عن الدولة والسيادة والسلاح

تم وضع بيئة المقاومة من المدنيين العزّل بين خيارين، الموت الجماعي والتجويع وتدمير المنازل والمستشفيات، أو الاستسلام وهدر الكرامة، وذلك في أقذر شكل عرفه الصراع عبر التاريخ.

  • قوى وأطراف محور المقاومة تحت ضغط النار والعدوان الصهيوني الأميركي المتواصل.
    قوى وأطراف محور المقاومة تحت ضغط النار والعدوان الصهيوني الأميركي المتواصل.

منذ طوفان الأقصى وتداعياته، وقوى وأطراف محور المقاومة، الحكومية وغير الحكومية، تحت ضغط النار والعدوان الصهيوني الأميركي المتواصل، لطي ملف المحور برمّته، وصولاً إلى الشرق الأوسط الإبراهيمي المتصهين، وكان العنوان، بل القناع الأبرز، لكل ذلك هو إغلاق ملف الأسلحة تحت عناوين مختلفة، نزع، تسليم، مصادرة.

وفيما كانت إيران مطالبة بإغلاق مشروعها النووي والبالستي، صار مطلوباً من حزب الله وحركة حماس والقوى العراقية المقاومة تسليم الأسلحة، للجيش اللبناني والعراقي في حالة الحزب والمقاومة العراقية، وللجيش (الإسرائيلي) في حالة حماس والجهاد والبقية، أما أنصار الله في اليمن، فالسيناريو العقيم المتواصل ضدهم هو إنهاء وجودهم برمته. 

في السياق ذاته، تم وضع بيئة المقاومة من المدنيين العزّل بين خيارين، الموت الجماعي والتجويع وتدمير المنازل والمستشفيات، أو الاستسلام وهدر الكرامة، وذلك في أقذر شكل عرفه الصراع عبر التاريخ، استسلام الأب أو الابن المقاتل وتحويل وطنه إلى مزارع عبودية، أو استهداف عائلته أطفالاً ونساء ودفنهم أحياء.

ذلك ما يستدعي مسؤولية غير مسبوقة في ظروف صعبة للغاية ووسط مليار عربي ومسلم لم يحتجّ معظمهم لا بلسانهم ولا حتى بقلوبهم، ولا يزال قسم منهم تحت تأثير تعبئة طائفية مريضة مخزية.

بالتأكيد لا تستطيع قوى المقاومة دفن رأسها في الرمال إزاء المذابح الصهيونية – الأميركية بحق الأطفال والنساء وتدمير المنازل على رؤوسهم، وفي الوقت نفسه، لا تستطيع الإذعان ولا يحق لها ذلك، وقد ألحقت خسائر فادحة بالعدو في ميدان المواجهات تحت سماء تديرها الأقمار الاصطناعية الأطلسية، وليس مطلوباً من المقاومة مواصلة الاشتباك من دون تحسّب المؤمن الصابر، ولكن بوسعها إدارة الصراع وتأكيد حتميته والإعداد له بانتظار جولات العدوان التالية الوشيكة، وكذلك مكر التاريخ الذي لا يطول وفق كل التجارب السابقة، كما أظهر الرد الردعي الإيراني على العدوان بعد أن ساد اليأس أوساطاً كثيرة. وإضافة إلى الاستعداد الميداني للجولات المتوقعة المذكورة، لا بد من الاشتباك السياسي مع الاستراتيجية السائدة ودحضها وتفكيكها بعناوينها الثلاثة: 

1- فيما يخص الكيان الصهيوني ولبنان، لن ننطلق من المناهج والمرجعيات الإسلامية أو القومية أو اليسارية في تشخيصها، سواء من زاوية سنية أو شيعية بكل مراكزها التاريخية (النجف، قم، مشهد)، أم من القراءات الاشتراكية التي ترى في الكيان محمية إمبريالية، ولا من القراءات القومية، سواء عند الناصرية أم عند حركة القوميين العرب أم أنطون سعادة أم ياسين الحافظ أم البعث بكل تياراته.

سننطلق من المرجعيات المسيحية اليمينية التي أسست لفكرة (القومية اللبنانية) ومرجعيات حزب الكتائب وكذلك القوات اللبنانية، والتي سبقت بعقود طويلة كل تداعيات الصراع الحالي:

المرجعية الأولى، هي ميشال شيحا الذي صار لبنانياً كيانياً أكثر من اللبنانيين، فهو مسيحي عراقي جاء إلى لبنان مبكراً ويُعد مهندس الكيانية اللبنانية المسيحية، وهو سابق للثورة الإيرانية بالتأكيد، فقد كان نظام الشاه هو الحاكم آنذاك، وكذلك ثورات تموز العربية في مصر والعراق ناهيك عن آذار السورية 1963.

المرجعية الثانية، هو الدكتور كمال يوسف الحاج، الذي جمع بين نقيضين، فيلسوف القومية اللبنانية الكتائبية، وفيلسوف اللغة العربية، وقد قُتل خلال الحرب الأهلية وكان كتائبياً معروفاً.

