"ذا تلغراف": فخ ديون الرفاهية الاجتماعية يلتهم اقتصادات أوروبا

بريطانيا ليست الدولة الوحيدة التي تعيش فوق إمكانياتها، فالإدمان على الرفاهية يدمّر فرنسا وألمانيا أيضاً.

0:00
  • "ذا تلغراف": فخ ديون الرفاهية الاجتماعية يلتهم اقتصادات أوروبا

صحيفة "ذا تلغراف" البريطانية تنشر تقريراً يتناول أزمة الديون وتصاعد الإنفاق العام في أوروبا الغربية، مع التركيز على ألمانيا، فرنسا وبريطانيا، وكيف أن الإفراط في سياسات الرفاهية الاجتماعية جعل هذه الدول "تعيش فوق إمكانياتها".

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية بتصرّف:

في يوم الخميس، أعلن فريدريش ميرتس، مستشار ألمانيا، أنّ بلاده كانت "تعيش فوق إمكانياتها منذ سنوات". وقد ركّز على نظام المعاشات التقاعدية، الذي يُعَدّ من أكثر الأنظمة سخاءً في أوروبا، إذ يكلّف 31 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما وصفه أحد وزرائه بأنّه "بحاجة ماسّة وملحّة إلى إصلاح". ولرعب شعبه المحبّ للرفاهية، وعد ميرتس بسياسة تقشّف "مؤلمة" لتجنيب الأجيال الألمانية الشابة عبء الديون المفرطة.

كانت مشكلته شبيهة، وإن كانت أقل خطورة، بتلك التي عبّر عنها رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، فرنسوا بايرو. فقد ألقى باللوم على الإفراط في الرفاهية الاجتماعية (وخاصة فاتورة المعاشات) باعتباره السبب في تفاقم ديون فرنسا، وقال إنّ نحو 44 مليار يورو يجب اقتطاعها من الإنفاق العام السنوي، عبر رفع سن التقاعد وإلغاء عطلتين رسميتين. وقد أثار ذلك غضب الشعب، حتى إنّ 364 نائباً من أصل 577 في الجمعية الوطنية أظهروا أوراق اعتمادهم الشعبوية بموافقتهم على الاعتراض، وصوّتوا للإطاحة ببايرو. فالفرنسيون، بدورهم، يحبّون الرفاهية الاجتماعية إلى درجة أنّهم يتظاهرون بعدم إدراك الأضرار الناجمة عن الإفراط في الإنفاق العام، أو الحاجة الملحّة إلى كبحه.

أما بريطانيا، فقد انضمّت إلى هذا النادي في وقت مبكر من الصيف، عندما تخلّت الحكومة عن مقترح متواضع نسبياً لخفض المخصّصات الاجتماعية، خوفاً من الهزيمة في البرلمان، إذ رأى كير ستارمر (الذي يتمتّع حزبه حالياً بأغلبية 148 مقعداً في مجلس العموم) أنّه لا يستطيع تمرير القرار. وقد قرّر حزب العمّال أنّ شعب المملكة المتحدة، على ما يبدو مثل الشعبين الألماني والفرنسي، لن يتحمّل أي تخفيض في إعانات الضمان الاجتماعي، مهما كانت عواقب البذخ.

على الأقل، كان ميرتس وبايرو صريحَين بما يكفي للاعتراف بعدم استدامة سياسات الإنفاق، إذ ألمحت آخر حكومة فرنسية إلى أنّ صندوق النقد الدولي قد يُستدعى ما لم يتم خفض الإنفاق والدَّين، بينما أشار ميرتس إلى أنّه قد يتعيّن تقييد المعاشات. أما ستارمر فلا يجرؤ على التلويح بمثل ذلك، ولذا، فرغم أنّ عواقب عدم التحرّك قد تكون مماثلة، فإنّها قد تأتي على نحو أكثر صدمة.

إنّ الديون الحكومية تُشترى أساساً من قبل مؤسسات كبرى، وأحياناً من دول أجنبية. وعندما يُظهر مستوى مديونية بلد ما ليس فقط سوء إدارة اقتصادية متهوّرة، بل أيضاً احتمال وجود مخاطر مفرطة بشأن سداد ما هو مستحقّ بالفعل، تسوء الأمور. وقد شهدنا ذلك مؤخراً في بريطانيا، حيث ارتفعت عوائد السندات – أي معدلات الفائدة المطلوبة قبل أن يقبل أحد بشراء الدين – بشكل حاد.

