هل قرأ الرئيس ترامب هذه الصفحة من تاريخ المنطقة؟
يتعيّن على ترامب أن يتصرّف بوصفه رئيساً لقوة تشغل مقعداً دائماً في المجلس المسؤول عن حفظ السلم والأمن في العالم، وليس بوصفه الحليف الموثوق لـ "دولة" تشنّ حرب إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني.
-
في تاريخ المنطقة صفحة من المهم أن يطالعها ترامب اليوم.
كان بمقدور الرئيس ترامب الاكتفاء بموافقة كلّ من "إسرائيل" ودول عربية وإسلامية تشاور معها حول خطته لإنهاء الحرب في قطاع غزة، كي يشرع في تنفيذها، غير أنه، ولسبب غامض وغير مفهوم، قرّر أن يذهب بهذه الخطة إلى مجلس الأمن، أملاً منه بالحصول على تفويض يسمح له بتنفيذها تحت غطاء من الشرعية، وهو ما نجح فيه فعلاً، حين تمكّن من استصدار قرار مجلس الأمن رقم 2803.
ليس من الواضح بعد ما إذا كان ترامب قد أقدم على هذه الخطوة طواعية أم أنه لجأ إليها مضطراً بسبب إصرار الدول التي طلب منها المشاركة في "قوة الاستقرار الدولية" أن تحصل على تفويض بذلك من مجلس الأمن، وأن تزوّد بمهام وصلاحيات تتسق مع القواعد المعمول بها في إطار قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
ولأنه يصعب ضمان نجاح خطة ترامب، خصوصاً بعد أن أصبحت أممية بموجب القرار 2803، إلا إذا تمكّنت من إعادة فتح الطريق المغلق أمام إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بالتوازي مع الوقف الدائم للحرب في غزة، يتعيّن على ترامب أن يتصرّف منذ الآن فصاعداً بوصفه رئيساً لقوة عظمى تشغل مقعداً دائماً في المجلس المسؤول عن حفظ السلم والأمن في العالم، وليس بوصفه الحليف الموثوق لـ "دولة" تشنّ حرب إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من عامين.
في تاريخ المنطقة صفحة من المهم أن يطالعها ترامب اليوم، لعلها تفيده في التعرّف إلى جذر المشكلة التي تعاني منها شعوب هذه المنطقة منذ أكثر من قرن من الزمان. فعندما أقدم بلفور، وزير الخارجية البريطاني، على إصدار وعد بمساعدة الحركة الصهيونية على إقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين"، كان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون قد بدأ يهيّئ شعبه للتخلّي عن سياسة الحياد والمشاركة في الحرب العالمية الأولى إلى جانب كلّ من بريطانيا وفرنسا، ما مكّنه من تأدية دور هام لحسم هذه الحرب لصالح الحلفاء.
ومع ذلك فقد حرص ويلسون على أن ينأى بنفسه بعيداً عن المخططات البريطانية والفرنسية تجاه المشرق العربي. صحيح أنّ بعض المصادر تشير إلى موافقته الضمنية على هذا التصريح، لكن أغلب المصادر تؤكّد أنه لم يصدر أيّ إعلان رسمي بالموافقة على مضمون هذا الوعد، ما يوحي أنه كان شديد الإخلاص للمبادئ التي آمن بها و عكستها النقاط الأربع عشرة التى حملت اسمه، خصوصاً حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وهي المبادئ التي حملها معه إلى مؤتمر الصلح في فرساي وبدا مصمّماً على وضعها موضع التطبيق.
وحين تكشّفت في هذا المؤتمر مجمل التناقضات التي انطوت عليها السياسات البريطانية والفرنسية تجاه المشرق العربي إبان الحرب ("اتفاقية سايكس–بيكو" حول تقسيم المشرق العربي إلى منطقتي نفوذ بريطانية وفرنسية، "وعد بلفور" حول إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، "مراسلات حسين–مكماهون" حول دعم المطالب المتعلقة بإنشاء دولة عربية موحّدة ومستقلة في المشرق العربي)، أبدى الرئيس ويلسون حرصاً واضحاً على استطلاع رأي شعوب المنطقة تجاهها، إعمالاً لمبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها.