الدكتور كمال الحاج وشيحا، اعتبرا الكيان الصهيوني الخطر الداهم الأساسي على الكيان اللبناني ولا يتقدمه أي خطر، ولم يجدا في الكيان الصهيوني مجرد دولة ناشئة على حدود لبنان يمكن أن تقضم منطقة هنا أو هناك، أو تسرق شيئاً من مجرى نهر الليطاني والمياه الجوفية اللبنانية، بل وجدا فيه خطراً بنيوياً وجودياً أياً كانت الأحزاب والسياسيات التي تسيطر على هذا الكيان.

2- فيما يخص مفهوم الدولة والسيادة والحق باحتكار السلاح وقرار السلم والحرب، أيضاً لن ننطلق من المناهج والمرجعيات الاشتراكية والقومية العربية والسورية، والإسلامية السنية والشيعية، لا من الميثاق الناصري ولا أعمال سعادة ولا الماوردي وابن المقفع والفارابي وابن سينا وولاية الفقيه والحاكمية وكل نظريات مملكة السماء والأرض.

سنعتمد فقط أفكار الآباء المؤسسين للدولة البورجوازية الحديثة وفي مقدمتهم فلاسفة العقد الاجتماعي بكل فلاسفته، لوك، هوبز، ميل، روسو، هيغل، كانط.. الخ

وقد قامت فكرة الدولة وسيادتها لديهم على مفاهيم ومنطلقات واضحة ومحددة لا لبس فيها، ويعرفها السيد رئيس الوزراء اللبناني الحالي قبل غيره، باعتباره أستاذاً في تاريخ الحقوق والدساتير. إضافة إلى أركان مثل الإقليم والشعب وما استقرت عليه الدول من تحولات كبرى في الأشكال السياسية، من دولة المدينة إلى الامبراطوريات ودولة وستفاليا القومية البورجوازية، وفقاً لأنماط الإنتاج الاقتصادية وتعبيراتها الثقافية والفكرية، وإضافة إلى الأطر القانونية والدستورية المعروفة والمحطات التي لازمتها منذ القانون الطبيعي إلى اللاهوت السياسي إلى نظريات العقد الاجتماعي، ثمة أركان أساسية للدولة الحديثة، هي:

- الركن الأول للدولة هو مفهوم الحق كمفهوم فلسفي تاريخي منسوب في الأزمنة الحديثة إلى هيغل، وهو بهذا المعنى صنو الحرية، ليس بمعناها المتعارف عليه عند جماعات الربيع العربي، أي الحريات السياسية خارج شرطها التاريخي، بل الحرية كوعي للضرورة التاريخية التي تكفل الانتقال من حالة الطبيعة وما قبل الدولة والمجتمع إلى حالة الحضارة، أي الانتقال من التشكيلات العائلية والعشائرية والطائفية ومحاصصتها إلى التشكيلات الطبقية التي تفضي إلى المدنية والمواطنة.

وليس بلا معنى ربط هيغل مفاهيم هذا التحول (الروح الموضوعي) بمفهوم تاريخي للدولة في سياق ثورة بورجوازية حقيقية، وليس على هامشها، ومن موقع التبعية الذي يحول الدول إلى كوميديا دول كولونيالية، فهل تنتمي الدول والتشكيلات الطائفية والقبلية والكولونياليات المشوهة إلى مفهوم الدولة الحديثة ابتداء؟ وهل تكفي الاتفاقيات الخارجية لإضفاء شرعية عليها؟ وليست الحالة اللبنانية استثناء من ذلك، من المتصرفية والأطراف الخارجيين الضامنين لها، إلى لبنان الكبير (لبنان غورو) والذي تحفظ "البيارتة" عليه (كان العثمانيون قد جعلوا من بيروت ولاية كاملة منافسة لجبل لبنان).

- الركن الثاني للدولة هو السيادة: سنفترض أولاً أن لا أحد من رجال القانون والسياسة يعود بنا إلى الفرنسي بودان وكتابه (الجمهورية) الصادر في القرن السادس عشر الذي يعد مؤسساً لمفهوم سيادة نابع من روما القديمة وحكم العائلات والتقسيم الأنثروبولوجي للعالم مع شيطنة مقنعة للجنوب (الماكر، بحسب بودان).
وسنفترض ثانياً أنه لا يختلف اثنان على البديهية التأسيسية للسيادة، فلا يقوم عدة أطراف خارجيين بالاستقواء بطرف ثالث مثل العدو الصهيوني في الحالة اللبنانية لترتيب البيت الداخلي لبلد من البلدان، ثم تطلب من المفاتيح الجديدة النافذة التصرف بالسيادة والدعوة لاحتكار السلاح وقرار الحرب والسلم.

