إداورد سعيد: كيف يواجه المثقف السلطة؟

أراد إدوارد سعيد من هذه المحاضرات أن يتحدث عن المثقف أو المفكر كونه شخصية يصعب التكهن فيما سوف تقوم به في الحياة العامة ويستحيل "تلخيصها" في شعر محدّد، أو في اتجاه آخر حزبي "معتقد" أو "مذهب فكري جامد ثابت".

  • كتاب
    كتاب "المثقف والسلطة" لإدوارد سعيد 

لا تزال كلمة مثقف كلمة ضبابية المعنى في المعنى العربي. فقد توازي المتصل بالثقافة بمعناها الحديث، وأول من أدخل هذا المصطلح في العربية كان المفكر المصري سلامة موسى (1887-1958) بترجمة كلمة culture الألمانية ومرادفاتها باللغة الأوروبية الحديثة، والأصل فيها هو الزرع والتنمية. وهو المعنى الشائع عند كثير من الكتاب الأوروبيين. والدلالة التي تنصرف إلى التعليم الذي يتولّى "تنمية" القدرات الذهنية، (والنفسية، والخلقية). وكلمة مثقف تعني بالإنكليزية "المفكر"، ومن المهمّات المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط مهما كانت.

 عندما قدم إدوارد سعيد محاضرات ريث لعام 1993، ضمن برنامج تقدّمه هيئة الإذاعة البريطانية BBC، التي لم تكن لتذيعه كونه برنامجاً يتمتع بمباركة الدولة، بل لأن هذه المحاضرات فرصة تقنع المستمعين والمشاهدين بمادة علمية جادة بالغة التنوع كثيراً، وتتسم بامتيازها وبراعتها، ارتفعت أصوات كثيرة تندد بانتقاء إدوارد لإلقاء هذه المحاضرات، كونه من المناضلين النشطين في سبيل الحقوق الفلسطينية، لأن الإنسان الفلسطيني مرادف للعنف والتعصب، وقتل اليهود، ولأن كتاباته تركز على فكرة أن الغرب مسؤول عن جميع الشرور في العالم الثالث.

أراد إدوارد سعيد من هذه المحاضرات أن يتحدث عن المثقف أو المفكر كونه شخصية يصعب التكهن فيما سوف تقوم به في الحياة العامة ويستحيل "تلخيصها" في شعر محدّد، أو في اتجاه آخر حزبي "معتقد" أو "مذهب فكري جامد ثابت". وحاول فيها أن يقول إنه يجب أن نحدد معيار الصدق أو معيار واقع الشقاء البشري والظلم البشري، وأن نستمسك بها مهما يكن الانتماء الحزبي للمثقف أو المفكر الفرد. ومهما تكن خلفيته القومية، ومهما تكن نوازع ولائه القطري. وفي منظوره، لا يشوه أداء المثقف أو المفكر في الحياة العامة شيء أكثر مما يشوّهه "التشذيب والتهذيب"، أو اللجوء إلى الصمت حين يقتضيه الحرص، أو الانفعالات الوطنية، أو الردة أو النكوص بعد حين مع تضخيم صورة ذاته. 

إقرأ أيضاً: "أماكن الفكر" .. سيرة فكرية لإدوارد سعيد

يرى إدوارد أن المثقف هو من لديه أفكار يعبّر عنها لغيره، أي لـ"الجمهور" في محاضرة أو حديث أو مقال أو كتاب، ويؤكّد ضرورة تمسك المثقف بقيم مثل الحرية "العدالة" له ولغيره، على حد سواء. وعدم قبوله الحلول الوسط فيما يتعلق بهذه القيم، وخصوصاً حين يحسّ بأنّه ما دام أقدم على الكتابة أو على مخاطبة جمهور ما، فلقد أصبح يشارك في "الحياة العامة" ( كما يسميها)، وأصبح "يمثل" غيره ممن لا يمثلهم أحد في دوائر السلطة.

 في فصل قول الحقيقة للسلطة يقول إدوارد سعيد: يقع على المثقف عبء تمثيل العامة في مقاومة أشكال هذه السلطة جميعاً. لا يدفعه إلا ما يؤمن به من قيم ومبادئ إنسانية عامة لا حزبية ضيقة، أو فئوية متعصبة، أو مذهبية متجمدة، ويصرّ على أن ينهض في هذه الحالة بدور الهاوي لا المحترف، أي الذي يصدر في أفعاله عن حب لما يفعل، لا من يخدم غيره، أو يعبد "أرباباً" زائفة سرعان ما تخذل عُبّادها.

فمهمة المثقف تتطلب اليقظة والاهتمام والانتباه على الدوام، ورفض الانسياق وراء الحقائق أو الأفكار الشائعة باستمرار، ومن أجل ذلك يستلزم طاقة عقلانية فائقة وكفاحاً معقداً للحفاظ على التوازن بين مشكلات الذات عند الفرد ومتطلبات النشر والإفصاح عن الرأي، وذلك هو الذي يجعل منه جهداً دائماً متواصلاً.

 وفي فصل صور تمثيل المثقف يحكي لنا إدوارد عن الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، وكيف ينظر إلى المثقف العالمي، عندما تطرق إلى عالم الفيزياء الأميركي روبرت أوبنهايمر الذي انتقل إلى خارج مجال تخصصه عندما تولى مشروع تنظيم القنبلة الذرية في لوس آلاموس، وبعدها تولى إدارة الشؤون العلمية في الولايات المتحدة الأميركية. وتطرّق في الوقت ذاته إلى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عندما عارض وجود فرنسا في الجزائر وفيتنام.

