تحقيق: مقاطعة "إسرائيل" فنياً تتصاعد.. وتاريخ طويل من قمع الأعمال الفنية المناهضة للاحتلال
لطالما واجهت الأفلام التي تتحدى السرديات الصهيونية السائدة الحظر وخفض التمويل وحملات التشهير من قبل المسؤولين الإسرائيليين والناشطين اليمينيين على حد سواء.
-
عرض فيلم "لا أرض أخرى" في بلدة الطواني التابعة لمنطقة مسافر يطا في الضفة الغربية المحتلة
مجلة "972+" الإسرائيلية تنشر تحقيقاً يتناول تصاعد المقاطعة الدولية للمؤسسات السينمائية الإسرائيلية، وردّ الحكومة الإسرائيلية بسحب التمويل من جوائز "أوفير"، في إطار حملة أوسع يقودها اليمين لإسكات الأصوات الناقدة داخل المجتمع الفني. ويستعرض التحقيق أمثلة متعددة من التضييق والمنع، تشمل أفلاماً وثائقية تكشف النكبة والانتهاكات بحق الفلسطينيين، وصولاً إلى ملاحقات قانونية مثل قضية فيلم "جنين، جنين".
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
وقّع ما يزيد على 4500 ممثل ومخرج وعامل سينمائي آخر من مختلف أنحاء العالم على تعهّد بمقاطعة المؤسسات السينمائية الإسرائيلية. وبموجب هذا التعهد الذي أصدرته مجموعة العاملين في مجال السينما من أجل فلسطين، يلتزم الموقّعون عليه، ومن بينهم إيما ستون وخواكين فينيكس وخافيير بارديم وإلانا غليزر، بعدم التعامل مع شركات الإنتاج أو هيئات البث أو دور السينما أو المهرجانات الإسرائيلية التي تُعدّ متواطئة في نظام الفصل العنصري والإبادة الجماعية المستمرة في غزة.
ورداً على هذه الخطوة، وصف وزير الثقافة الإسرائيلي ميكي زوهار المقاطعة بأنها تصرّف يدعو إلى السخرية، متعهداً بأن "تواصل ثقافة السينما الإسرائيلية ازدهارها والتأثير في الجماهير وتحقيق النجاح في جميع أنحاء العالم".
ولكن في الحقيقة، يواجه الكثير من صنّاع الأفلام والمؤسسات الإسرائيلية منذ فترة طويلة عمليات مقاطعة ومحاولات إسكات من قبل الحكومة الإسرائيلية نفسها.
وفي الأسبوع الفائت، أعلن زوهار سحب التمويل من جوائز "أوفير"، المعادِلة لجوائز الأوسكار في "إسرائيل". وجاء ذلك بعد فوز فيلم " The Sea" للمخرج شاي كارميلي بولاك بالجائزة الكبرى، والذي يروي قصة صبي فلسطيني في الـ12 من عمره من الضفة الغربية يحاول زيارة الشاطئ لأول مرة، لكن يتم توقيفه عند نقطة تفتيش عسكرية إسرائيلية. وفي هذا السياق، قال زوهار: "بدءاً بموازنة 2026، لن يُموّل هذا الحفل البائس من أموال دافعي الضرائب. في عهدي، لن يدفع المواطنون الإسرائيليون من جيوبهم ثمن حفلٍ يبصق في وجوه جنودنا الأبطال".
ولم يكن هذا التصرّف سوى أحدث محاولة في تاريخ طويل من المحاولات اليمينية لإسكات صناع الأفلام الإسرائيليين والفلسطينيين الناقدين، والتي تصاعدت بشكل مطرد على مدى العقدين الماضيين، ولا سيّما في ما يتعلق بالأفلام الوثائقية التي تتحدى الرواية الصهيونية السائدة. وعلى الرغم من أنّ هذه الأفلام نادراً ما تحقق نجاحاً تجارياً، إلا أنّ تأثيرها تضاعف من خلال اكتساب التقدير في بعض أعرق المهرجانات السينمائية في العالم، من مهرجان "برلين" السينمائي ومهرجان "صاندانس" السينمائي ومهرجان البندقية إلى جوائز "بيبودي" (Peabodys) وجوائز "إيمي" (Emmys) وجوائز الأوسكار.
