صنّاع التفاهة

ها هم "صنَّاع التَّفاهة" يرتقون منصَّات الوهم، ينتجون الفراغ ويغذّونه، بينما يغرق المبدعون الحقيقيون في صمت مطبق، كنجومٍ تُحجَب بأضواء المدن الصاخبة.

  • نيكول آيزنمان،
    نيكول آيزنمان، "التأقلم"، 2008، زيت على قماش. مجموعة إيغور داكوستا.

حين يحظى حفل زفاف شابة صانعة "محتوى"(!) بالاهتمام أكثر من المقتلة اليومية في غزة، أو أكثر من الجرائم الوحشية في السودان، وحين ينشغل رواد مواقع التواصل لأيام بفستان العروس وكحل عينيها وتسريحة شعرها أكثر من انشغالهم بما يحدث في سوريا، وطن تلك العروس، اِعلمْ أننا في الدرك الأسفل من عصر التفاهة. 

التفاهة هنا ليست وقفاً على شريحة اجتماعية أو فئة بعينها، إنها "ثقافة" أو "صناعة" يتم إنتاجها وترويجها وإعلاء شأنها على حساب كل ما له قيمة ومعنى. ولعل الغاية من وراء ذلك خلق أجيال مسطحة الوعي، غير معنية بكل القضايا الحقيقية التي تشكّل هويتها ومستقبلها معاً!

كما أنها ليست وقفاً على مجتمع بعينه؛ ففي زمنٍ يتحوَّل العالم كله إلى شاشة مُتوهِّجة، تطفو على سطحها أصوات مزيَّفة كالفقاعات، يبرز مشهد مريب: ساحة افتراضية تُسابق فيها الأقنعة بعضها، تتهادى بلا روح، تلهث وراء ومضات الإعجاب، وتتلظَّى بنار الشهرة العابرة.

ها هم "صنَّاع التَّفاهة" يرتقون منصَّات الوهم، ينتجون الفراغ ويغذّونه، بينما يغرق المبدعون الحقيقيون في صمت مطبق، كنجومٍ تُحجَب بأضواء المدن الصاخبة.

ليس ثمّة حاجة إلى عمق في زمن السرعة. يكفي أن تلوح بوجهٍ مُجمَّل، أو ترقص على أنغام مكرورة، أو تطلق نكتة مُستهلَكة، لتصير نجماً في سماء "اللا معنى". إنه مسرح هائل، تُدار حبكته بواسطة خوارزميات لا تعرف سوى لغة الأرقام: عدد المتابعين، نسبة المشاهدات، رصيد الحساب البنكي. هنا، تُقاس القيمة بالكمّ، لا بالكيف، وتُختزل الثقافة في "محتوى" سريع الاستهلاك، كالوجبة الجاهزة التي تُشبع البطن ولا تُغذي الروح.

في المقابل، يجلس المبدعون الحقيقيون على هامش هذا المشهد، مثل كتب يكسوها الغبار على رفوف مكتبة مهجورة. الشعراء الذين يحفرون بكلماتهم في أعماق الوجود، الروائيون الذين ينسجون عوالم موازية تعكس تشظّي الإنسان الحديث، الفلاسفة الذين يطرحون أسئلة تُقلقُ النوم ولا تدرّ الأرباح، يصارعون الوحشة في صمت، بينما تُغرَق أصواتُهم في ضجيج "الرييلز" وصراخ "الإنفلونسرز" الذين يبيعون الهواء ويشترون الذهب.

لم يعد السؤال: ماذا قدّمتَ للعالم؟ بل أصبح: كم جمعت من المتابعين؟ كم حقَّقت من الإيرادات؟ لقد تحوَّلت الثقافة إلى سلعة تُعبَّأ في "بايتات" لذيذة المذاق، خفيفة الهضم. التافهون يصعدون لأنهم يخاطبون الغرائز لا العقول، يلامِسون الأعصاب السطحية للجمهور المُنهَك الذي يبحث عن تسلية لا عن تفكير، عن هروب لا عن مواجهة. إنهم يبيعون الوهم ببراعة: حياة فاخرة، جمال مصطنع، سعادة معلَّبة.

في خضمّ هذا المسرح الرقميّ المزيّف، لا يُختزَل الصراع بين الجوهر والمظهر في إنتاج المحتوى فحسب، بل يمتدّ إلى شبكات خفيّة تحرّكها "ثقافة الراعي (sponser)" –حيث العلاقات الشخصيّة تعطي شرعية للتفاهة، والوساطة تصنع نجوماً من فراغ.

