الخوف على الثقافة السورية أم الخوف منها؟
كيف يمكن للثقافة والمثقّفين أن يكونوا شركاء في المرحلة الانتقالية التي تشهدها سوريا اليوم؟ وما المبرّر لعدم الاستعانة بالمثقّفين والمفكّرين السوريّين في ترسيخ دعائم المرحلة الحالية؟
لطالما كان للثقافة مساهماتها الكبيرة في المحافظة على المكتسبات الوطنية، ولاسيما في زمن التحولات السياسية الكبيرة، إذ إنها الأقدر على تحقيق التلاقي وإيضاح المواقف والتعريف بالنفس والآخر، من دون فذلكات الأيديولوجيا وتعقيدات السياسة وإرباكاتها.
من هنا يأتي الاستغراب في الحالة السورية الجديدة بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024،ومفاده لماذا يتم تهميش الثقافة إلى هذا الحد؟ وما المبرر لعدم الاستعانة بالمثقفين والمفكرين السوريين في ترسيخ دعائم المرحلة الحالية؟ ثم لماذا تم تعليق عمل مؤسسات وزارة الثقافة من "دار الأوبرا" و"مسرح القباني" و"الحمراء" و"الهيئة العامة السورية للكتاب"؟
تتعدَّد التَّكهُّنات والتفسيرات، بين من يرى أن هناك خوفاً من الثقافة بعيداً عن فهم قدرتها في خدمة العديد من الجوانب الحياتية والسياسية والاجتماعية والتنموية، وضرورتها لتجاوز التحديات الحالية، أو من يعتقد أن هناك خشية من المثقفين أنفسهم وممارساتهم القادرة على قلب الطاولة أمام السلطة الجديدة، فكرياً على الأقل.
في حين أن ثمة من يقول إن من المهم الآن إيلاء الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأولوية، وفيما بعد يأتي دور الثقافة بقيمها ومُثُلها العليا. لكن في المحصلة، نتيجة قراءة بسيطة للواقع الجديد، نرى أنه بات لدى الكثيرين خوف على الثقافة السورية، بسبب تهميشها وعدم تفعيل دورها في تنمية الوعي الجماعي وإزالة الضبابية التي تحيط بأجندة أصحاب القرار بالرغم من أهمية الثقافة العظمى في ذلك، إلى جانب دورها في تغيير الإنسان عبر تغيير أفكاره.
ضرورة التقاط الفرصة
في هذا السياق، يرى الشاعر والصحافي السوري، أوس أسعد، في مقابلة مع "الميادين الثقافية"، أن الثقافة تعني الحضارة والتحضر عموماً، أي نضج المجتمعات والأفراد ذاتياً وموضوعياً لتغليب لغة العقل والحوار والجدل لإنتاج المفاهيم الجديدة التي لا تركن إلى ثبات الأفكار الموروثة لتغدو طوطماً أو تابو جديداً. لذا يعتقد أنه إذا تقلصت المسافة بين مفهوم الثقافة كمنتج فوقي مفروض من الأعلى يجب تنفيذه من قبل التحت وكفى، أو منتج تحتي يشرعه الفوق ويقوننه، فإننا نصل إلى تقاطعات جيدة يمكن البناء عليها وهذا يحدث حين تكون المجتمعات قد قطعت أشواطاً في وعي وجودها وذاتها وهويتها ومواطنيتها حيث الكفاءات هي من يحدد كل شيء.
ويقول: "ثمة مشكلات كثيرة تعيق ظهور ثقافة حقيقية، فنحن ما زلنا نئن تحت أنقاض سلطة البوط العسكري وموروثاتها في الوعي واللاوعي الجمعي والشخصي، وهذا يلخصه قول ذاك الرمز السلطوي المأفون الذي قال يوماً: كلما سمعت كلمة ثقافة أتحسس مسدسي. فهذه اللغة هي لغة فرض ثقافة الأمر الواقع والإقصاء والتهميش للآخر. ونحن تربة جاهزة لإعادة إنتاج ذلك عبر عملية إعادة تدوير النفايات. ونأمل ألا يحدث ذلك مع تغير المشهد السوري الحالي".