ويكشف بعض هذه الأعمال عن حقائق خفية ظلت مخبأة لفترة طويلة عن الجمهور الإسرائيلي، مثل المجازر ومصادرة الأراضي خلال النكبة، على سبيل المثال فيلم "الطنطورة" (Tantura) عام 2022، وفيلم "1948: تذكر أو لا تتذكر" (1948: ,Remember, Remember Not) عام 2024)، والظلم المنهجي في نظام العدالة المدنية في "إسرائيل" ("المحامي" (Advocate) عام 2019) والجهاز القانوني العسكري ("القانون في هذه الأجزاء" (The Law in These Parts) عام 2011).
وبرز فيلمان وثائقيان مهمان، وهما "خمس كاميرات مكسورة" (Five Broken Cameras) عام 2011، وفيلم "لا أرض أخرى" (No Other Land) عام 2024، كتعاون فلسطيني إسرائيلي يوثق المقاومة الفلسطينية اللاعنفية لسرقة الأراضي والتطهير العرقي في منطقتي بلعين ومسافر يطا على التوالي. وتجمع أفلام أخرى، مثل "شقيقة موسوليني" (Mussolini’s Sister) عام 2018 و"ليد" (Lyd) عام 2023، بين الوثائقي والخيالي لاسترداد التواريخ وإعادة تأكيد هويات المواطنين الفلسطينيين في "إسرائيل" التي طال قمعها.
ومن خلال إنتاجها وتوزيعها، وفّرت هذه الأفلام مساحةً للمعارضة وأكدت ندرتها في الوقت عينه. وعلى الرغم من محدودية انتشارها مقارنةً بالأفلام ذات الجاذبية السائدة، أثارت هذه الأفلام ردود فعل قوية، وعنيفة أحياناً، من قبل تحالف متنامٍ من وزراء اليمين المتطرف والشخصيات الإعلامية والناشطين. ونتيجة لذلك، يجد صنّاع الأفلام الناقدون في "إسرائيل"، وكثير منهم يدعمون المقاطعة الدولية للمؤسسات السينمائية الإسرائيلية، أن قدرتهم على توثيق الواقع على الأرض ومشاركة أعمالهم مع الجمهور باتت أكثر تقييداً من أي وقت مضى.
"لقد أصبحتُ مثيراً للجدل"
تنتشر محاولات إسكات صنّاع الأفلام الوثائقية في الثقافة الإسرائيلية، من الحكومة إلى الجيش، وصولاً إلى المجتمع المدني. وأحياناً تكون هذه الجهود خفية، لكنها ازدادت جرأة في السنوات الأخيرة. وبعد النجاح الذي حققه فيلم "لا أرض أخرى" في حفل توزيع جوائز الأوسكار في آذار/مارس من هذا العام، تعرّض المخرجان الفلسطينيان، اللذان يعيشان في منطقة مسافر يطا في الضفة الغربية المحتلة والتي هي موضوع الفيلم، لمضايقات واعتداءات جسدية على أيدي جنود ومستوطنين إسرائيليين. وفي الأسبوع الماضي، داهم "جيش" الاحتلال الإسرائيلي منزل باسل عدرا (مراسل مجلة "+972") بعد اقتحام المستوطنين قريته. وبعد أسابيع قليلة من حفل توزيع جوائز الأوسكار، تعرض زميل عدرا، حمدان بلال، لضرب مبرح على أيدي المستوطنين، قبل أن يُعتقل ويُعامل بقسوة من قبل جنود سخروا من جائزته.
وكان عودة الهذالين، الذي شارك أيضاً في الفيلم، قد قُتل بالرصاص في قريته على يد مستوطن إسرائيلي في أواخر تموز/يوليو. وأُطلق سراح المستوطن من الإقامة الجبرية بعد أقل من أسبوع، وهو يواصل ترهيب سكان القرية حتى يومنا هذا.
