"نيويوركر": الرجال الأوكرانيون الذين يقتربون من سن التجنيد يفرّون بأعداد كبيرة

 أدّت سياسة جديدة إلى هجرة المواطنين الذكور. هل سيعودون إذا انتهت الحرب؟

  • "نيويوركر": الرجال الأوكرانيون الذين يقتربون من سن التجنيد يفرّون بأعداد كبيرة

مجلة "نيويوركر" الأميركية تنشر مقالاً يتناول تجربة شاب أوكراني يُدعى كليم ميلتشينكو، عمره 22 عاماً، أثناء محاولته مغادرة أوكرانيا خلال الحرب، وما واجهه من قيود على التنقل والخدمة العسكرية.

يحلل المقال الوضع السياسي والعسكري والاجتماعي لأوكرانيا أثناء الحرب، مركزاً على قضية الهروب من الخدمة العسكرية، حيث يحاول أعداد كبيرة من الرجال الهرب أو الاختباء هرباً من الخدمة العسكرية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في 10 تشرين الأول/أكتوبر، كنت جالساً في قطار نوم أوكراني أمام كليم ميلتشينكو، شاب هادئ من زابوريزهيا متجه إلى فروتسواف لرؤية والدته، بينما كنت أنا متوجهاً إلى كراكوف في عطلة قصيرة.

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022، منعت الحكومة الأوكرانية الرجال بين 18 و60 عاماً من مغادرة البلاد، ثم رفعت الحظر هذا العام للرجال تحت 23 عاماً. كان ميلتشينكو البالغ 22 عاماً يستغل الفرصة القانونية للهروب من خطر القصف، قائلاً إنه يريد فقط البقاء على قيد الحياة.

قبل الرحيل، باع دراجته وودّع أصدقاءه واستقل حافلة لرؤية والده. لكن عند عودته، استقبله ضباط التجنيد واصطحبوه إلى المركز، حيث زارته جدته بعد يومين. شعر ميلتشينكو بالطمأنينة لرؤية والده، الذي أخبره أنه قد يُرسل للخدمة لكنه لن يكون على خط المواجهة.

استقل ميلتشينكو القطار إلى بولندا حاملاً حقيبتي ظهر، بعد أن أرسل صندوقاً كبيراً من الملابس مسبقاً، أمضى الرحلة نائماً أو يشاهد يوتيوب. قبل ثلاثين دقيقة من الحدود، أُبلغ بأن يكون جاهزاً بوثائق السفر، بعد أن تأكد مراراً من تحديث تسجيله العسكري وشاهد فيديوهات تعليمية حول ما يجب قوله لمسؤولي الهجرة البولنديين.

توقف القطار عند محطة الحدود في جو غائم وممطر، حيث أطلّ كلب مدرّب على كشف المخدرات وتبعه حارس أوكراني راجع سجل ميلتشينكو العسكري. بعد ساعة، أُعيدت جوازات السفر، وسُمّي ميلتشينكو للتحقق من هويته من دون أي مشكلة، بينما تأخر القطار ساعتين بسبب احتجاز رجلين مجهولين.

الحرب في أوكرانيا هي حرب استنزاف. وحتى قبل أن تقدم إدارة ترامب، الأسبوع الماضي، خطة من ثمانية وعشرين نقطة لإنهائها، وهي خطة تتطلب، على الأقل في شكلها الأولي، من أوكرانيا التنازل عن الأراضي، وتقليص حجم جيشها، والتعهد بعدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، كانت روسيا، التي يزيد عدد سكانها عن ثلاثة أضعاف ونصف عدد سكان أوكرانيا، هي المسيطرة.

في 27 تشرين الأول/أكتوبر، صرّح الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، للصحفيين بأنّ القوات الروسية تفوق القوات الأوكرانية عدداً بنسبة ثمانية إلى واحد في المعركة الدائرة على بوكروفسك، وهي مدينة ذات أهمية استراتيجية في منطقة دونيتسك الشرقية. ثم، في وقت سابق من هذا الشهر، استغلت القوات الروسية الضباب الكثيف للاستيلاء على خمسة عشر ميلاً مربعاً في منطقة زابوريزهيا المجاورة. ووفقاً لـ "Deepstate"، وهي منظمة أوكرانية تراقب التغييرات في ساحة المعركة، كان هذا أكبر مكسب إقليمي لروسيا في يوم واحد هذا العام.

