غبار أصفر وقطط سوداء
يا ويلكم. ألا تعلمون أنّ الغاب الناقص منها بلبل غريد ليست بغاب؟ هيا اخلعوا هذه الأثواب المستعارة حالاً، فما أنتم سوى قطط صغيرة مريضة تسعى إلى إشعال نيران كبيرة.
-
ابنا آوى من كتاب "كليلة ودمنة"
وسائل التواصل الاجتماعي مشغولة بعاصفة الغبار المقبلة من بعيد. الدفاع المدني، ومصلحة الأرصاد الجوية والحكماء والأطباء يحذّرون من خطورة إطلاق المفرقعات النارية، ومن إضرام أي نار تتسبّب بمخاطر جسيمة، وبحرائق يصعب السيطرة عليها، فتأتي على مساحات الغاب الحرجية وغيرها بأكملها، آكلة الأخضر واليابس.
جماعة القطط الصغيرة منقسمة على نفسها بين بيضاء وسوداء. القطط السوداء منها ميّزت صدورها بشارات حمراء دلالة على رؤوسها الحامية. بعضها وجد في العاصفة فرصةً سانحةً لتنفيذ مخطط أعدّته سابقاً، بل أعدّ لها سابقاً.
ارتدت ثياباً جديدة مرقّطة تشبّهاً بالنمور، مقدّمة هبة من مصانع أجنبية، وتجهّزت بالمفرقعات استعداداً لوصول العاصفة.
طارت الأخبار وانتشرت، وإلى سمع النمر الكبير وصلت، فأسرع إلى عقد جلسة طارئة.
حضرت القطط مسرعة، يتقدّمها كبيرها، منتفخ الرأس بدا. مزهوّاً بخارطة الحرائق التي يمهّد لإبادتها في هذا المناخ العاصف. أذناه كبيرتان لكثرة ما عوّلت الريح فيهما ونفخت.
حدّق النمر جيداً. راعه المشهد، فالمفرقعات النارية بأيدي الصغار قد تشعل الغاب بسرعة فائقة نظراً للهشيم المتراكم فيها منذ زمن، فتوجّه إليهم قائلاً:
- ألم تستمعوا إلى تحذيرات الحكماء، وخبراء المناخ الذين نبّهوا من خطورة هذا الأمر؟
- سمعنا، ووصول عاصفة الغبار انتظرنا، ولهذا أتينا طالبين إليك دعمنا.
- ويحكم! أتعملون على إحراق الغاب عن سابق تصوّر وتصميم، وتريدون مباركتي هذه الجريمة النكراء؟ سبق لكم وأضرمتم النار فيها، فماذا جنيتم سوى الخراب؟ لِمَ لا تتعظون من دروس الماضي وعبره؟ ما الذي جنيتموه من الحرائق السابقة سوى الموت والهجرة والتهجير والآهات والدموع والدمار؟
- بل إلى إحراق جهات معيّنة ومعروفة في هذا الغاب نسعى!
- خاب سعيكم. ألا تعلمون إن أشعلتم النار، ونفخت في كورها رياح غريبة قوية فلن تبقي ولا تذر في الديار ديارا، لأنها لا تميّز بين جهة وأخرى، وبين جاهل وعاقل، وبين مجرم وبريء؟
- الرياح الغريبة تساعدنا على إنجاز المهمة بتقنية عالية.
انتصب النمر. أطلق صرخة مدوّية:
- أيّ أحقاد دفينة هذه التي تشعل دواخلكم؟ أيّ شيطان كبير ذلك الذي وسوس لكم، ونفخ في رؤوسكم ونفوسكم محفّزاً على ارتكاب هذه الجريمة النكراء بحقّ أخوة لكم في هذا الغاب الذي ينعم الآن بعيش مشترك؟
قال النمر ذلك وتوجّه إلى السنور الكبير:
- أنت تظن نفسك الآن نمراً. هات أسمعنا صوتك لنرى.
أصدر السنور خرخرة مبحوحة، ضحك النمر وقال:
- أهكذا تهسهس النمور وتضرضر يا هرّ؟
- دعنا نجرّب، فالغاب من دون هذه الجهات أفضل
أطلق النمر صرخةً مدويةً:
- يا ويلكم. ألا تعلمون أنّ الغاب الناقص منها بلبل غريد ليست بغاب؟ هيا اخلعوا هذه الأثواب المستعارة حالاً، فما أنتم سوى قطط صغيرة مريضة تسعى إلى إشعال نيران كبيرة، ومن يلعب بالنار يحرق أصابعه أولاً. آن لكم أن تتعظوا، وأن تتعلّموا دروساً في المواطنة، فالغاب كبير، وفضاؤه رحب وفسيح، وهو يحتضن الجميع. هاتوا خرائط الخراب هذه، وارموا تلك المفرقعات التي تتأبّطونها وانصرفوا.