وجاءت هذه الهجمات العنيفة على الفلسطينيين وراء الفيلم عقب التشهير العلني بالمخرج الإسرائيلي المشارك (ومراسل مجلة "+972") يوفال أبراهام، الذي وصفه مذيع أخبار في هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسرائيلية العامة بأنه "معادٍ للسامية"، بعد خطاب قبوله جائزة "برلين" السينمائية لعام 2024 - كجزء من حملة تشويه سمعة أثارت موجات من التهديدات بالقتل ضد صناع الفيلم.
وسرعان ما تطور هذا الرفض إلى جهود منسقة لقمع الفيلم. ففي مدينة كفار سابا، أجبر ضغط البلدية والناشط اليميني شاي غليك حركة "هشومير هتسعير" الشبابية على إلغاء عرض مقرر للفيلم. كما ضغط غليك على جامعة حيفا لإلغاء عرض الفيلم، الذي أقيم في النهاية. وحاول غليك بدرجات متفاوتة من النجاح خلال العام الماضي ضمان إلغاء عرض فيلمي "ليد" (Lyd) الذي يتناول تدمير مدينة فلسطينية على أيدي القوات الإسرائيلية خلال النكبة، و"الحاكم" (The Governor) الذي يتناول النظام العسكري القمعي الذي تعرض له المواطنون الفلسطينيون في "إسرائيل" حتى عام 1966. وقد أدت تهديدات غليك إلى قيام دور السينما بتعليق عرض الفيلمين حتى يحصل منتجاهما على موافقة من مجلس مراجعة حكومي مصمم لتصنيف الأفلام وفقاً لملاءمتها للجمهور الشاب، أو بعبارة أخرى، الحكم عليها على أساس المحتوى الجنسي أو العنيف، وليس المحتوى السياسي.
يستكشف فيلم "الحاكم"، من إخراج دانيل إل بيليغ، تاريخ النظام العسكري من خلال قصة جدها، أول حاكم عسكري لمنطقة وادي عارة. وعلى الرغم من موافقة لجنة التحكيم على العرض بعد أسابيع من المماطلة، إلا أن إل بيليغ قالت لمجلة "+972" إنها لا تزال قلقة للغاية من محاولة الرقابة: "لماذا يجب أن تكون للدولة سلطة على عرض فيلمي أصلاً؟"
ورفض مُنتجا فيلم "ليد"- رامي يونس، وهو مواطن فلسطيني من "إسرائيل"، وسارة فريدلاند، وهي يهودية أميركية - عرض الفيلم على لجنة المراجعة. ويُعيد الفيلم إحياء التاريخ النابض لمدينة يونس، المعروفة الآن باسمها الإسرئيلي "لود"، من خلال شهادات سكانها الذين ظلوا تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية بعد النكبة. ومن بين هذه الشهادات المؤثرة قصة عيسى، الذي يروي كيف أجبره الاحتلال الإسرائيلي في سن الـ12 على جمع جثث العشرات من الأشخاص الذين قُتلوا في عام 1948.
ووسّع رامي وسارة نطاق هذه الشهادات إلى رؤية تخيلية لمدينة "ليد" المحررة من الحكم الإسرائيلي. وقد أثار هذا الوصف استنكار وزير الثقافة زوهار، الذي تحرك لحظر الفيلم محلياً، ووصفه بأنه "افتراء" لأنه يزعم أن الجنود الإسرائيليين ارتكبوا مذبحة، وأن الفلسطينيين طُردوا بالقوة من المدينة، وأن "إسرائيل" تتحمل مسؤولية تدميرها.
