زيف الدعاية الأميركية في التغطية على جرائم الحرب

أقدمت آلة الثقافية الأميركية على إنتاج روايات تعارض الحقيقة والتاريخ وتقدّم صورة الحرب بشكل جديد من خلال ردّ أسباب الهزيمة في فيتنام إلى أسباب داخلية تتعلّق بالتكتيك الحربي، ودأبت على إنتاج أفلام تعزّز البطولة الفردية.

  • كتاب
    كتاب "برابرة وأبرياء – البطل الهمجيفي روايات الحرب على فيتنام"

يتحدّث كتاب "برابرة وأبرياء – البطل الهمجي في روايات الحرب على فيتنام" للكاتب صديق محمد جوهر عن النتاجات الأدبية والروائية التي غطّت أخبار الحرب الأميركية على فيتنام والتي صدرت عن كتّاب وصحافيّين ومصوّرين ومراسلين، الحرب التي استمرت اثني عشر عاماً وهي تزرع الموت والدمار مدجّجة بأحدث أنواع الأسلحة.

وقد عرض الكاتب أكثر من عشر روايات عبر عدسة رؤيته النقدية ورصده للدور الذي أدّته في هذه الحرب حيث قسّمها إلى مجموعتين؛ الأولى منها أبطالها همجيون متوحّشون يتلذّذون بالقتل والاغتصاب، ولا يعرفون معنى الرحمة ولا يشعرون بالذنب أمثال أبطال روايات: "الأحياء المجاورة" لكاتبها لاري هانيمان، رواية "أهداف" لـ دونالد إي ماكوينو، و"ضحايا الحرب" لـ دانيال لانغ في تجسيد صورةالبطل الهمجي الذي يتفننن في أساليب القتل وأفانين التعذيب والاغتصاب، حيث تسيطر النزعة السادية على الجنود وفهمهم بأنّ إنكار الحالات الوجدانية نوع من القوة والتفوّق والمنعة، هذه السادية تمكّنهم من التلذذ بالتعذيب ومهانة الغير، وهذا يتطوّر إلى خارج إطار المعركة في سحب تيار العنف إلى حياتهم العادية وعلاقاتهم.

إنّ التخلّص من العناصر المشبوهة هي التبرير المستخدم لعمليات القصف والإذلال والتهجير الذي مورس بحقّ الفيتناميّين، وخاصة عندما يمارسها غني يمتلك آخر ما قدّمته الاختراعات الحديثة من آلة التدمير والقتل تجاه آخر فقير يدافع عن أرضه، ولا سيما عندما تصبح كلّ الجبهات مستباحة لآلة الحرب من المدنيين للأطفال والنساء والعجز.

إقرأ ايضاً: تأسيس "إسرائيل" كقيام أميركا على حساب الهنود الحمر

أما المجموعة الثانية من الروايات فتضمّ أبطالها الجرحى والمناهضين للحرب ممن فرّوا من المعركة،والذين انتهوا لإدانة هذه الحروب لأنها حروب عشوائية مثلها مثل حروبهم مع الهنود الحمر والمكسيكيّين التي استندت على التفوّق العسكري،وخاصة بعد اصطدام أسطورة البراءة بالوقائع الوحشية  للحرب في فيتنام، مثل روايات "ولد في الرابع من تموز" لـ رون كوفيك، و"إشاعة حرب" لـفيليب كابوتو، ورواية "لا أبواق ولا طبول" لـ تشارلزديزدين والتي ساهمت في رصد الآثار المدمّرةللحرب على نفسية الأفراد الذين كانوا يظنون أنها أيّ الحرب من أجل نشر الديمقراطية في فيتنام وفق ما صوّرته أفلام هوليود.

