تعالوا إلى مطبخ التفاهة!
وجد مثقّف الأمس نفسه معزولاً مثل مريض مصاب بالجذام، لا أحد يرغب بالإنصات إليه، فالمؤثّرون الجدد، وصنّاع المحتوى، وأصحاب الفتاوى، يهيمنون على المشهد بتراجع نسبة البرامج الثقافيّة على الشاشات، والعزوف عن القراءة الجادّة، وإغلاق أبواب المكتبات.
-
(دانيال مارتن)
لا مكان لصورة المثقّف على الحائط، كما رسمها إدوارد سعيد، وأنطونيو غرامشي، وعلي حرب وآخرون. ذلك أنّ مثقّف اليوم هو ذلك الكائن الهامشي/الطحلبي/الافتراضي، الكائن الذي وجد نفسه فجأة في الفضاء العامّ عبر الحائط الأزرق بسلعة مغلّفة بالسيلوفان تتناهبها الحشود كما لو أنها كنز.
هكذا وجد مثقّف الأمس نفسه معزولاً مثل مريض مصاب بالجذام، لا أحد يرغب بالإنصات إليه، فالمؤثّرون الجدد، وصنّاع المحتوى، وأصحاب الفتاوى، يهيمنون على المشهد بتراجع نسبة البرامج الثقافيّة على الشاشات، والعزوف عن القراءة الجادّة، وإغلاق أبواب المكتبات. ذلك أنّ "العميل المعرفي" بات عاطلاً عن العمل لمصلحة مندوب المبيعات، والبضاعة هنا لا تتعلّق بأصناف الشامبو والعطور وأدوات التجميل، بل بالسلع الثقافية الجوفاء كافة.
هكذا يتفوّق "الشيف" على أيّ مثقّف من الصنف الكلاسيكي، طالما أنه يستطيع أن يطهو 18 صنفاً من الباذنجان، ويحوّل القرنبيط إلى حساء بمذاق سحري، والكبّة الحلبية إلى "رسالة الغفران"، ورواية عن الجنّ والعفاريت والسحر إلى أيقونة في قوائم الأكثر مبيعاً. مثقّف افتراضي بجناحي طاووس ومتابعون بالملايين لكلّ ما هو بلاستيكي وهشّ.
سنتجاهل نجوميّة لاعبي كرة القدم والعقود الجنونية التي يوقّعونها مع الأندية، ونذهب إلى نجوم التلفزيون، وكيف استولى الممثّلون على المشهد كاملاً، أولئك الذين أصبحوا قادة للرأي العامّ، يتحدّثون في السياسة والطبخ وكرة القدم والأدب والفلك والخوارزميات، وكأنّ الأدوار التي يؤدّونها تمثّلهم شخصياً، أو إنها من تأليفهم إلى درجة أنهم يصدّقون أنفسهم كأحفاد حقيقيّين لصلاح الدين الأيوبي أو خالد بن الوليد أو ابن رشد، أو الخنساء، وإذا بالمؤلف الأصلي يجد نفسه ضيفاً على طرف المائدة بالكاد يلعق عظماً من الذبيحة!
ولأنّ رأس المال هو جوهر العملية "الإبداعية" صار اسم المنتج يسبق اسم المخرج، واسم النجم يزيح اسم المؤلف نحو الأسفل في حلبة مصارعة للهياج الشعبي وغرائز القتل والعنف والخراب الروحي، وفقاً لتوجّهات محطات البثّ. إذ يخضع الجميع لمتطلّبات الجهة المنتجة، فيما تنجو أعمال نادرة بالمصادفة من هذا المستنقع.
هكذا تناسلت أجزاء مسلسل "باب الحارة" -على سبيل المثال- إلى بطون وأفخاذ إلى درجة أن يموت البطل ثم يعود إلى الحياة بصفقة مالية مريبة بين شركة الإنتاج ومحطات البثّ!
لا كتاب مفتوحاً اليوم سوى سيناريوات المسلسلات التلفزيونية لتسلية الجمهور العربي الذي خضع مرغماً لاستراتيجيات غامضة تمليها محطات الإنتاج الكبرى من جهة، وثقافة الكسل لدى المستهلك، من جهة ثانية، المستهلك الذي وصفه إريك فروم بأنه "الرضيع الأبدي الذي لا يكفُ عن الصياح في طلب زجاجة الرضاعة".
علينا أن نتذكّر في هذا المقام كيف منعت معظم المحطات العربية عرض مسلسل" التغريبة الفلسطينية" (تأليف وليد سيف، وإخراج حاتم علي)، ودفن هذه الأيقونة البصرية التي وثّقت تاريخ النكبة الفلسطينية بأقصى حالات الشجن في الأرشيف غير المرغوب فيه. وستشطب المحطات نفسها كلّ ما يتعلّق بثورات "الربيع العربي" سلباً أو إيجاباً، تحت بند "منتهي الصلاحية"، وفي المقابل تعتني بنسخ مشوّهة من الدراما التركية المدبلجة باختراع قصص حب مسليّة ترضي غرور أبطالها وحسب.
شهر كامل من "هياج الإوز" يعيشه الجمهور العربي باسترخاء، فيما تنطفئ أنوار الفنون الأخرى باعتبارها بضاعة غير صالحة للاستهلاك، وحده المراسل الحربي يهدينا مذبحة هنا، وقذيفة هناك، في الوقت المستقطع بين مسلسل وآخر.
لا وقت لمسلسل إبادة غزة في نسخته الثانية، فقد سبق وأنجزنا هذه الفرجة بسيناريو اعتيادي لا يستحقّ دقيقة من الاكتراث بما يحصل في هذا المسلخ الفاشي، وليس مهماً إلى أين سيهجّر الاحتلال الإسرائيلي أهالي غزة، وكيف ستنتهي محنتهم العظيمة، حيث لا رغبة لأحد بخلع البيجاما وتغيير المشهد أو الكنبة، طالما لدينا حصتنا الكاملة من وجبات القتل التي تصدّرها المسلسلات بتقنيات عالية وسينوغرافيا باذخة تتفوّق على الموت الفلسطيني بمراحل.
لا أمل إذاً، بأن يستعيد المثقّف دوره بوجود طبقة افتراضية جديدة احتلت الساحة في وضح النهار وعمّمت "مطبخ التفاهة" بوجبات مسمومة على مدار الساعة!