وسرعان ما تحوّلت حملة زوهار إلى ترهيب صريح؛ فقد ضغط على الشرطة لمنع العروض في مسرح السرايا في يافا، وهدد بسحب التمويل من "سينماتيك تل أبيب" لاستضافته الفيلم، بل وسعى حتى إلى إغلاق مسرح السرايا بالكامل. فشعر رامي يونس بتأثير عمله، وقال: "لقد أصبحتُ مثيراً للجدل. فحتى دور السينما في حيفا لا تُجيب على مكالماتي ولا تُكلف نفسها عناء رفضي". وأضاف: "لقد حذّرتُ صنّاع الأفلام الإسرائيليين لسنوات: في البداية، يستهدفون الفلسطينيين، ثم يأتي دوركم‘. واليوم، وبعد أن بدأت الدولة باضطهاد صنّاع الأفلام الإسرائيليين أيضاً، استفاق بعض العاملين في هذا المجال أخيراً، على الرغم من أنّ الكثيرين ما زالوا يرفضون رؤية الصورة الكاملة".
"هل يقوّض عملي النظام أم أنه يُستخدم كغطاء؟"
لا تزال بعض الأفلام الوثائقية تواجه المنع، على الرغم من موافقة لجنة المراجعة. ويجمع فيلم نيتا شوشاني "1948: تذكر أو لا تتذكر" لقطات أرشيفية ورسائل معاصرة من فلسطينيين وجنود إسرائيليين، كاشفاً كيف أن الأدلة على الفظائع التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية خلال الحرب لا تزال محفوظة في أرشيف الدولة. ومن عجيب المفارقات أن هذا الفيلم، الذي يتناول الرقابة الحكومية، سرعان ما واجه رقابة خاصة به.
وبعد أن مُنع الفيلم من العرض على مستوى البلاد في البداية، حصل على تصريح لعرضه في دور السينما في عام 2023. ومع ذلك، خضع للرقابة لمدة عامين من قِبل مفوضه ومموله: هيئة البث العام، "راديو كان". وخلال حديثها إلى مجلة "+972"، قالت شوشاني: "كان هناك عرض واحد فقط. وبعد حضور شاي غليك، أرسل وزير الاتصالات شلومو كرعي رسائل إلى ’كان" تكررت فيها أفكار غليك حرفياً".
وتابعت شوشاني: "استمر كان في تأجيل العرض إلى أجل غير مسمى"، مضيفة أن هيئة البث زعمت أنه لا يمكن عرض الفيلم علناً قبل أكثر من شهر من عرضه التلفزيوني الأول، وفي الوقت نفسه منعت العرض الأول للفيلم. واختتمت قائلةً: "لم يعرفوا كيف ينشرونه؛ لذا، قاموا بحظره بدلاً من ذلك". وفي النهاية، وافق "كان" على عرض الفيلم في وقت سابق من هذا الشهر. ورداً على ذلك، هدد كرعي بسحب التمويل عن القناة وشركة الأخبار المستقلة التابعة لها، لكنه لم يُنفذ تهديده بعد.
وفي حين أنّ قيام إحدى هيئات البث بمراقبة فيلمها الذي أنتجته بنفسها لعدد من السنوات يمثل توجهاً جديداً مثيراً للقلق، فإن ظاهرة تنصلّ الممولين من الأفلام الوثائقية التي دعموها في السابق لها سابقة في "إسرائيل".
وفي عام 2019، فاز الفيلم الوثائقي "المحامي" (Advocate) للمخرجَين راشيل ليا جونز وفيليب بيلايش - والذي يروي قصة ليا تسيميل، المحامية اليهودية الإسرائيلية التي دافعت عن السجناء السياسيين الفلسطينيين على مدى 5 عقود - بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان "دوك أفيف" (DocAviv) الإسرائيلي، وحصل على منحة حملة جائزة الأوسكار من مجلس اليانصيب الإسرائيلي للثقافة والفنون. ورد المتظاهرون اليمينيون برشّ طلاء أحمر على مبنى المجلس، مصحوباً بشعارات مثل "لا تكافئوا الإرهاب".
