في سوريا.. هل تصحّ مقولة "الجحيم هو الآخرون"؟
أهم ما يتناساه السوريون، اليوم، أنهم ليسوا شخصيات "الأبواب المغلقة" المُصابة بالموت بمعناه الرمزي، لكنهم إن بقوا على انغلاقهم الذاتي، وإن حافظوا على عاداتهم في الحكم المُسبَق على الآخر، واستبدادية طبائعهم نحوه من دون السعي لتغييرها، فإنهم سيصبحون أمواتاً.
-
وقفة إحتجاجية في دمشق بعد أحداث الساحل السوري (رويترز)
من يتأمل الوضع السوري الآن، يدركْ من دون أدنى شك أن الشعب يعيش أزمة وجودية عميقة، تجعله تجسيداً مثالياً لمقولة جان بول سارتر "الجحيم هو الآخرون". كأن السوريين عالقون خلف "الأبواب المغلقة"، التي كتب عنها الفيلسوف الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي. كلُّهم ينتظرون جلّادهم، إلا أنهم لا يلبثون أن يكتشفوا أنهم هم من سيقوم بتلك المهمة، وكل منهم سيعمل على جَلْدِ الآخر ومحاكمته وفق تقويمه الخاص، وبناءً على مجموعة هائلة من الأحكام المسبقة، وما يكتنفها من حسابات الخوف والريبة والحذر والتوجس، إلى جانب الحصة الخاصة من المظلومية، والإيمان المطلق بامتلاك الحقيقة واحتكارها، الأمر الذي يؤدي إلى عمليات متتالية من الإقصاء والنَّبذ وتقيييد الحرية، والأهم تدمير العقد الاجتماعي بما فيه من جماليات التباين والتنوع، والقدرة على ضبط إيقاع الحياة بسلامها وهدوئها المنشودَين.
أفراد المجتمع السوري في هذه اللحظة من تاريخهم المعاصر، محاصرون بسوء الفهم والاستلاب المعرفي بأعقد تجلياته، والنّكران ومُراءاة الذات، الأمر الذي يجعلهم مثل شخصيات سارتر، يعيشون في جحيمهم الخاص، نتيجة علاقاتهم الملتوية والفاسدة بالآخر المتباين، سياسياً ودينياً، على وجه الخصوص، مبتعدين عن الفهم الحقيقي لمقولة الفيلسوف الفرنسي الأثيرة "الجحيم هو الآخرون"، والذي أوضحه بنفسه نتيجة اللبس الكبير الذي شابه، حين قال: "ينبغي لنا أن نَعُدّ الآخرين أهمّ ما لدينا لنتعرف إلى ذواتنا، لأننا عندما نفكر في أنفسنا، ونحاول معرفتها، نستخدم في أعماقنا المعلومات التي كوّنها الآخرون عنّا، ونصدر أحكاماً على ذواتنا بالوسائل التي قُدمت إلينا من هؤلاء بحكمهم علينا. ومهما قلت عن نفسي، يتضمنه حكم الآخر، وأيّاً كان شعوري، فإنّ حكم الآخر يكون جزءاً منه، وهذا يعني إذا كانت علاقاتي سيئة فسأضع نفسي في تبعية تامة للآخر، ثمّ سأكون، بالفعل، في الجحيم".
أهم ما يتناساه السوريون اليوم أنهم ليسوا شخصيات "الأبواب المغلقة" المُصابة بالموت، ولو بمعناه الرمزي، لكنهم إن بقوا على انغلاقهم الذاتي، وإن حافظوا على عاداتهم في الحكم المُسبَق على الآخر، واستبدادية طبائعهم نحوه، من دون السعي لتغييرها، فإنهم سيصبحون أمواتاً حُكماً، أو على الأقل سيحيون في الشر والشقاء المديدَين، وسينغمسون في تأويلات الموت وفتاواه الجاحدة، ولاسيما مع ما يفرزه من انقسامات عميقة في بنية المجتمع السوري نفسه، بين من يرى أن الموتى من الطرف الآخر شهداء وبين من يَعُدّهم قتلى، أو أولئك الذين يلعبون على المصطلحات بين الماضي القريب والحاضر. كأن يتم إبدال توصيف "مندَسّ" بـ"فلول"، وفق موازين القوة الجديدة، والتغييرات الغرائبية التي طرأت على مصطلح "الثورة" و"المقاومة"، ومن هو "الثَّوري" و"المقاوِم"، مع الإمعان في تغليب صوت الرصاص على صوت العقل ومفهوم المحاكمات العادلة، وبالتالي إعادة مَسْرَحَةِ الموت مع تبديل ديكوراته وشخصياته، وليبقى الدم السوري غزيراً مع تشريعِ اصطفافٍ ضد آخر، وطائفة في مواجهة أخرى، من دون أي رغبة في الانتماء الحقيقي إلى الله والوطن. وبذلك، يصبح الجميع ضحايا ينتظرون نهايتهم التي يُغلِّفها العبث والانتشاء بالعدم، وعدم الالتفات إلى أهمية الاعتقاد أننا أحرار في كسر دائرة الجحيم التي نعيش فيها، كأن حرية السوريين الوحيدة لا تتجسد إلا في خيار بقائهم ضمن تلك الدائرة، بحيث يضعون أنفسهم في الجحيم بكامل حريتهم.