في أماكن أخرى، دمّرت الصواريخ الروسية البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا، مما أدّى إلى انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد، وزاد من إحباط الرأي العام الذي ضاقت به الحرب ذرعاً، والذي يواجه صبره على إدارة زيلينسكي بفضيحة فساد تتعلق برشاوى بقيمة مئة مليون دولار، يُزعم أنها دفعها متعاقدون في قطاع الطاقة تحديداً. وتضاءلت معنويات الجنود بنفس القدر، إن لم يكن أكثر، إذ ينتظر الكثيرون بدلاء لم يأتوا بعد.

اختبأ مئات الآلاف من الرجال الأوكرانيين أو فروا إلى الخارج لتجنب الخدمة العسكرية. وتشير تقديرات جهاز حرس الحدود الأوكراني إلى أنّ نحو سبعين شخصاً لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار عبر الغابات والأنهار. كما أنّ العديد ممن جُنّدوا وأُرسلوا إلى خطوط المواجهة هجروا مواقعهم في أول فرصة سانحة. قال لي جندي يقاتل بالقرب من بوكروفسك: "يبدأون بالسير غرباً. إذا لم يُقتلوا بطائرة روسية مُسيّرة، فعادةً ما يُلتقطون ويُعادون إلى الجبهة. ثم ينتظرون ويحاولون مرة أخرى. لا أحد يستطيع إجبارهم على القتال".

وبحسب التقارير، فتحت النيابة العامة الأوكرانية أكثر من 180 ألف حالة هروب وغياب بدون إذن بين كانون الثاني/يناير وتشرين الأول/أكتوبر من هذا العام، ليصل إجمالي الحالات منذ بداية الغزو الكامل إلى 311 ألف حالة.

في ظل النقص الحاد في القوى العاملة، أثار قرار الحكومة الأوكرانية بمنح آلاف الشباب خيار السفر إلى الخارج جدلاً بين الخبراء العسكريين. دافع الرئيس زيلينسكي عن القانون الجديد، قائلاً إنه سيساعد في منع الشباب من المغادرة في سن مبكرة. وأضاف في مؤتمر صحفي بعد دخول القانون حيز التنفيذ: "إذا أردنا إبقاء الأولاد الأوكرانيين في أوكرانيا، فنحن بحاجة إليهم لإكمال دراستهم هنا، ويجب على الآباء عدم إرسالهم إلى الخارج. لكنهم بدأوا بالرحيل قبل تخرجهم، وهذا أمر سيئ للغاية لأنه يفقدهم صلتهم بأوكرانيا". وأكد أن التغيير لن يؤثر على القدرات الدفاعية للبلاد.

من جانبه، قال سيمون شليغل، مدير برنامج أوكرانيا في مركز الحداثة الليبرالية في برلين، إن ذلك قد يكون صحيحاً في الوقت الحالي، لكنه قد يسبب مشاكل مستقبلية: "إنه يحد من نطاق التعبئة خلال السنوات الثلاث المقبلة عندما يصبح هؤلاء الرجال مؤهلين للخدمة".

كما تعرضت القاعدة الجديدة لانتقادات من بعض أقرب شركاء أوكرانيا. في مكالمة هاتفية بتاريخ 13 نوفمبر، طلب المستشار الألماني فريدريش ميرز من زيلينسكي اتخاذ إجراءات لمنع هذا العدد الكبير من الشباب الأوكرانيين من القدوم إلى ألمانيا، قائلاً: "يجب أن يخدموا وطنهم"، رغم أنه قد يكون كان يقصد بلده أيضاً.

ورغم تباين الأرقام، ارتفع عدد الرجال الأوكرانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و22 عاماً الداخلين إلى ألمانيا من 19 أسبوعياً في منتصف أغسطس إلى ما بين 1400 و1800 أسبوعياً في أكتوبر، وفقاً لوزارة الداخلية الألمانية. ومنذ بدء الحرب، منحت ألمانيا الحماية المؤقتة لأكثر من 1.2 مليون أوكراني، وهو أكبر عدد من أي دولة في الاتحاد الأوروبي.