وقالت جونز لمجلة "+972": "لقد طمسوا تماماً الخط الفاصل بين الفيلم كتصوير لتسيميل وأفعال عملائها. ولم يُفرّقوا بين البطلة وصنّاع الفيلم، أي بين الواقع وتمثيله". وقد أثار الجدل حول التمويل غضباً واسعاً في أوساط المجتمع الإبداعي الإسرائيلي. وهددت أكاديمية السينما الإسرائيلية بإلغاء حفل توزيع الجوائز السنوي في حال ألغت لجنة اليانصيب منحة جونز وبيلّايش، بينما انسحبت كاتبات بارزات من الترشيحات لجائزة "سابير" الأدبية المرموقة التي يمنحها المجلس. وفي مواجهة تزايد ردود الفعل الغاضبة، أيّد المجلس في النهاية التمويل. ومع ذلك، استمرت الرقابة، وقد نجحت وزيرة الثقافة آنذاك ميري ريغيف في الضغط على رئيس بلدية معالوت ترشيحا لإلغاء عرض محلي للفيلم.
وشاركت جونز مؤخراً في إنتاج فيلم "Coexistence, My Ass" عن الممثلة الكوميدية والناشطة اليسارية الإسرائيلية نوعم شوستر إلياسي، وهي تُخرج حالياً فيلماً عن الأعضاء الفلسطينيين في البرلمان الإسرائيلي - وهو أول مشروع لها من دون أي هيئة بث إسرائيلية. وقد أشارت قائلةً: "لقد تعمدتُ إجراء مقابلات مع أعضاء الكنيست بلغتهم الأم، العربية، لأن معظم خطاباتهم على المنصة تُلقى باللغة العبرية. فقالت هيئات البث: ’جمهورنا لا يستمع إلى هذا الكلام‘".
وأكّد الكثير من صنّاع الأفلام الوثائقية الإسرائيليين لمجلة "+972" هذا النمط من رفض هيئات البث للمحتوى العربي. ومن خلال هذه الرقابة، تعمل هذه المؤسسات بشكل منهجي على تقييد الموارد المخصصة للأفلام التي تركز على الفلسطينيين أو تتحدى تحيزات المفوضين اليهود في هيئات البث الإسرائيلية، أو جمهورهم المفترض.
وتُدرك جونز تماماً المعضلات التي يُثيرها هذا الأمر. وتقول: "لسنوات، سألنا أنفسنا: هل يُقوّض عملي النظام، أم أنه يُستخدم كغطاء؟ عندما تنتقد مجتمعاً من الداخل، بصوت عالٍ وواضح، نادراً ما تكون الإجابة واضحة. ولكن مع تغيُّر الزمن والواقع من سيئ إلى أسوأ، يلوح السؤال في الأفق وتزداد الشكوك أيضاً".
الرقابة الثقافية
نادراً ما تصاحب قرارات التمويل في صناعة السينما الإسرائيلية تفسيرات شفافة. ومع ذلك، فقد كشفت إحدى القضايا المثيرة للجدل قبل 17 عاماً عن العوائق النظامية والنفسية التي يواجهها صنّاع الأفلام الناقدون أمام حرية التعبير.
في عام 2008، فاز فيلم "يافا - آلية البرتقالة" (Jaffa–The Orange’s Clockwork) للمخرج الإسرائيلي المقيم في فرنسا إيال سيفان، الذي يستخدم مواد أرشيفية لإظهار كيفية تحول علامة برتقال يافا إلى رمز للعمالة اليهودية بعد طرد السكان الفلسطينيين من المدينة أثناء النكبة - بجائزة "تطوير مهرجان القدس السينمائي" على نحو مثير للجدل. وقد تم تمويل هذه الجائزة من قبل القناة 8 المملوكة للقطاع الخاص وصندوقين رئيسيين للأفلام: مشروع السينما الإسرائيلية (المعروف أكثر باسم صندوق "رابينوفيتش") والصندوق الجديد للسينما والتلفزيون.