إقرأ أيضاً: رؤية إدوارد سعيد للصراع العربي - الصهيوني

 يتناول الكاتب أيضاً دراسة بعنوان خيانة المثقفين، كانت الأجيال تناقلتها كونها هجوماً لاذعاً على المثقفين الذين يتحولون عن رسالتهم ويفرّطون في مبادئهم أكثر من كونها تحليلاً علمياً للحياة الثقافية. ويرى أن هناك مثقفين حقيقيين كسقراط وكسبينوزا وفولتير وأرنست رينان، ويعرّف هؤلاء بأنهم المثقفون الحقيقيون، ويشكلون طبقة العلماء أو المتعلمين بالغي الندرة حقاً، لأن ما يبادرون به هو المعايير الخالدة للحق والعدل، وهي التي لا تنتمي إلى هذه الدنيا، وهذا هو الذي دعا إليه بيندا لأن يستخدم المصطلح بالفرنسي للعلماء بالإشارة اليهم. 

 فالمثقف هو شخص يخاطر في كيانه كله باتخاذ موقعه الحساس، ولا يقتصر رفض المثقف أو المفكر على الرفض السلبي، بل يتضمن الاستعداد لإعلان رفضه على الملأ. وليس عليه فقط انتقاد السياسات الحكومية، بل تتطلب مهمته الانتباه واليقظة على الدوام ورفض الانسياق وراء الحقائق أو الأفكار الشائعة باستمرار.

 يفرّق إدوارد في فصل "منفى المثقفين: المغتربون والهامشيون - محترفون وهواة" بين المثقف الهاوي والمثقف المحترف، ويستند في ذلك إلى أن المحترف يزعم الابتعاد والانفصال بسبب مهنته، ويزعم الموضوعية، لكنّ الهاوي لا تحفزه مكافأة أو فائدة ولا يجوز تحقيق الأهداف المباشرة لحياته العملية، بل يدفعه إلى الاشتباك الملتزم بالأفكار والقيم في الحياة العامة.

في فصل استبعاد الأمم والتقاليد، يقول إدوارد إن المثقفين الفرنسيين تتباين صورتهم، على سبيل المثال تماماً من حيث التاريخ، عن نظرائهم الصينيين. وكذلك هم المثقفون أو المفكرون الأفريقيون أو المفكرون العرب. فكل منهم ينتمي إلى سياق تاريخي بالغ الخصوصية. والمثقفون الحقيقيون هم الذين لا يُمثّل جوهر نشاطهم في محاولة تحقيق أهداف عملية، أي جميع الذين ينشدون المتعة في ممارسة أحد الفنون أو العلوم أو التـأملات الميتافيزيقية، وباختصار في السطو على مزايا غير مادية، ثم يستطيع كل منهم أن يقول إن مملكتي لا تنتمي إلى هذه الدنيا".

 ولم أجد أرقى من تعريف جوليان بندا للمثقفين، وذلك كونهم "عصبة ضئيلة من الملوك الفلاسفة من ذوي المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة الذين يشكلون ضمير البشرية".

إدوارد، الذي شغل على مدى أربعة عشر عاماً موقع العضو المستقل في البرلمان الفلسطيني المنفي، وهو المجلس الوطني الفلسطيني، يرى أن المحاور التي تؤدي دوراً مهماً في تناوله للمثقف أو المفكر، هو محاولة التمسك بمعيار عالمي أوحد أو بالأحرى محور التفاعل بين العالمي والمحلي، أو بين العام والعالمي، وبين الذاتي والآني والحاضر.

إقرا أيضاً: "خيانة المُثقّفين – النصوص الأخيرة" لإدوارد سعيد

 بعد قراءتي للكتاب وقعت على إعجاب كل كلمة، وودتُ أن أقولها، ونظرت إلى نفسي كأنني أريد أن ارسل نبضي الذي يكلله الحب لما طرحه إدوارد في هذا الكتاب الثري ورفيع المستوى، وكدت أضعه في مصاف كتاب الأمير لمكيافيللي، وكيف لا، وإدوارد يمثل صور المثقف كلها التي طرحها وأثار استقطابنا لها. إنه المثقف الفاضل الذي نحلم به ونتمنى أن يحذو حذوه كل من يؤمن بأن المثقف يهب نفسه للحقيقة الفاضلة. 

موضوعات الكتاب أربعة: صور تمثيل المثقف؛ استبعاد الأمم والتقاليد؛ منفى المثقفين: المغتربون والهامشيون - محترفون وهواة؛ قول الحقيقة للسلطة – أرباب دائبة الخذلان. 

 وأخيراً أختم بمقولة للمفكر الكبير سلامة موسى، وكيف ينظر إلى الإنسان المثقف وأهميته في خلق عصور جديدة للبشرية: إن الفلاسفة والأدباء يؤدون وظيفة النبي نفسها، فهم يطوّرون الفضائل في المجتمع، بل يوجدون قيماً بديلة من القيم الدينية، تكون غايتها ترقية البشر نحو عصر جديد.

اخترنا لك