ولكنّ أبطال هذه الروايات في قلب المعركة اكتشفوا زيف هذا الادّعاء ورأوا بأمّ أعينهم الوحشية المفرطة التي مارسها الجيش الأميركي وقد اكتووا من نار الحرب مرتين؛ مرة عندما كانوا مجبرين على رؤية الفظائع أمام أعينهم على أرض المعارك الفعلية،والثانية عندما عانوا من كابوس التعافي من صدمة الحرب، إذ لاحقت أحلامهم ذكريات الحرب وويلاتها.فنتيجة انتفاء السبب الأخلاقي للهجوم على الناس العزّل تمّ تقويض صورة البطل المقاتل في الصورة الموروثة السائدة وحلّت محلّها صورة البطل القاتل سفّاك الدماء، وما تلاها من تقويض أساطير الثقافة الأميركية عن الديمقراطية والحرية والعدل، ولا سيما في قصص الأفلام الأسطورية للبطل السينمائي "جون وين" عن ميلاد أميركا وانبعاثها الروحي ومعاركها ضدّ الشر.

أقدمت آلة الثقافية الأميركية على إنتاج روايات تعارض الحقيقة والتاريخ وتقدّم صورة الحرب بشكل جديد من خلال ردّ أسباب الهزيمة في فيتنام إلى أسباب داخلية تتعلّق بالتكتيك الحربي، ودأبت على إنتاج أفلام تعزّز البطولة الفردية مثل سلسلة أفلام"رامبو" للممثل الشهير سيلفيستر ستالون، بالإضافة إلى سرديات عن قصص الحب بين مقاتلين أميركيين وفتيات فيتناميات للتغطية على الهمجية العارية لتلك الحرب والتعامي عن التجارب الشخصية التي رواها شهود عيان من الجنود الذين خاضوا غمار تلك الحرب.

ويستشهد الكاتب بقول جورج بوش الأب غداة انتصار الجيش الأميركي في حرب الخليج الأولى "تخلّصنا أخيراً من العقدة الفيتنامية" في محاولة لتسويغ الاستعمار الأميركي الجديد في منطقة الخليج، لأنّ الحرب الفيتنامية نالت من أساطير الديمقراطية والبراءة والحلم الأميركي ولا سيما مع الأرقام المتزايدة لقتلى الجيش الأميركي.

أقرأ أيضاً: "النساء" لكريستين هانا: مأساة الحرب على فيتنام

إنّ مأساة فيتنام أرخت ظلالها السوداء على ضمائر وعقول الأميركيين، إذ يوضح الكاتب صديق رأي الناقدة "ميتشيكو كاكوتاني" بأنّ أفضل ما أبرزته حرب فيتنام من أدب هو الأدب البذيء المكشوف الذي يصوّر تجارب المحاربين القدامى من كتّاب وصحافيّين أو مصوّرين، رأوا بأمّ أعينهم تلك التجربة وعانوا منها سواء جسدياً أو على المستوى النفسي من خلال الأبطال الذين تجسّدوا في أعمالهم الأدبية في هجوم شامل على السياسة الأميركية التي ورّطت الشباب بالحرب الفيتنامية.  

فالروائي فيليب كابوتو في روايته "شائعة حرب" يعتبرها أيّ الحرب مطحنة للحوم البشر يمزج فيها صورتين؛ الأولى هي الحرب الأهلية بين الفيتناميين في الجنوب والشمال، والأخرى حرب التحرير من الوجود الأميركي. وقد تناول فيها أوهام البطولة الزائفة للجنود القادمين إلى فيتنام والتي لا تمّت بصلة لعالم البطولات القديمة، مفنّداً تشبيهها بالملاحم الخالدة نتيجة خداع الشباب بوهم البطولة والتفوّق كما يرونها في السينما الهوليودية، وكانت نهايتها أعطاب جسدية ونفسية كارثية في أجسامهم ونفوسهم ظهرت من خلال صوت البطل الجريح في رواية "الخونة" لـ جون برايلي، إذ يثور الجندي الأميركي على بلاده بصفتها دولة استعمارية، وضدّ الفيتناميين الجنوبيين الذين يحاربون إخوانهم،وينتقل إلى الموقع المعادي لبلاده، بل إنّ بعضهم انضمّ إلى قوات الفيتكونغ الفيتنامية من خلال تصوير حالة حوارية مع خمسة من الأسرى الأميركيين مع مجموعة الفدائيين حول لا أخلاقية هذه الحرب والطلب منهم مساعدتهم على إنقاذ أحد دعاة السلام وهو البوذي القابع في السجن.