لقد عانت فرنسا وألمانيا وبريطانيا جميعها من اتجاه تصاعدي طويل الأمد في الديون، سببه الوحيد قرارات سياسية تهدف إلى استرضاء الناخبين بالسماح لهم، بحسب تعبير ميرتس، "بالعيش فوق إمكانياتهم". فقد بلغ عجز ألمانيا العام الماضي 118.1 مليار يورو، بزيادة 15 ملياراً عن عام 2023. أما فرنسا، فسجّلت عجزاً أضخم بكثير بلغ 168.6 مليار يورو، رغم أنّه كان متوقّعاً قبل عام أن يبلغ 146.9 ملياراً، وهو أصلاً مستوى خطير. وقد شكّل العجز 5.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يُسقط مصداقية قاعدة الثلاثة في المائة المفترضة في منطقة اليورو، والتي تخرقها فرنسا منذ عام 2019. ومن المتوقّع أن يظلّ عند 6.14 في المائة بحلول عام 2030، وذلك على افتراض أنّ الاعتماد على الرفاهية الاجتماعية لن يزداد سوءاً.

وفي المملكة المتحدة، بلغ حجم الاقتراض 57.8 مليار جنيه إسترليني في الأشهر الثلاثة الممتدة من إبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران وحدها. ولم يسبق أن تجاوز هذا المستوى إلا خلال فترة الجائحة، حين انفلتت السيطرة على الإدمان على الإنفاق الحكومي. وبين يونيو 2024 ويونيو 2025 تضاعفت مدفوعات الفوائد على الدَّين العام من 8 مليارات إلى 16.4 مليار جنيه. وأصبح صافي الدين يعادل 96.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أفضل قليلاً من نسبة فرنسا البالغة 114 في المائة، لكنّه أسوأ بكثير من نسبة ألمانيا البالغة 62.5 في المائة. وما يثير قلق ميرتس أنّ التوقعات تشير إلى بلوغ الدَّين الألماني 74 في المائة من الناتج المحلي بحلول 2030: وهو في الواقع محظوظ.

ما ينبغي أن يقلق أوروبا الغربية بأسرها هو هوية دائنيها. فأحد أسباب الكساد الذي ضرب الدول المتقدّمة في عام 1931 كان انهيار بعض مصارفها؛ إذ كانت بريطانيا على شفا الإفلاس في أغسطس من ذلك العام، الأمر الذي اضطرّها إلى التعهّد بخفض كبير في الإنفاق، وخاصة في مخصّصات الرفاهية. ومعظم وزراء حكومة رامزي ماكدونالد استقالوا آنذاك بدلاً من تنفيذ تلك الإجراءات، ما دفعه إلى تشكيل حكومة وطنية لفرضها، وبذلك استعاد ثقة العالم في أوضاعها المالية. وألمانيا ليست قريبة بعد من استدعاء صندوق النقد الدولي، غير أنّ ميرتس مُحق في مسعاه لتصحيح عدم استدامة دولة الرفاه الألمانية الآن قبل أن يصبح الوضع خطيراً. أما بريطانيا وفرنسا، فهما بالفعل على مقربة خطرة من تلك النقطة.

يمتلك بنك إنكلترا – الذي حذّر محافظه الأسبوع الماضي المستشارة من أنّ سياساتها غذّت التضخّم وأبقت أسعار الفائدة مرتفعة – جزءاً من الدين الوطني. لكن كذلك تمتلكه صناديق التقاعد، وشركات الاستثمار، والمصارف التجارية. ويملك المستثمرون الأجانب نحو ربع هذا الدين. فما الذي سيحدث لكل هؤلاء المستثمرين، المحليين والأجانب، إذا لم يُضبط الإنفاق، وبالتالي الاقتراض؟ إنّ التاريخ يوحي بأنّ بعضهم سيتوقّف عن شراء الديون خوفاً من خيانة ثقة مستثمريهم – بل إنّ ارتفاع عوائد السندات يوحي بأنّ هذا يحدث بالفعل. وهذا يعني أنّه إذا لم نستطع إنهاء إدماننا على الرفاهية بالوسائل السياسية – أي باعتباره مسألة "أخلاقية" كما وصفها رئيس الوزراء – فإنّ الأسواق، أو ربما صندوق النقد الدولي، سيفرضان علينا إنهاءه بحرماننا من الاقتراض المفرط. إنّ الحاجة إلى إنهاء هذا الإسراف أمر لا جدال فيه. ويبقى فقط أن نقرّر الكيفية التي سيتم بها ذلك.

نقله إلى العربية: الميادين نت.