سمات الصراع في مرحلة ما بعد الطوفان

المنطقة برمّتها تتهيّأ الآن لطيّ صفحة الجولة الحالية من جولات الصراع المسلّح مع المشروع الصهيوني، وتستعدّ لفتح صفحة الجولة التالية من هذا الصراع.

  • ما الأسباب التي دفعت الرئيس ترامب للذهاب إلى مجلس الأمن.
    ما الأسباب التي دفعت الرئيس ترامب للذهاب إلى مجلس الأمن.

لم تتضح بعد حقيقة الأسباب التي دفعت الرئيس ترامب للذهاب إلى مجلس الأمن للحصول على قرار بتبنّي خطته لإنهاء الحرب في قطاع غزة وتفويضه بالإشراف على تنفيذها باسم المجتمع الدولي!

وقيل في تفسير ذلك أنّ الدول العربية والإسلامية التي كانت قد أبدت استعدادها للمشاركة في "قوة الاستقرار" المنصوص عليها في الخطة، والتي يفترض أن توكل إليها مهمّة المحافظة على أمن القطاع خلال المرحلة الانتقالية، اشترطت صدور قرار من مجلس الأمن يحدّد مهام هذه القوة بدقة، كي تصبح في وضع قانوني مماثل لوضع قوات حفظ السلام التي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، والتي يقتصر دورها في العادة على الفصل بين المتحاربين، والإشراف على الانسحاب إلى المواقع المتفق عليها في قرار وقف إطلاق النار، وتدريب قوات وطنية لتتولى مهمّة المحافظة على الأمن والاستقرار بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.

قرار التفويض الذي أصدره مجلس الأمن (القرار 2803) لم يحسم هذه المسألة بشكل قاطع وتركها لتقدير "مجلس السلام" الذي يفترض أن يتولّى ترامب رئاسته. ولأنّ الكيان الصهيوني يصرّ على أن تتولّى القوة متعددة الجنسيات نزع سلاح الفصائل الفلسطينية، رغم إدراكه أنّ الدول العربية والإسلامية التي أبدت موافقتها من حيث المبدأ على المشاركة في تشكيل هذه القوة ترفض أن توضع في موقف قد يعرّضها للدخول في مواجهة مع الفصائل الفلسطينية المسلّحة، بل ويشترط الانتهاء من هذه المهمة قبل إتمام الانسحاب من القطاع، يبدو واضحاً أنه يبحث عن ذريعة تتيح له البقاء في القطاع واستمرار إحكام سيطرته المباشرة على الملف الأمني.

 تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفصائل الفلسطينية المسلّحة لا ترفض التخلّي عن سلاحها من حيث المبدأ في إطار خطة متفق عليها لتسوية الصراع، لكنها ترفض رفضاً قاطعاً تسليمه لعدو يحتلّ أرضها، ما يعني أنها لن تقبل التخلّي عن سلاحها إلا لسلطة فلسطينية شرعية تجسّد طموحات ومصالح الشعب الفلسطيني، وتطالب بالربط بين ما ورد في خطة ترامب حول نزع السلاح وما ورد فيها حول حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. 

بل يمكن القول إنه ليس من المستبعد أن تقبل هذه الفصائل تسليم سلاحها إلى جهة محايدة، شريطة الحصول على ضمانات قاطعة بقيام دولة فلسطينية مستقلة خلال فترة زمنية معقولة، تستند إلى خارطة طريق واضحة المعالم ومبرمجة زمنياً، وهو ما ترفضه "إسرائيل" وتسعى لقطع الطريق عليه بكلّ السبل والوسائل المتاحة.

