بين عيدَيْن
لِكلٍّ أوجاعه يعيشها على طريقته، ولِكلٍّ الحقّ بالفرح، وابتكار غبطة لأعياده، ومواجهة الخراب العظيم في البشر والحجر برجاء نهاية عاجلة لأحزان مقيمة فينا منذ كان الكائن البشري.
يقول الحسن البصري: "ابن آدم، إنما أنت أيامٌ كلّما ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك". هكذا نحن بالفعل، كلما كبرنا سنة نقصت أعمارنا سنة، بعضنا يودّع سنته الآفلة بفرح وبهجة واحتفالات صاخبة، والبعض الآخر بعزلة وصمت، وتأمل في ما فات وما هو آت. لكل امرىء من دهره ما تعوّد.
نكتبُ بين عيديْن، ميلاد ورأس سنة، ولا تغيب عنا مشاهد الموت والدمار المحيطة بنا، وما أصاب أهلنا في غزة ولبنان، وفي كل مطارح الوجع العربي، لكننا نبحثُ عن وردة وسط هذا الركام، وعن ابتسامة طفلة تبعث فينا بعضَ أملٍ ورجاء.
ولأن العيد هو أولاً ميلاد الطفل يسوع المسيح، نفكّر خصوصاً بالأطفال الضحايا المشردين النازحين المهجرين النائمين في عراء الطبيعة، بل في عراء عجزنا عن اجتراح حلول تنهي عذاباتهم وعذابات أوطانهم، وتفتح كوّة أمل في جدران ظلم صمّاء.
لِكلٍّ أوجاعه يعيشها على طريقته، ولِكلٍّ الحقّ بالفرح، وابتكار غبطة لأعياده، ومواجهة الخراب العظيم في البشر والحجر برجاء نهاية عاجلة لأحزان مقيمة فينا منذ كان الكائن البشري. ألا تقول الأسطورة إن الخليقة افتتحت وجودها الأرضي بجريمة ارتكبها قابيل بحق أخيه هابيل، ومن يومها لا يكفّ إخوة التراب عن قتل بعضهم بعضاً؟
لو تأملنا قليلاً في تاريخ البشرية لما صُدمنا بما يحدث الآن، ثمة أنهار من الدم تملأ كتب التاريخ، كأن هذا الكوكب لا يرتوي إلا من دماء بنيه، أو كأنه مصداق قوله تعالى"وإذ قال ربُّكَ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها مَن يُفسدُ فيها ويسفك الدماء..."(البقرة،30)، كأن سفك الدماء من طبائع بني آدم وسنن الحياة الدنيا!
أليس الحنين إلى ما فات الذي يسكننا ويزداد كلما تقدمنا في العمر والتجارب نوعاً من رغبة العودة إلى فردوس مفقود؟ كأن الماضي الذي نراه دائماً أجمل ليس سوى جنّة طُردنا منها ذات خطيئة.
نعم، كل مفقود باعث على حنين واشتياق وتوق لاستعادته، غالباً ما نهمل ما يمكن استعادته أو تعويضه، تلك فطرة بشرية وسليقة، لكننا نعيش حنيناً مزمناً إلى ما لا يمكننا استرداده، لذا تبدو "طفولاتنا" أجمل ما خسرناه لأن العمر اتجاه واحد ممنوع فيه الالتفاف والعودة. هل يعني ذلك أن الماضي حقاً أجمل؟
لعلّه يبدو كذلك لأنه مضى إلى غير رجعة، إذ غالباً ما ننسى جراحه وندوبه التي تمحوها الأيام، ولا نتذكر إلا لحظاته الجميلة المُختلَسة من أشداق الحياة حتى نخالها أجمل ما عشناه.
ثمة فارق شاسع بين الحنين والماضوية، الحنين رغبةٌ في العودة، الماضوية إقامة دائمة في ما مضى، الحنين لا يمنعنا من المضي قُدماً، الماضوية تأسرنا داخل شرنقتها حائلةً دون تقدمنا الى أَمام. الشفاء من الحنين يمنحنا شعور حرية مطلقة، لكن القليل منه ضروري كي لا يغدو الإنسان مثل شجرة بلا جذور.
حتى الغجري لا يخلو من حنين ما، لعلّه متى أقام إقامة دائمة يحنّ إلى تجواله وترحاله. العلاقة بالوقت مسألة شائكة ومعقدة، هي أيضاً خلاصة ظروف ووقائع عيش تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة.
الوقت نفسه ليس مسألة ثابتة، هذه نتركها للفيزيائيين، فقط نشير إلى أننا يوم كنا صغاراً كان الوقت يمضي بطيئاً متثاقلاً حتى تغدو الساعة سنة كاملة، لما كبرنا باتت السنة تمر كأنها ساعة. إذاً، يتحرك الوقت ويتغير وفق زاوية تعاملنا معه ونظرتنا إليه.
لا نملك ونحن نودّع سنة ونفتح الباب على وجل لآخرى آتية، سوى التمسك بالأمل والإكثار من الرجاء، فلولا الأمل لضاقت فسحة العيش وخاب العمل، هذا ما ورثناه من أسلافنا، وهذا ما نحاول تربيته وفق محمود درويش.
نعرف أنه ليس أمراً هيّناً ويسيراً في عالم تكثر فيه الضغائن والأحقاد و"تتدعشن" الحروب والنزاعات، لكن النفْس تحتاج تدريباً وترويضاً للنزعات "القابيلية" فيها، كي لا يتكبّر الكائن ويتجبّر.
هنا، نستعيد كيف كان قيصر روما يحيط نفسه بكاهنيْن كلما وقف على شرفة قصره مستعرضاً جحافل جيوشه العائدة مكلّلة بالنصر. كان الكاهنان يهمسان في أذنيه: Memento mori, memento mori. أي تذكّر الموت، تذكّر الموت. وذلك كي يظل منتبهاً أنه إنسان، وأن الموت نهايته المحتومة. فلا تأخذه نشوة النصر والفوز فيدّعي ما ليس به.
ليت قادة العالم اليوم، خصوصاً أولئك المتكبّرين المتجبّرين الذين يوقدون نيران الحروب يتذكّرون الموت وأنهم من تراب وإلى تراب مهما طغوا وتجبّروا.