إن السيادة تحتاج إلى بنية اجتماعية – اقتصادية تفتقر لها معظم البلدان العربية التي تنتمي إلى ما سماه المفكر المغربي، عبد الله العروي، "الفوات الحضاري"، وهو ما يؤول موضوعياً إلى ما يسميه مفكر مغربي آخر هو محمد عابد الجابري، بثلاثية القبيلة (أو الطائفة) – الغنيمة – العقيدة، المقنعة في حالة الدولة (المستحدثة) لاالحديثة بثلاثية مزورة باسم الحزب (أو المجتمع السياسي) والاقتصاد والأيديولوجيا.

بالمحصلة، في حالات الفوات الحضاري وثلاثية الجابري، فإن السيادة ليست أكثر من غطاء أيديولوجي للقوى النافذة المرتهنة موضوعياً، شاءت أم أبت للخارج، ولا أخطر عربياً من الخارج الذي تمثله المتروبولات الرأسمالية، لأنه الحامي والأب المجرم لربيبته الصهيونية الأكثر إجراما وتوحشاً.

وكما لا يمكن النظر إلى السيادة خارج شروطها التاريخية البنيوية، فلا يمكن النظر إليها بمعزل عن مفهوم الحرية كمفهوم فلسفي تاريخي، فمن يملك حرية محصنة بالشروط المذكورة له الحق بامتلاك السيادة.

- الركن الثالث هو الأمن، الذي شكل ولا يزال العنصر الأساسي في أي عقد اجتماعي، سواء ديموقراطياً (لوك)، أو ديكتاتورياً (هوبز)، وبإجماع كل الفقهاء الدستوريين ثمة تأكيد على البعد الاجتماعي لهذا الأمن، من الحق في الحياة إلى الحق في العدالة، وهو ما يتناقض موضوعياً مع كل فلسفة البنك وصندوق النقد الدولي ومدرسة شيكاغو اليهودية الرأسمالية المتوحشة.

ولا يخفى على أحد أن هذا الركن لا وجود له في العقل الأميركي والرجعي، الذي يدير اليوم مزاعم معركة السيادة في لبنان وغيره، فإعادة هيكلة الدولة، أي تصفيتها وتجريدها من أي مضمون اجتماعي، ملازم لمحاولات تجريد حزب الله من سلاحه.

على هامش ما سبق، هل يمكن تجاهل ما يجري تداوله عن الموجة الثانية من اعتداءات صهيونية أميركية متوقعة، وأهمية وجود مقاومة مسلحة لردعها، فالمسالة لا تتعلق فقط بتحسّبات وحسابات حزب الله من تفاهمات حول السلاح تسبق إعادة إعمار حقيقية، ولا بالحد الأدنى من الضمانات المشكوك فيها، بل بوضع لبنان عارياً من كل قوة أمام تداعيات الاعتداءات الوشيكة.

وهي اعتداءات متوقعة حقاً لأن مشروع الشرق الأوسط الكبير المتصهين لا يزال متعثراً بحسب العقل الصهيوني – الأميركي وأشياعه العرب في محميات النفط والغاز المسال، وعندما يتحدث الحكم الجديد في سوريا وداعموه عن سوريا بلا حروب، فالمقصود هنا الحروب مع (إسرائيل)، بل والتحالف مع العدو الصهيوني في مواجهة محور المقاومة.

الموجة الثانية من الاعتداءات قادمة، ولبنان بحاجة إلى كل قطعة سلاح ولكل مقاوم إذا ما أراد الحفاظ على نفسه وموارده المائية، وثمة كلام متداول عن حرب متوقعة في وقت واحد، تشن على الجنوب والبقاع، ويجري تداول سيناريوهات قد تبدو غريبة، ومنها قضم واستبدال مدن بمدن وموانئ بموانئ: 

- العدو يضع يده على الجنوب السوري كله ومنابع المياه من الجولان ومصادر نهر الأردن إلى مزارع شبعا، وعلى الضفة الغربية وبالتالي إطلاق موجة ترانسفير إلى الأردن.

- تركيا تضع يدها بالتدريج على حلب وجوارها وتعيد ربطها بميناء أنطاكيا، مقابل فبركة مشاكل في طرابلس من أجل إلحاقها بسوريا (الجديدة) كبديل لميناء اللاذقية غير الآمن ديموغرافياً.

- محاولة اللعب بالداخل الإيراني عبر "الغلاديو"، والمقصود هنا شبكات التهريب التي صارت جماعات معارضة متحالفة مع بؤر عميلة في أطراف الدولة الإيرانية. 

- الإزاحة عن التناقض الخارجي مع العدو الصهيوني نحو تباينات داخلية وتصعيد محتمل لقوى مشبوهة، قد تدفع باتجاه صدامات داخلية في لبنان.

ذلك وغيره، سبق وتنبأ به الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، حين حذر من قيام تحالف عربي – إسرائيلي مشترك برعاية أميركية يستبدل جبهة الصراع مع العدو الصهيوني بجبهات أخرى متناثرة، طائفية وجهوية، تقوم على خلط التناقضات والأولويات ومعسكر الأعداء مع معسكر الخصوم مع معسكر الأصدقاء، بقراءات مشبوهة أكثر منها ساذجة أو غبية وبتوظيفات مذهبية وجهوية.