يصعب التكهّن بما إذا كان بمقدور ترامب إيجاد حلّ لهذه المعضلة، عبر صيغة مبتكرة تجنّبه الدخول في صدام مفتوح مع الكيان الصهيوني، وفي حال عدم التوصّل إلى حلّ لهذه المعضلة، فسنكون إزاء واحد من احتمالين؛ الأول: فشل خطة ترامب أو انهيارها بشكل مفاجئ أو تدريجي، بسبب تعذّر العثور على صيغة توازن بين مواقف ومصالح جميع الأطراف المعنية، والثاني: رضوخ ترامب للمطالب الإسرائيلية المتعنّتة بطريقة تجبره على إدخال تعديلات على خطته كي تتواءم مع هذه المطالب، ما يعني أنه قد يلجأ لممارسة ضغوط مكثّفة على الفلسطينيين في المرحلة المقبلة، عبر الضغط على الدول العربية والإسلامية الحليفة. 

وأياً كان الأمر، فمن الواضح أنّ المنطقة برمّتها تتهيّأ الآن لطيّ صفحة الجولة الحالية من جولات الصراع المسلّح مع المشروع الصهيوني، وتستعدّ لفتح صفحة الجولة التالية من هذا الصراع.

ولأنّ الجولة الحالية، والتي بدأت مع "طوفان الأقصى" وتوشك على الوصول إلى خط النهاية مع دخول خطة ترامب حيّز التنفيذ، أسهمت بقدر كبير في تغيير بنية ومعالم ومعطيات هذا الصراع الممتدّ، فلن يكون بمقدور الأطراف المعنية إدارة الجولة التالية بالطرق والأساليب القديمة نفسها، وبالتالي سيكون لزاماً عليهم أن يجتهدوا في البحث عن طرق وأساليب جديدة ومبتكرة.

فقد كشفت الجولة التي انطلقت مع "طوفان الأقصى" عن سمات جديدة لم تظهر من قبل بمثل هذا القدر من الوضوح، ألا وهي وحشية الكيان الصهيوني، من ناحية، وصمود الشعب الفلسطيني الذي قدّم تضحيات إعجازية، من ناحية أخرى. وبينما تجلّت وحشية الكيان عبر مؤشّرات يصعب حصرها (عكستها حرب إبادة جماعية وتجويع وتطهير عرقي وتهجير قسري للشعب الفلسطيني في القطاع)، كاشفة بذلك عن الطبيعة التوسّعية والعنصرية لهذا الكيان، جاء صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة هذا المستوى الإجرامي غير المسبوق، كاشفاً عن المظلومية التي تعرّض لها شعب متمسّك بتراب وطنه حتى الرمق الأخير، ما يفسّر هبّة شعوب العالم أجمع للتنديد بالكيان الصهيوني، من ناحية، ولدعم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، من ناحية أخرى.

ولأنّ وحشية الكيان لم تقتصر على انتهاك الأعراف والقيم الإنسانية والأخلاقية، وإنما تجلّت أيضاً عبر آلة حرب جهنمية، ملكت من القدرات التسليحية والتكنولوجية ما مكّنها من توجيه ضربات موجعة وقاسية لكلّ من غزة ورام الله وبيروت ودمشق وصنعاء وطهران وقطر في وقت واحد، يبدو واضحاً أنه لم يعد أمام العالم العربي والإسلامي من سبيل آخر سوى البحث عن أسلوب أكثر فاعلية للتعامل مع هذا الوحش الكاسر الذي يهدّد بابتلاع المنطقة بأسرها.

لم تعد القضية التي ينبغي أن ينشغل العالم العربي والإسلامي بها، من الآن فصاعداً على الأقل، تتعلّق بحاجة ماسّة للتضامن مع شعب فلسطيني شقيق، تمليها دوافع وطنية أو قومية أو دينية، مثلما جرى عليه الحال في سنوات خلت، خصوصاً تلك التي أعقبت إعلان قيام "الدولة" اليهودية نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، وإنما أصبحت تتعلّق أكثر بحتميّة القيام بمواجهة جادّة وصريحة مع كيان منفلت ومجنون، لم تعد لديه أية كوابح قانونية أو إنسانية أو أخلاقية تحول دون التطلّع بشغف نحو التوسيع والهيمنة، ومن ثم بات يشكّل خطراً محدقاً على أمن المنطقة ككلّ. 

ولذا فالأرجح أن لا يكتفي بطرد الفلسطينيين من وطنهم، وإنما سيعمل جاهداً على إحاطة نفسه بسياج من مناطق أمنية عازلة، أي خاليّة من المقاومة ومنزوعة السلاح، على طول الحدود مع الدول المجاورة له كافة، ما يفسّر إصرار حكومته الحالية ليس على نزع سلاح فصائل المقاومة الفلسطينية فحسب وإنما نزع سلاح حزب الله أيضاً، وممارسة أقصى الضغوط الممكنة على إيران أملاً في تجريدها من برنامجيها النووي والصاروخي، بل والسعي الحثيث لإسقاط نظامها الحاكم، وهو الخيار المفضّل لدى الكيان، وكذلك العمل بكلّ الوسائل المتاحة للإبقاء على سوريا ضعيفة وعاجزة عن السيطرة على كامل أراضيها، من خلال تعمّد إثارة النزعات الطائفية والعرقية. 

ولأنّ نتنياهو بات مقتنعاً أنه حقّق انتصارات عسكرية باهرة على جميع الجبهات، وبالتالي لم يعد أمامه سوى القليل قبل أن يتمكّن من إعلان ما يطلق عليه "الانتصار المطلق"، فليس من المستبعد أن يكون خياره المفضّل في المرحلة المقبلة ينحصر في السعي لاستئناف الحرب مجدداً، خصوصاً على الجبهتين اللبنانية والإيرانية، باعتباره الطريق الأمثل من وجهة نظره نحو إقامة "دولة إسرائيل الكبرى" التي يحلم بأن يكون هو أوّل ملك متوّج عليها!

في سياق كهذا، تبدو الحاجة ماسّة لبلورة رؤية جديدة تسمح بإدارة أكثر فاعليّة للصراع مع المشروع الصهيوني في المرحلة المقبلة. ولأنّ التفويض الأممي الممنوح لترامب يتيح له فرصة للتحكّم في تحديد مستقبل ومصير قطاع غزة، وربما يفتح أمامه طريقاً للعمل على إعادة إحياء مشروعه القديم لتحويل غزة إلى "ريفييرا" على الشاطئ الجنوبي للمتوسط، ما قد يهدّد بتصفية نهائية للقضية الفلسطينية، ينبغي التحرّك على الفور لبلورة مثل هذه الرؤية من دون أيّ تأخير، وهي رؤية تستدعي من الدول العربية والإسلامية، في تقديري على الأقل، تحرّكاً سريعاً على ثلاثة محاور:

الأول: يستهدف الاتفاق على آلية فعّالة لإنهاء الانقسام المزمن بين فتح وحماس، ولمساعدة جميع القوى المدنية الفلسطينية على بناء حركة وطنية موحّدة، عبر الاتفاق على خارطة طريق مفصّلة حول كيفيّة تنظيم انتخابات عامّة شاملة، والاستناد على نتائج تلك الانتخابات لتحديد الأوزان الحقيقية للقوى السياسية المتنافسة على الساحة، تمهيداً لإضفاء شرعية قانونية وسياسية على القيادة الجديدة للحركة الفلسطينية الموحّدة والمنتخبة، غابت عن الساحة الفلسطينية طوال سنوات عديدة.

الثاني: يستهدف الاتفاق على صيغة تلزم جميع الدول العربية والإسلامية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل" بتجميد هذه العلاقات في الوقت الحاضر، وتلزم الدول الأخرى بعدم إقامة أيّ علاقات دبلوماسية جديدة إلّا بعد إقدام "إسرائيل" على إعلان التزامها بقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على كامل الأراضي الفلسطينية التي احتلّت عام 1967.

الثالث: يستهدف الاتفاق على صيغة مبتكرة لآلية تشاور منتظم على مستوى رؤساء الدول، تشارك فيها مصر والسعودية وتركيا وإيران، تعمل على وضع إطار مؤسّسي لأمن إقليمي عربي-إسلامي مشترك، يعمل في الوقت نفسه على احتواء الفتن الطائفية ومعالجة أسبابها من الجذور.