من أكثر الأمور فظاعة أن يزجّ بفتيان في التاسعة عشرة من عمرهم في حرب كهذه، ففي "حكاية باكو" لـ لاري هايتمان عانى البطل الذي مارس وشهد ارتكابات الوحشية والاغتصاب والفظاعات من اضطرابات عقلية ونفسية جعلته يترك كلّ شيء وينزوي في مهنة غسل الأطباق بشكل دائم، مما يوحي بمحاولته العبثية في  تنظيف وتطهير نفسه مما ارتكبت يداه، فقد كان الجنود ضحية ثقافة مشحونة بالكراهية تمّ تلقينهم بها بأنّ الفيتناميين لاينتمون للبشر بالأصل ويجب تدميرهم بكلّ الوسائل،مما جعلهم يتصرّفون كوحوش في تلك الحرب مثل لعب الكرة برؤوس الفيتناميين، وتدمير المحاصيل الزراعية التي حظيت بتأييد الرئيس كينيدي تحت فكرة تجويع العدو حتى الاستسلام.

فعلى خلاف الأبطال المتوحّشين كان هناك الأبطال المناهضون للحرب الذين يشعرون بوخز الضمير من خلال خيبتهم في مشاهداتهم الحقيقية لآلة الحرب والموت الأميركية مما جعلهم يوقنون أنّ أميركا ليست بلد الديمقراطية، وتاريخها يخلو من أيّ طابع بطولي أو ملحمي مما جعلهم يعيشون حالة عدم انتماء وغربة عن محيطهم وأهلهم المشبعين برؤى مختلفة وفق الضخّ الإعلامي المسيطر، وتفاجئهم عند عودتهم بأنهم لم يلقوا الترحيب الذي يتوقّعونه مما جعلهم يعانون من صعوبة في الاندماج والتكيّف مع بيئاتهم لأنّ الناس ينظرون إليهم كقتلة.

فأبطال هذه الروايات كانوا مقتنعين أنهم يقاتلون لإشاعة الديمقراطية فقد عانوا في رواية "شائعة حرب" من وخز ضمير لما اقترفوه الأمر الذي دعاهم للمشاركة بالحركات المناهضة للحرب، كذلك وضّح الكاتب في رواية "ولد في الرابع من تموز" صورة الفشل في الحرب الفيتنامية الأميركية، مما جعل الأميركيين ينظرون بريبة إلى حكوماتهم ويشكّونبكلّ التاريخ الأميركي.

فقد أدّت أساطير البطولة الزائفة وسرديات العنف دوراً في اغتراب البطل عن محيطه ومحاولته تطهير الذات، فبعض الروايات من أمثال "الأحياءالمجاورة" و"أفضل الأوقات" و"الوادي الثالث عشر" تميط اللثام عن النوازع المخرّبة التي تحدثها العسكرية الأميركية في شخصية أفرادها.

إنّ بطل روايات الحرب على فيتنام يظهر سقوط أساطير البطولة الأميركية التي حاولوا إيهامهم بها،وخاصة تلك السادية والوحشية التي طبّقت بحقّ النساء والفتيات، فقد قوّضت كلّ المحاولات الرامية إلى تزييف الحقائق مما حدا بالناقدة "سوزان سونتاغ" للقول إنّ حرب فيتنام أشعرتها بالعار كونها أميركية، فكلّ أساطير الحذلقة الكلامية المموّهة التي استخدمها الإعلام الأميركي لم يستطع فيها أن يخفي حقيقة ما جرى من ارتكابات جسيمة بحقّ الإنسانية، كما تمّ توضيح إفلاس محتوى الهدف الديمقراطي من مضمونه الفارغ، وتبقى الجريمة كاملة الإدانة تجاه من قام بها مهما تنوّعت أساليب إخفائها ومهما حاولوا تلميع وتبرير أسبابها بقعة سوداء تجللهم بالعار مهما طال الزمن.  

اخترنا لك