخترنا لك