ها هم أبناء "الواسطة" يصعدون سلّم الشهرة بأقدام مدهونة بزيت المحسوبيات، بينما يُدفن الموهوبون الحقيقيّون تحت ركام الإهمال. إنها لعبة قديمة ترتدي ثوباً رقميّاً: امتلاك "ظهرٍ قويّ" يغني عن الإبداع، فلماذا تجهد نفسك في صقل الموهبة إن كانت "علاقة" مع "الشخص المناسب" توصلك إلى القمّة؟

هذا العالم الافتراضي، الذي يفترض أن يكون فضاء للعدالة، تحوّل إلى مرآة تعكس أمراض الواقع. ففي زمن التباهي بالسيارات الفارهة والساعات الذهبية والعلامات التجارية، يصير "الظّهير الاجتماعي" أو "الراعي المستتر" أكسسواراً لا يُعلَن عنه، لكنّه يُلمح في خلفية كلّ نجاح مريب. المحتوى التافه يزدهر لا لأنه الأفضل، بل لأنه الأكثر دعماً من شبكة علاقاتيّة تدير ظهورها للثقافة الأصيلة مقابل حفنة إشعارات تلمع كالذهب الزائف.

حتى المظاهر المادية صارت سلاحاً في هذه المعركة الوهميّة. ها هم "صنّاع التفاهة" يحوّلون حياتهم إلى كتالوجات تسويقيّة: كلّ غرض يظهر في الخلفية محسوب بدقة، كلّ إطار في الصورة يُضخِّم وهم الرفاهية. الكرسيّ الفاخر في المنزل ليس للجلوس، بل ليكون شاهداً على "النّجاح" في "ستوري" تمرّ في ثوانٍ. حتى الأحذيةُ الفاخرةُ تصير أدوات سردية تخبر المتابع: "انظر إلى ما أملك، لا إلى ما أنا عليه". 

لكنّ المدينة الفاضلة الرقميّة التي يبيعونها تتحطّم عند أول اصطدام بالواقع. فما يُعرض على الشاشات ليس سوى ديكور مؤقّت، كتلك الخلفيات الخضراء التي يختفي وراءها فقر المضامين. وفي اللحظة التي تنطفئ فيها الكاميرا، يعودون إلى عوالم بلا أضواء، حيث الفراغ الداخلي يصير أكثر وضوحاً من أيّ "لايك". هل تُصلح الشهرة وحدها خواء الروح؟ وهل يعوّض رقم المتابعين فقر القيمة؟ 

قد تكون هذه الظواهر مجرّد أعراض لمرض أعمق: اختزال الإنسان في صورة مسطّحة، واختفاؤه وراء سحابة من "الهُراء الراقي". لكنّ التاريخ يعلّمنا أن الأصيل يبقى، حتى لو تأخرت رياح الاعتراف. فكما يُهمس في أروقة الفنّ الحقيقيّ: "النجاح الحقيقيّ لا يحتاج إلى صفعة على الظهر، بل إلى قلب ينبض بالإصرار".

لكن الجمال الحقيقيّ لا يموت، حتى لو طُمر تحت ركام التَّفاهة. التاريخ يذكر أن كل عصر له صراخه السطحيّ وأغنياته الخالدة. ربما تكون هذه الموجة العاتية من الفراغ مجرّد اختبار لقدرة الإبداع على الصمود. فالشعر الذي يُكتَب في الظلام، والفكرة التي تُولد في عزلة، والفنّ الذي ينبع من وجع إنسانيّ، سيجد طريقه ذات يوم، كالنبتة التي تشقّ الصخر كي تعانق شعاع الشمس.

ربما نحتاج إلى عاصفة تطهّر هذا الفضاء الرقمي من غيوم التافهين. عاصفة يعود فيها التوازن إلى الفضاء الثقافي، حيث يُكافأ العمق لا السطحية، ويُكرَّم المبدع لا المتاجر. حتى ذلك الحين، سيبقى صناّع المعنى الحقيقيّ ينيرون زوايا الظلّ بصبر، واثقين بأن الضجيج لا يدمِّر الجوهر، بل يجعله أكثر لمعاناً حين يُكتشف.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك