ما يقع في باب "محتوى إباحي"!
لعل ما ترغب فيه أغلبية منصات التواصل الاجتماعي اليوم أن تمارس مهنة "المكتوبجي"، وإن بحبر آخر، وبشعارات مغايرة، تنافح عن حرية التعبير والتفكير، لكن ما إن تقترب خطوة واحدة نحو فضح الانتهاكات الإسرائيلية حتى تستنفر خوارزميات هذه المنصات في منع هذا المحتوى.
تتضاءل المسافة بالتدريج بين اشتراطات مواقع التواصل الاجتماعي وعقلية "المكتوبجي"، أو الرقيب العثماني، الذي كان يتحكّم في الرقابة على منشورات الصحف والمجلات حينذاك، وإذا بعبارة "فيمَ تفكّر"، التي تعلو صفحات الحائط الأزرق، تضيق بحرية التعبير إلى درجة صفر، في حال كان الرأي يتعلّق بالبربرية الإسرائيلية وحرب الإبادة التي تخوضها ضد غزة وبعدها لبنان بذريعة تجاوز معايير الموقع، وإذا بنشر صور المذابح والأسرى الفلسطينيين يقع في باب "محتوى إباحي"!
فالإباحية هنا تخصّ الأجساد الفلسطينية المكشوفة في مستعمرات الاعتقال بينما تُفتح العدسة إلى أقصاها أمام صور التعري في عروض الأزياء ونجمات السوشال ميديا، وتالياً تجري محاكمة الأجساد المشلوحة والمغتصبة والمنتهكة في العراء وبين الأنقاض وفي خيم النزوح تبعاً لمجسّات خوارزميات هذه المواقع، فكان على من يكتب أو يفضح مشهداً مضاداً لمعايير "الفيسبوك" و"أكس" وسواهما أن يراوغ في كتابة أسماء مثل "إسرائيل"، و"الصهيونية"، و"مذبحة"، و"مجزرة"، و"إبادة جماعية"، كي ينجو من قضبان أقفاص هذه المواقع ومعاييرها الصارمة في هتك جرائم جيش الاحتلال، و"نزهات الطيران" في اقتناص الضايا.
شخصياً، حاولت نشر صورة تحت عنوان "مذبحة الكتب" لكن "فيسبوك" رفضها أكثر من مرّة، إذ أفزعته كلمة "مذبحة". فبحسب معاييره، فإن المذبحة اختصاص إسرائيلي وماركة مسجّلة باسم هؤلاء البرابرة لا يجوز الاقتراب منها أو تداولها. فكّر، إذاً، في أخبار النجوم، وصور السيلفي، وروح القطيع، وكل ما يعزّز قاموس التفاهة اليومية.
في المقلب الآخر يطارد "مكتوبجي" بعض الأنظمة العربية أي نسمة تضامن ضد حرب الإبادة، مطالباً رعيته بإغماض الأعين عما تراه من جرائم قتل معلنة، فما يُنقل، عبر الشاشات مباشرة، بالنسبة إلى هؤلاء، ليس أكثر من ألعاب "فوتوشوب" يجب عدم تصديقها ومحوها من الذاكرة، فأن تضع علم فلسطين أو لافتة تدين حفلات الإبادة، فهذا يعني أنك تتجاوز الخطوط الحمر. أما خطوط الدم المسفوح والمجاعات واستباحة الأراضي الفلسطينية، فكلها تقع خارج المنهج. والحال يجب أن تتعلّم المحو لا التدوين، صورة تطوي ما قبلها، ومذبحة تمحو مذبحة أكثر فتكاً لتنظيف الشاشة من آثار العار الإسرائيلي.
نظن أن توثيق الانحطاط الأخلاقي لجيش الاحتلال من جهة، والضمير النائم لبعض أصحاب الفتاوى، من جهة ثانية، يحتاج إلى ألبوم ضخم لــ "هولوكوست" من العيار الثقيل، لا إلى هضم هذه الوجبات العسيرة، كما لو أنها نوع من حلوى ما بعد الطعام.
هكذا استيقظ "المكتوبجي" في زيّه القديم وزيه الإلكتروني، في آنٍ واحد، واستنفر حواسه الخمس، وعدسته المكبّرة في التقاط عبارة هنا وصورة أو تغريدة هناك، لوأدها على الفور، كأن الرقيب العثماني لم يغادر مقعده في الشطب والمحو إلى اليوم لإرضاء "الباب العالي".
ربما علينا أن نستعيد ما دوّنه الصحافي اللبناني، سليم سركيس، صاحب جريدة "لسان الحال" التي كانت تصدر في بيروت زمن الحكم العثماني للبلاد العربية، ففي كتابه "غرائب المكتوبجي" وقائع مضحكة ومحزنة عن ممارسات الرقابة حينذاك، وإذا بثورة أكتوبر عام 1917، التي أنهت حكم القياصرة في روسيا، تتحوّل على يد "المكتوبجي" بعد طول تفكير إلى مانشيت صغير في أسفل الصفحة الأولى للجريدة، هو "حدثت خناقة في موسكو"!
لعل ما ترغب فيه أغلبية منصات التواصل الاجتماعي اليوم أن تمارس مهنة "المكتوبجي"، وإن بحبر آخر، وبشعارات مغايرة، تنافح عن حرية التعبير والتفكير، لكن ما إن تقترب خطوة واحدة نحو فضح الانتهاكات الإسرائيلية حيال الحرب المدمّرة في غزة والجنوب اللبناني والقتل المتعمد لمئات الصحافيين والمراسلين، حتى تستنفر خوارزميات هذه المنصات في منع هذا المحتوى، وأحياناً فرض عقاب صارم بمنع المشاركة، شهراً أو أكثر، تبعاً لثقل "الجريمة"، وفقاً لمعاييرها الشائنة. على الأرجح فإن عبارة "محتوى إباحي" تلخّص لسان الحال!