لكن، بما أننا "محكومون بالحرية"، بحسب ما يقول سارتر، إذاً لا مخرج لنا من هذه الدوامة، إلا بكسر دائرة الصراع والتفكير في كيفية ارتباطنا، بعضنا ببعض، بحيث لا تبقى طبيعة علاقاتنا بالآخرين مُرهِقة، وعنيفة، ولا تطاق. كما يتوجب علينا أن نؤمن بأنه "كي يكون المرء حراً، يجب علينا جميعاً أن نكون أحراراً"، بمعنى أن نتساوى في حريتنا، وفوق ذلك في توزيع حصتنا من الطمأنينة تجاه بعضنا، وعدم الاكتفاء بتعريف ذواتنا من خلال نظرة الآخر إلينا، لأن ذاك هو التعذيب الحقيقي للجلاد كما حقَّقته "الأبواب المغلقة". إذ كانت كل شخصية من الشخصيات تقوم بتعرية الأخرى ضمن منظومة جهنمية يحكمها الخوف والجهل والقسوة والترقب واللاجدوى، والأنكى من ذلك كله الكذب على النفس وعلى الغير، وتثبيت هوية وسلوك نمطي وفق تلك الصورة الكاذبة، وهو ما يؤدي إلى حرمان الفرد من حريته ومسؤوليته عن أفعاله، بغية تبرير كل الاقترافات الدنيئة بحق الآخر ووجوده، وأيضاً تسويغ الكراهية اللاعقلانية تجاهه، متجاهلين أن للكراهية كرامة لا تكتمل أركانها من دون التعرف الحَقّ إلى الشخص الآخر الذي له أهمية حتى نكرهه. وهكذا، فإنه في حلبة الصراع هذه لن يخرج أحد منتصراً ما لم نؤمن بصدق بالمقولة التي جاءت على لسان إحدى شخصيات سارتر في "أبوابه المغلقة"، حين قال: "أما أنت الذي تكرهني، إن آمنت بي خلَّصْتَني"، مُدركين أن الحصول على أي حقيقة عن الذات لا تكتمل من دون المرور عبر الآخر، الضروري لوجودي وأيضاً للمعرفة التي أمتلكها عن نفسي، وضمن تلك الذاتية المتبادلة تتفكك النظرة العدوانية بين الذات والغير، وتصبح سيرورة الحياة أقل عنفاً وينتشر فيها بريق الجوهر الوجودي النَّقي من دون أي انتهاكات أو زيف.
يقول سارتر: "الآخر يحمل مفتاح وجودك"، لذلك في الجحيم السوري المعاصر، بكل ما يكتنفه من سوء الفهم وسوء النية والتكفير من دون تفكير وتشويه المفاهيم، تصبح اللامبالاة تجاه الغير هي الوقود الذي يزيد في سَعير الحقد والكراهية بين السوريين، لأنها متناقضة بطبيعتها هي الأخرى، لأننا في محاولتنا إنكار وجود الآخر، فإننا ننكر وجود ذاتنا. وبالتالي فإن لامبالاة السوري تجاه السوري الآخر، ولو كان متبايناً بالأفكار والعقائد، سيؤدي حتماً إلى تفشي الانتهاكات الإنسانية، وإلى استشراء الحرائق الجسدية والنفسية، وازدياد العذابات العاطفية والعقلية، ما لم يتنبَّه السوريون بمختلف مشاربهم الطائفية والإثنية والقومية إلى أنه لا يمكن إيقاف هذه المحرقة إلا من خلال السعي المشترك لإطفاء نارها معاً، وتبريد حَميِّة المُعارَضات والتناقضات والإنكارات المتعاكسة، والتلاقي على حميميات وطنية، ومشتركات إنسانية، تجمع العقول والقلوب السورية وتوالف بينها، بعيداً عن حسابات الرِّبح والخسارة الواهية، وبعيداً أيضاً عن الانتقام من الحاضر بذريعة جرائم الماضي، إذ ماذا ينفع كثيرين من السوريين أن يُمعنوا في غلوائهم، وأن يبقوا على عدائهم لأنفسهم، جاعلين من ذواتهم ومن الآخر - السوري أيضاً - أمواتاً أحياء، أو في أحسن الأحوال ضحايا مؤجلين؟