ورغم معارضة بريطانيا وفرنسا لهذه الخطوة، ورفضهما المشاركة بتشكيل اللجنة التي اقترحها لتقصّي الحقائق في سوريا ولبنان وفلسطين، أصرّ ويلسون على المضي قدماً في تشكيلها وعلى أن تبدأ في مباشرة مهمتها فوراً، رغم أنها أصبحت لجنة أميركية بحتة (لجنة كنج – كران Commission King – Crane). وقد قامت هذه اللجنة بزيارة مطوّلة للمنطقة، شملت القدس ويافا وحيفا ونابلس ودمشق وبيروت والأردن ومناطق تقع في لواء الإسكندرونة التركي، التقت خلالها بأعداد كبيرة من السياسيين ورؤساء العشائر والقبائل والكتّاب والمثقّفين ورجال الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي، وقامت بجمع العديد من الوثائق والتوقيعات التي استندت إليها في كتابة تقرير مفصّل، ضمّنته مقترحات محدّدة.
يعدّ تقرير لجنة كنج-كران من أهمّ الوثائق التاريخية التي تعكس بصدق تطلّعات شعوب هذه المنطقة في مرحلة بالغة الأهمية والحساسية. ولصعوبة الادعاء بانحيازها، نظراً لكونها لجنة أميركية لا تضمّ أياً من سكان المنطقة أو ممثّلي القوى الاستعمارية الطامعة فيها، فقد تمكّنت من الانفتاح على الجميع ومن أداء عملها في حياد تامّ، والتقت بممثّلين عن الشرائح السياسية والاجتماعية والثقافية كافة، والمعبّرين عن كلّ وجهات نظر الأغلبية والأقليات والأديان والملل والنحل والطوائف، ووجّهت للجميع أسئلة متنوعة وصريحة حول رؤية كلّ منهم لواقع ومستقبل المنطقة، وحول مواقفهم تجاه كلّ القضايا المطروحة على الساحة: وعد بلفور، الهجرة اليهودية، الوحدة العربية، الانتداب..إلخ، بل ولم تجد حرجاً في السؤال عن نوع الانتداب الذي يفضّلونه، في حال ما إذا تعيّن عليهم أن يختاروا بين الانتداب البريطاني والفرنسي والأميركي!.
ففيما يتعلّق بوعد بلفور والهجرة والدولة اليهودية، ورد في تقرير اللجنة بالحرف الواحد: "الرغبة شبه الإجماعية بين السكان هي رفض الهجرة اليهودية ورفض مشروع الوطن القومي اليهودي"، وأنّ "تنفيذ وعد بلفور بالقوة سيفتح الباب أمام استخدام الرماح والحراب إلى الأبد، وهذا ليس حلاً عملياً ولا إنسانياً".
وتأسيساً على ذلك، أوصت اللجنة بـ "وقف الهجرة اليهودية، ومنع إقامة دولة يهودية، وعدم فصل فلسطين عن سوريا". وفيما يتعلّق بمسألة الوحدة العربية، أكد التقرير أنّ "أغلبية ساحقة من سكان سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن تطالب بدولة عربية واحدة تحت حكم الملك فيصل"، وأنّ "الرغبة العامّة للأهالي هي الوحدة العربية، واستقلال سوريا الكبرى".
وفيما يتعلّق بالانتداب، ذكر التقرير أنّ أفضل أنواع الانتداب، إذا كان شراً لا بدّ منه، هو "الانتداب الأميركي، لأنّ الناس يخشون فرنسا، ولا يثقون ببريطانيا بعد وعد بلفور، ويرون في أميركا دولة محايدة". وفيما يتعلّق بالموقف من الأقليات، أوصت اللجنة بما يلي: "حماية المسيحيين في سوريا، وحماية اليهود كجماعة دينية، مع رفض منحهم سيادة سياسية منفصلة". وفيما يتعلّق بالتقسيمات السياسية المقترحة من بعض الأطراف أو الجهات، أكد التقرير أنّ "تقسيم سوريا يتعارض مع إرادة السكان وأنّ الأغلبية الساحقة ترفض هذا التقسيم، وبالتالي ترفض قيام لبنان الكبير وترى أنّ "فلسطين عربية وتشكّل جزءاً لا يتجزأ من سوريا الكبرى".
قرأ الرئيس وودرو ويلسون تقرير لجنة كنج-كران بعناية، ووافق إجمالاً على ما جاء فيه وأدرك على الفور أنّ ما خلص إليه التقرير من استنتاجات وتوصيات سيجابه بمعارضة شديدة من جانب كلّ من بريطانيا وفرنسا اللتين تصرّان على فرض سياساتهما على المنطقة مهما كان الثمن. ولأنّ التيار الانعزالي في الولايات المتحدة كان قد بدأ يزداد قوة وشعبية، وأنه قد لا يستطيع حتى إقناع الكونغرس بالتصديق على اتفاقيات الصلح، ما سيؤدّي حتماً إلى غياب الولايات المتحدة عن عصبة الأمم التي أدّى بنفسه دوراً أساسياً في صياغة عهدها، فقد بدأ يشعر أنه يقود معركة خاسرة على مختلف الجبهات.
وحين أصيب قبل نهاية فترة ولايته بشلل نصفي جعله أشبه بالقعيد العاجز عن ممارسة مهام منصبه على الوجه الأكمل، انتابه شعور بأنه على وشك أن يخسر المعركة فعلاً، وهو ما حدث بالفعل حين رفض الكونغرس التصديق على اتفاقيات الصلح. ولأنّ الولايات المتحدة غابت عن عصبة الأمم التي بدأت تسيطر عليها قوى الاستعمار التقليدي، فقد أصبح الطريق ممهّداً أمام بريطانيا كي تتمكّن ليس من فرض انتدابها على فلسطين فحسب وإنما أيضاً من إدراج "وعد بلفور" بنداً في صلب صكّ الانتداب نفسه، ما يعني تحوّل وعد "قدّمه من لا يملك لمن لا يستحقّ" إلى التزام دولي تمارسه باسم المجتمع الدولي ككلّ دولة استعمارية تتخفّى وراء نظام الانتداب!!
لم يناقش تقرير لجنة كنج-كران أبداً في أيّ جلسة علنية من جلسات عصبة الأمم، بل وظلّ محجوباً عن الأنظار لأكثر من ثلاث سنوات ولم يسمح بنشره إلا عام 1922، أي بعد إبرام صكّ الانتداب البريطاني على فلسطين بالفعل.
ولأنه ليس بوسع أحد أن يتنبّأ بما كان يمكن أن يكون عليه شكل النظام الدولي، بصفة عامّة، وشكل منطقة الشرق الأوسط، بصفة خاصة، لو قدّر لهذا التقرير أن يشقّ طريقه بشكل طبيعي داخل عصبة أمم لا تسيطر عليها قوى الاستعمار التقليدي، فليس من المفيد ذرف الدموع على اللبن المسكوب.
من المؤكّد أنّ ترامب لم يقرأ هذا التقرير، وربما لم يسمع عنه أصلاً. ولأنه يدير البيت الأبيض بعقلية التاجر صانع الصفقات، وليس بعقلية أستاذ العلوم السياسية الباحث عن الحقيقة، كما كان وودرو ولسون، فليس من المتوقّع أن يأخذ بنصيحتنا ويقرأه، لكنه لو فعل فسوف يسهل عليه اكتشاف أسباب حالة عدم الاستقرار المزمن الذي تعانيه المنطقة منذ أكثر من قرن كامل من الزمان، وسيدرك حينئذ أنّ عدم تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره هو السبب الرئيسي في أنهار الدم التي لا تزال تسيل في المنطقة، وربما ينتابه شعور بأنّ لديه الآن فرصة حقيقية لوقف نزيف الدم في المنطقة، خصوصاً بعد أن أصبح مفوّضاً من مجلس الأمن بالبحث عن تسوية لهذه المعضلة المستعصية، إن كان يرغب حقاً في الحصول على جائزة نوبل للسلام.