ضرورة الصِّيام الرَّقمي
من الضروري جداً أن نوفّر لأنفسنا مساحات صمت نسمع فيها أنفاسنا، ونحملها إلى تلك الفسح الجمالية حيث يلتقي الإنسان بالإنسان، لكي لا ننسى أنّ الحياة حقيقة تعاش، لا مسرحية تشاهد.
نلاحظ في الآونة الأخيرة حركة إقبال جيدة على مشاهدة الأعمال المسرحية والأمسيات الموسيقية والأدبية. هذه الحركة لها مجموعة من الدلالات، منها ما يرتبط بدور المسرح الذي يجيب عن هواجس وتساؤلات ويرمي الحصى في مياه الفكر الراكدة، خصوصاً في الأوقات العصيبة حيث لا تعود الفنون الترفيهية وحدها قادرة على مخاطبة تلك الهواجس والتساؤلات، ومنها حالة الإشباع و"التخمة الرقمية" التي أصابت الكثيرين، ودفعتهم للبحث عن تواصل إنساني مباشر لا يعوّضه أيّ تواصل آخر.
لسنا مخلوقات رقمية
ما نودّ التوقّف عنده الآن هو هذه الحاجة عند البشر إلى التلاقي الإنساني الواقعي والمباشر من دون وسائط وأدوات، وذلك بعد أن افترس التواصل الرقمي الكثير من إنسانيتنا، فضلاً عن جائحة "كورونا" التي فاقمت الشعور بالعزلة، وفرضت العمل من بُعد على كثير من الناس، وهو ما أبقت عليه الشركات حتى بعد انتهاء الجائحة، فضلاً عن ضغوط العصر الاستهلاكي المتسبّبة بتفكّك الكثير من العلاقات الإنسانية والاجتماعية، والتي تدفع إلى البحث عن بدائل سعياً إلى دفء إنساني لا غنى عنه.
ولأننا كبشر نمتلك عقلاً يفكّر بطريقة مختلفة عن بقية الكائنات، ولسنا مخلوقات رقمية، بل كائنات من لحم ودم، نتوق دائماً إلى حضن يأنس به القلب، وإلى ابتسامة ترتسم على الشفتين من غير وساطة "إيموجي". هذا التوق هو سرّ بقائنا الأنطولوجي، وهو ما يدفعنا اليوم إلى إعادة اكتشاف ضرورة التلاقي الإنساني المباشر، بعد أن أتخمنا العالم الافتراضي بالتفاهة والسطحية.
لكنّ المسألة ليست قضيةَ خيارٍ بين عالمين، بل هي بحثٌ عن توازنٍ بينهما. فكما أنّ للعالم الرقمي فضله في تقريب البعيد، له خطره في إبعاد القريب. في زمن الطوفان الرقمي، حيث تتداعى الجدران الواهنة بين العالمين الافتراضي والواقعي، نجد أنفسنا مسكونين بحنين غريزي إلى اللقاء وجهاً لوجه. فكم من نفس أضنتها الوحدة في خضمّ ازدحام المنصات التواصلية، وكم من قلب أجهز عليه الإدمان الرقمي حتى أصبح كالطائر الذي يحسب القفص وطناً. هذه الأمراض النفسية الحديثة ـــــ من الانعزال والاكتئاب وفقدان الهوية ـــــ ليست إلا أعراضاً لصراع داخلي عميق، وصرخة احتجاج يطلقها جوهرنا الإنساني ضدّ هذه الحياة المقطّعة الأوصال.
وحيدون معاً
ما نعيشه اليوم ليس مجرّد تفضيل بين عالمين، بل هو صراع بين نمطين للوجود: وجود مختزل في العالم الرقمي، حيث تتحوّل المشاعر إلى رموز، والعلاقات إلى قوائم أصدقاء، ووجود متكامل في الفضاءات الواقعية التي تتيح لنا المشاركة في التجربة الإنسانية الأصيلة. وبحسب المختصة بعلم النفس السريري وعالمة الاجتماع الأميركية، شيري توركل، فقد أصبحنا "وحيدين معاً"، نحيا في كثير من الأحيان بواسطة الرسائل النصية بدلاً من الحديث وجهاً لوجه.
هنا تبرز أهمية صروح الفن والأدب كمساحات مثلى للقاء الإنساني الذي بتنا نحتاج تعزيزه والحثّ عليه كلّ حين. ففي المسرح تتجسّد المشاعر بين الممثّل والمشاهد في حلقة اتصال مقدّسة، تكون فيها الضحكة الجماعية أو الصمت المهيب لحظات وجودية حقيقية.
أما دور السينما التي تجمعنا على مقاعد متجاورة، كما هو الحال في المسرح، نضحك ونبكي في انسجام غريب، مستعيدين بهذا الانفعال المشترك إنسانيتنا المتناثرة بين المنصات الرقمية. وفي الأمسيات الشعرية والموسيقية نختبر "السماع" الحقيقي - لا مجرّد الاستماع - حيث تنفذ الكلمات والنغمات إلى الأعماق، وتلتقي الأنفاس في فضاء من المشاعر المتبادلة.
بوادر هجرة إيجابية
الأمر الإيجابي أننا بدأنا نلمس بوادر هجرة جماعية من بحر التفاهة الرقمية إلى برّ العالم الواقعي. نرى تياراً متصاعداً يسعى للخلاص من سطوة المحتوى السطحي، والعودة إلى فسحة الوجود الحقيقي. هذه "الصحوة النخبوية" تتجلّى في انتشار مفهوم "الصيام الرقمي"، والإقبال المتزايد على الحفلات الموسيقية الحيّة، والمقاهي التي تمنع استخدام الهواتف الذكية.
هذه الأمكنة الثقافية ليست للترفيه فقط، بل هي مصانع لإنتاج المعنى المشترك. إنها مختبرات للذوق، حيث يتعلّم الفرد من خلال الاحتكاك بالجمهور والفنانين تذوّق الأكثر تعقيداً والأعمق، بعيداً عن ثقافة "الترند" السريع. وهي خزّانات للذاكرة الجمعية، تخلق ذكريات مشتركة تصبح جزءاً من هوية المجتمع.
وفي هذا السياق، يحذّر كثير من المفكّرين وعلماء الاجتماع المعاصرين من أنّ العلاقات في زمننا هذا مهدّدة بأن تتحوّل إلى أشياء استهلاكية يُستمتع بها ويُستغنى عنها عندما تفقد جاذبيتها، وهي ظاهرة تقف هذه الفسحات الثقافية بالضدّ منها.
فالمسألة ليست ترفاً، بل هي مسألة بقاء للروح الإنسانية في عصر الآلة. و"الصيام الرقمي" هنا ليس هروباً من العصر، بل هو تأكيد سيادتنا عليه. هو طقس تطهُّرٍ طوعي نستعيد فيه زمام انتباهنا ووعينا، نطهّر به حواسنا المتخمة بضوضاء العالم الافتراضي، لنعود إلى صفاء اللحظة الواقعية.
من الضروري جداً أن نوفّر لأنفسنا مساحات صمت نسمع فيها أنفاسنا، ونحملها إلى تلك الفسح الجمالية حيث يلتقي الإنسان بالإنسان، لكي لا ننسى أنّ الحياة حقيقة تعاش، لا مسرحية تشاهد، وبهذا المعنى يغدو "الصيام الرقمي" ضرورة وجودية، وصياماً نلتقط فيه صوت أرواحنا.