ويضيف أسعد: "بما أن سلطة القوة كرمزية عسكرية سقطت شكلياً على الأقل، فإننا نراها فرصة سانحة لالتقاط النفس والدعوة إلى حوار بين جميع شرائح المجتمع ونخبه المثقفة لصياغة مفاهيم ثقافية جديدة تواكب مستجدات العصر الهائلة التغير والتطور بكل المجالات وتكريس مفهوم: رأي غيري صحيح فيه نسبة من الخطأ ورأيي خاطئ فيه نسبة من الصح. حينها سنصل إلى تقاطعات يمكن البناء عليها، وهذا يتطلب أن نتدرب على الحوار جميعاً، لأننا لا نتقن لغة الإصغاء للآخر مهما ادعينا عكس ذلك. وجميعنا مطلوب منه التدرب على ذلك علمانيين وسلفيين، أو سنخرج كلنا من التاريخ مجدداً كما أعتقد".
ويرى أسعد: "نحن الآن نعيش في مفصل تاريخي مهم، وقد غدت سلطة الإسلام السياسي أمراً واقعاً بحكم تطورات الظرف الموضوعي في ظل غياب التيارات الفكرية الأخرى عن المشهد حتى الآن، والتي هي بقايا فكر هجين ومسحوق تشهده تحولات مثقفنا وزئبقيته وتمزقه كانعكاس لتمزق البيئة التي أنتجته. فإننا مدعوون لإعادة تأهيله وتأهيل أنفسنا جميعاً بعد أن سقط الرعب ورمزيته، فلنُعلِّم أنفسنا على مفاهيم الحرية ولا نسرع مجدداً في إنتاج طواغيت جديدة تحولنا إلى مجرد قطيع. لذا يجب التقاط الفرصة من قبل المفكرين والعلمانيين ودعاة المجتمع المدني، والمشاركة الواسعة في كل شيء من دون تهيب ورفع الصوت عالياً من دون خوف".
ويدعو أسعد إلى "نزع عباءة الرعب الداخلية وأن نكرس التعددية والتسامح وإلغاء لغة التطييف بلبوساتها المختلفة، واقعاً وسلوكاً لا تنظيراً وكلاماً فارغاً، فالعصر ومفرداته الجديدة يساعدان على ذلك بقوة إذا استثمرنا اللحظة التاريخية ومنعنا سرقتها من جانب القوى المضادة في الداخل والخارج".
ويضيف: "يجب النضال لبناء دولة وثقافة المواطنة عبر وعي الواجبات والحقوق، والمساهمة في صياغة دستور يحمي حقوق الجميع بوعي عصري يشارك فيه الجميع عبر استفتاء عام يتوافق فيه الجميع على رمزية العلم ومفاهيم العيش المشترك تحت عباءة القانون المطبق على الجميع بمساواة وعدالة. وإلا فإنني أخشى على الثقافة وأخاف عليها إذا ما تركت الساحة للتيارات السلفية أن تصول وتجول وتملأ الفراغ الواسع الذي نعيشه على جميع الأصعدة فهم قد جددوا شبابهم، فلتجدد شبابها تلك القوى الداعية لعدم عسكرة البلاد ثانية، ولتطرح بدائلها للمجتمع المدني الحقيقي، مجتمع الحقوق والواجبات واحترام المواطنة للجميع بحسب الكفاءات والفاعلية في بناء المجتمع، وإلا فالقلق مشرعة نوافذه على العراء، وثمة كثيرون في الداخل والخارج ينتظرون فرصتهم للانقضاض لإعادة الأمور إلى الوراء دوماً، وبذلك نكون مرتهنين كما العادة للبدايات المجهضة كما قال يوماً المفكر الراحل أنطون مقدسي".
الثقافة كالخديج
من جهتها، تنظر الكاتبة السورية، فدوى العبود، إلى الثقافة بصفتها لا تنفصل عن المثقف الذي "يبدو كنبتة غريبة في هذه الأرض، في حين أن الثقافة باتت الآن كالخديج، أمامها تحديات كثيرة، وحالها مُحيِّرة، ولاسيما أنها كانت تفتقر إلى الحرية ومساحة القول فيها ضيقة جداً، والآن وجدت نفسها في إطار أرحب بعيداً عن التسميم الذي كان يصيبها".
لكن العبود تتساءل: "هل هناك وضوح؟"، وتجيب في حديثها مع "الميادين الثقافية": "لا أعتقد ولا أستطيع التكهن، لكن ما أنا واثقة منه الآن أن وجهة الثقافة وبوصلتها ستتغير. ومع أني متفائلة بأنها خرجت من إطار ضيق إلى فضاء أوسع – لا أعرف إلى متى سيدوم - إلا أنها من وجهة نظري ستبقى مشروعاً فرديّاً، ورهاناً دونكيشوتياً أشبه بمحاربة طواحين الهواء، ولكنها تحتاج إلى إيمان".
وتضيف العبود: "ربما تتاح للمثقف حرية القول والكتابة، ليبقى السؤال الذي يطرح نفسه إلى أي مدى سيتاح له أن يكون حاضراً وفعّالاً. لقد نقل المثقف الغربي أوروبا من حال إلى حال وكان الشك الديكارتي أول مسمار في نعش الفكر الغيبي. كما أن الحرية لم تكن سوى مجموعة لا تنفصل من الصدق مع الذات والوعي واحترام الآخر، ولكن في مثل حالنا كم من ديكارت سنحتاج؟ تشهد الإنسانية عموماً انتكاسة عظيمة تمثلت في الميديا والتوحش المدني الحديث الذي نراه ونلمسه. وسوريا الجديدة ليست بعيدة عما يحدث في العالم، والمثقف السوري كان بإمكانه أن ينظر يميناً وشمالاً وللسماء، ولكن لم يكن يسمح له بأن ينظر إلى رأس ميدوزا - إلى الحقيقة إلا مواربة - والآن: "أنظر في عيني" (تقول له الحياة ويخبره الواقع)، ومن خلاله يعرف حجمه الحقيقي وهذه المعرفة لا تمنحه سوى الشعور بعبث ولا جدوى كل شيء. والآن نحن وجهاً لوجه أمام واقعنا، الذي كشف عن ريبة وشك وقلق وحرية هشة، كل هذا يشكل أرضاً خصبة للمثقف للعمل عليها، لكنه يشكل في المقابل مستنقعاً يمكن أن يغرق فيه. ما أعرفه من خلال تجربتي ورؤيتي للثقافة أن عليه أن يكون مستعداً كالمزارع لموجات الصقيع أو تساقط البرد أو أي طارئ يخرب الزرع ويتلف المحصول".
الخوف من المجهول وضرورة طمأنة المثقف
أما الروائي والمسرحي السوري، محمد الحفري، فيسشتهد بكلمات للشاعر نزيه أبو عفش التي رددها مع بداية الحرب في سوريا "آه أيها القادم لنجدتي لو تعلم كم أنا خائف منك".
ويوضح في مقابلة مع "الميادين الثقافية" أن "ذلك الخوف هو بالتأكيد ناتج عن المجهول، خاصةً أن كلمة ثقافة كانت تدفع بالحزن ليطفو فوق أعماق الروح في الأعوام المنصرمة، والسبب في ذلك يعود إلى أن تلك الكلمة كانت مقيدة وأعني ذلك حرفياً، لأن صاحب تلك الكلمة قد يدفع ثمنها غالياً، وقد يصل ذلك الثمن إلى حياته التي قد يفقدها وهو يتلقى العقاب من الجلاوزة (الشرطة) التي لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلوبهم، وقد أثبت فتح السجون بالدليل القاطع تلك الممارسات القذرة التي ارتُكبت بحق الناس وخاصة أصحاب الكلمة الذين جاهروا بآرائهم علانية، وهذا دفع بالخوف كي يكون متسيداً على رقاب الجميع، وربما هذا ما يجعلني أتمثل مقولة الكاتب فوزات رزق حين سئل: ممَّ يخاف الناس؟ فأجاب: يخاف الناس ممن يشرب مياههم ويترك لهم الكدر، وممن يحتل طريقهم ويلجئهم إلى الوعر، وممن يأكل عنبهم ويترك لهم ما تركه الدبور".
ويضيف الحفري: "نلاحظ أن الخوف تشعب ولامس مفاصل حياتنا وسَطَا حتى على تفصيلاتها الصغيرة، ولعل القلق يراود الآن كثيراً من المثقفين بسبب الخوف من التقسيم، أو وقوع البلاد تحت محتل جديد، أو الحرب الأهلية، أو القتال الذي يمكن أن يتجدد، وغيرها الكثير من المخاوف. ولذلك فالمثقفون، كما غيرهم، بحاجة إلى الكثير من التطمينات من أجل التخلص مما ينتابهم ويعتريهم من مشاعر. وكي لا أجعل من نفسي شخصية مستثنية من منظومة الخوف أقول إنني كنت أعيش في دوامته، وفي معمعة الرعب، وكنت أردد دائماً أن الكاتب الذكي هو من يعرف كيف يمر بنصه من بين حقول الألغام التي قد تودي به إلى التهلكة، وعن نفسي شخصياً أقول أيضاً إنني فعلت ذلك في أكثر من عمل روائي ومسرحي".
ويقول الحفري: "كانت لدينا وزارة ثقافة تشرف على المنتج الإبداعي والكلمة، وقد اشتغَلَتْ ضمن ضابط الخوف، وهذا ما دفعها للحذف والرفض وصولاً إلى الإقصاء واستبعاد بعض الشخصيات، وكلامي هذا لا يعني التبرير أبداً، وخاصة أنه قد رفض لي أكثر من عمل في مجال المسرح، والوقت الآن ليس لتصفية الحسابات والانتقام بل هو للتعايش والمحبة والإيمان المطلق أن هذه البلاد لكل واحد منا، ولذلك يجب تقبل الأخطاء بروح التسامح والمودة، والملاحظ أن من حل بديلاً من السلطة الهاربة لم يلتفت في تشكيلته لوجود وزارة تعنى بالثقافة، وهو لم يأت على سيرتها أصلاً، وهذا ما هو مستغرب حقيقة، فهل الثقافة مخيفة إلى درجة أنه تم تكميمها في السابق، ثم جاء من يلغي وجودها بالكامل في ما بعد؟".
قد يأتي من يقول إن هذه حكومة إنقاذ وموقتة ولا وقت للثقافة الآن وغير ذلك، وهذا الكلام أو المسوغ غير مبرر، لأن الثقافة هي من يجب أن تأتي مع هذا الإنقاذ لما للكلمة من أثر طيب في تهدئة النفوس التي عانت من الخوف أعواماً مرت طويلة وممضة ومريرة متفوقة على المرارة ذاتها.
ونحن في هذا الوقت بالذات في أمسّ الحاجة إلى من يتولى أمرها ويديره بالمحبة، وأن يتعامل بنزاهة مع الكلمة الحرة والصادقة والنابعة من الأعماق، وما هو جدير ذكره أن المثقف الحقيقي من أكثر الناس حساسية وهو المتجذر بقدميه في أرض الواقع، بينما رأسه في الحلم يعانق النجوم والغيمات المتناثرة بجمالها في الأفق البعيد، ويُفترض برجل السياسة أن يقرأ خطابه قبل فوات الأوان، وخصوصاً أنه يرى ما لا يراه غيره يلوح في تلك الأمداء الشاسعة.