وشهدت بولندا أيضاً تدفقاً كبيراً للرجال الأوكرانيين في نفس الفئة العمرية؛ فقد تجاوز عددهم 121 ألفاً منذ نهاية آب/أغسطس، مقارنة بحوالي 34 ألفاً خلال الأشهر الثمانية السابقة، وفقاً لحرس الحدود البولندي. سيعبر العديد من هؤلاء الرجال بولندا في طريقهم إلى وجهات أخرى، لكن آخرين، مثل ميلتشينكو، قرروا البقاء. وقال ميلتشينكو: "أشعر وكأنني أبدأ حياة جديدة".

في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، زرت ميلتشينكو في فروتسواف، وتقينا في مقهى مقابل مطعم كنتاكي في البلدة القديمة، حيث يقف تمثال برونزي لقزم، واحد من أكثر من 1100 تمثال متناثر في أنحاء المدينة. كان ميلتشينكو، الطويل النحيل ذو الشعر البني الفاتح القصير، يرتدي سترة سوداء وبنطال جينز رمادي وحذاءً رياضياً، ولم يكن أكثر استرخاءً مما كان عليه في القطار.

أثناء ارتشافه لاتيه بنكهة اليقطين، أخبرني أنه يقضي معظم وقته منذ وصوله باحثاً عن عمل. وقال: "أرسلت سيرتي الذاتية إلى ثلاثين جهة مختلفة. حتى الآن، لم أتلقَّ رداً سوى من أحد حمامات السباحة. أخبرتهم أنني عملت منقذاً في كييف وحصلت على شهادة، لكنهم قالوا إنهم يريدون شخصاً آخر".

تكهّن ميلتشينكو أن حمام السباحة كان يبحث عن شخص أكبر سناً أو بولندياً أصلياً. كان يسمع قصصاً عن تعرض الأوكرانيين في بولندا للتمييز، وأحياناً لأسوأ من ذلك. ففي أيلول/سبتمبر، رُشّ طلاء "إلى الأمام" على غطاء سيارة امرأة أوكرانية، ووُجّهت تهمة إطلاق النار على رجل روماني وإصابته بجروح خطيرة ظنّ أنه أوكراني، وكلا الحادثين وقعا في فروتسواف.

تشير استطلاعات الرأي الوطنية إلى أنّ الدعم الشعبي لقبول اللاجئين الأوكرانيين يتراجع ببطء وثبات، ليصل إلى أدنى مستوياته منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014. وتعهد الرئيس البولندي الجديد، كارول ناوروكي، بتشديد القيود على الدعم الحكومي المقدم لهم، واتهم حزب الاتحاد اليميني المتطرف الرجال الأوكرانيين الذين انتقلوا إلى بولندا "بإثقال كاهل دافعي الضرائب بتكاليف هجرهم"، رغم أن دراسة أجراها البنك الوطني للتنمية في بولندا وجدت أن الأوكرانيين يدفعون ضرائب أكثر مما يتلقون من إعانات.

مهما كان سبب رفضه للوظيفة، حاول ميلتشينكو ألا يدع ذلك يُثنيه. قال: "أنا متأكد من أنني سأجد شيئاً ما". كان بصدد الحصول على رخصة قيادة بولندية. والدته، التي انتقلت إلى فروتسواف عام 2019، لديها سيارة نادراً ما تستخدمها. قال: "حبيب أمي السابق سائق تاكسي. لا أمانع في ذلك". كان يعرف أيضاً شاباً أوكرانياً حصل مؤخراً على وظيفة في مستودع بالمدينة. قال ميلتشينكو: "أنتظر رأيه في الأمر. إذا أعجبه، فسأتقدم بطلب هناك أيضاً".

بعد انتهائنا من قهوتنا، تناولنا أنا وميلتشينكو شطائر بيغل على الغداء، وسرنا إلى نهر أودر الذي يشقّ فروتسواف. كان يوماً بارداً ومشمِساً، وتلألأت أسطح منازل المدينة ذات القرميد الأحمر تحت السماء الزرقاء الصافية. في طريقنا، مررنا بكنيسة باروكية من القرن السابع عشر، حُفرت في أساساتها ثقوب رصاص من الحرب العالمية الثانية. حاولنا الدخول، لكن الباب كان مغلقاً. قال ميلتشينكو: "جئتُ إلى هنا مع أمي مرةً. إنها من أجمل الكنائس التي رأيتها في حياتي".

عاش ميلتشينكو في فروتسواف بشكل متقطع لعدة سنوات قبل غزو روسيا عام 2022، وخلال تلك الفترة درس اللغة البولندية وأصبح يجيدها، وكسب رزقه من توصيل الطعام لـ "أوبر إيتس" ومن العمل في مركز توزيع تابع لأمازون، ثم التحق ببرنامج علوم الحاسوب في الحرم الجامعي المحلي لجامعة خاصة. قال: "كانت لديّ صديقة وبدأتُ بتكوين صداقات. ربما كانت تلك أول مرة أشعر فيها بالراحة في فروتسواف".

في نوفمبر 2021، عاد إلى زابوريزهيا لتقديم طلب الحصول على جواز سفر جديد، ثم بدأ الغزو بعد ثلاثة أشهر، ومنع من المغادرة. انتقل ميلتشينكو إلى كييف في مايو 2023 جزئياً ليكون بعيداً عن خط المواجهة، حيث كانت القوات الروسية على بُعد نحو 25 ميلاً جنوب المدينة. حصل هناك على وظيفة منقذ، وقضى الأشهر الأولى على شواطئ نهر دنيبرو.

في أحد الأيام، انطلق إنذار بغارة جوية أثناء تأديته واجبه في جزيرة تروخانيف. أشار لكل من كان هناك باتجاه أقرب ملجأ، لكن لم يذهب أحد تقريباً. قال: "أصبحت الإنذارات جزءاً من الحياة اليومية بحلول ذلك الوقت. معظم الناس، بمن فيهم أنا، لم يأخذوها على محمل الجد". بعد دقائق، انفجر صاروخ في الماء على بُعد نصف ميل تقريباً بجوار جسر، فركض ميلتشينكو إلى مبنى طوب قريب وانتظر إشارة الأمان.

مثل كل أوكراني تقريباً قابلته، أصبح ميلتشينكو على دراية وثيقة بالوفيات المأساوية والسابقة لأوانها. أخبرني في الثاني من أبريل/نيسان أن صديقاً له يُدعى ساشا كان جالساً في سيارته خارج محطة القطار الرئيسية في كريفي ريه، في وسط أوكرانيا، عندما سقط صاروخ باليستي بالقرب منه. حطم الانفجار نوافذ السيارة وتناثرت شظايا الزجاج على ساشا، فقتل على الفور. قال ميلتشينكو: "كان قد ذهب إلى المحطة ليأخذ والدته. كان شخصاً طيباً للغاية. لم يكن يستحق الموت".

وصلنا إلى نهر أودر في قلب فروتسواف، وأوضح ميلتشينكو أنه ممتن لوجود نهر في المدينة، إذ يستطيع زيارته دون القلق بشأن غارات الطائرات المسيرة والصواريخ. سألته عن حال والده، فأجاب: "لديه بعض المشاكل في ظهره. سيخضع قريباً لفحص طبي لتحديد المهام العسكرية التي يُمكن تكليفه بها". حالياً، يتمركز والده في بلدة صغيرة شمال كييف، بعيداً عن خط المواجهة.

بينما كنا نعبر جسراً يؤدي إلى الجزء الشمالي من المدينة، سألني ميلتشينكو من أين أتيت في الولايات المتحدة. أجبت: "كانساس". فقال: "مثل توم سوير". ضحكت وقلت: "لا، إنه من ميسوري، لكنه بجوار كانساس مباشرةً". ثم سأل: "هل زرت نهر المسيسيبي؟"، فأجبته: "بل زرته. إنه ضخم، مثل نهر دنيبرو". فقال: "هذا ما سمعته. أتمنى رؤيته يوماً ما".

ميلتشينكو غير متأكد من مدة إقامته في بولندا. يود القيام برحلة برية إلى باريس بعد حصوله على رخصة القيادة، وزيارة صديق في ألمانيا، كما فكر في محاولة العمل على متن قارب صيد سرطان البحر في النرويج، قائلاً: "شاهدت مقاطع فيديو على إنستغرام لأوكرانيين يقومون بذلك. يبدو العمل شاقاً، لكنه يدر دخلاً كبيراً". وعندما سألته عما إذا كان سيعود إلى أوكرانيا إذا انتهت الحرب في اليوم التالي، صمت لحظة طويلة، ثم قال: "لا أعرف. إنه سؤال صعب. لا أعرف حقاً".

نقلته إلى العربية: بتول دياب.