وخلال حديثه إلى مجلة "+972"، قال سيفان: "لقد بلغ غضب الممولين حدّ إلغائهم الجائزة بالكامل بعد فوز مشروعي بجائزة تُخلّد الذكرى الـ60 لتأسيس "إسرائيل". وعندما أنشأ صندوق ’رابينوفيتش‘ جائزته الخاصة، اختارت لجنة التحكيم فيلمي مجدداً، ما دفع رئيسه، جيورا إيني، إلى إقالة أعضاء اللجنة الذين اشتبه في دعمهم لعملي". وفي هذا الإطار، استذكر سيناي أبت، رئيس قسم الأفلام الوثائقية في القناة 8 آنذاك، قائلاً: "لقد كانت تلك أول مرة أواجه فيها رقابة سياسية صارخة كهذه. حتى إدارة القناة 8 صُدمت، مع أن أحداً في ظلّ الظروف الراهنة لن يكترث".
في النهاية، أنتج سيفان الفيلم من دون أي تمويل عام إسرائيلي. لكن الجدل تحول إلى ذخيرة سياسية؛ فقد استشهد أعضاء الكنيست اليمينيون بهذه الأحداث في أثناء ترويجهم لتشريع عام 2008 الذي يمنع التمويل العام للأفلام التي "قد تمس بمبادئ وجود دولة إسرائيل أو أمنها"، مع إعطاء الأولوية لتلك التي "تعزز المواطنة الصالحة... وتعزز الروابط مع التراث اليهودي والصهيوني وقيمه".
لقد برز التشريع المقترح بعد سنوات من الجدل الحاد في وسائل الإعلام الإسرائيلية حول الأفلام التي تُصوّر الانتفاضة الثانية من منظور فلسطيني. وكان أبرزها فيلم "جنين، جنين" (Jenin, Jenin) (2002) لمحمد بكري، الذي وثّق الهجوم العسكري الإسرائيلي على مخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية في ربيع عام 2002. وفي الوقت الذي تمّ عرض الفيلم في دور السينما، حظرت لجنة المراجعة العروض التجارية للفيلم، وهو القرار الذي ألغته المحكمة العليا في عام 2003 بعد استئناف صناع الفيلم.
ومع ذلك، أُعيد صناع الفيلم إلى المحكمة مرات متعددة من قبل الجنود الذين زعموا أن فيلم بكري قد شوه أفعالهم بطريقة أضرت بسمعتهم. وبلغ الجدل ذروته عندما دعم المدعي العام آنذاك أفيخاي ماندلبليت، الذي عينه نتنياهو، قضية أحد الجنود، مؤكداً في بيان رسمي: "نحن نتحمل واجباً أخلاقياً ومدنياً لمساعدة الجنود في حماية سمعتهم من الاتهامات الكاذبة".
وقد وجدت المحكمة العليا في حكمها النهائي الصادر عام 2022 بشأن القضية، أن تحرير الفيلم أشار عمداً إلى أن المدعي العام، الذي ظهر لمدة 3.5 ثوانٍ فقط في التسلسل التشهيري المزعوم، سرق أموالاً من رجل فلسطيني مُسنّ، وهو ما يشكل تشهيراً. كما فرضت المحكمة غرامة قدرها 175 ألف شيكل (حوالى 50 ألف دولار أميركي) وفرضت حظراً شاملاً على توزيع الكتاب في "إسرائيل"، بما في ذلك مصادرة جميع النسخ. ويُرجّح أن يكون هذا القرار قد شكّل نهج بكري في فيلمه التالي لعام 2024، "جانين، جنين" (Janin, Jenin)، والذي تجنّب فيه بشكل واضح إظهار وجه أيّ جندي.
من جهتها، قالت منتجة الأفلام الوثائقية الإسرائيلية البارزة ليران أتزمور (التي وقعت على العريضة الأخيرة لدعم المقاطعة الدولية للأفلام الإسرائيلية) إن حكم المحكمة العليا في قضية فيلم "جنين، جنين" كان متوقعاً بالنظر إلى المشهد السياسي الذي شكلته موافقة الكنيست عام 2018 على "قانون الدولة القومية" - وهو التشريع الذي نص على أن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية لـ"إسرائيل"، وكرس رموز الدولة، وعزز التزام "إسرائيل" بتوسيع المستوطنات اليهودية.
وترى أتزمور أنّ هذا القانون أساسي في تسهيل الرقابة على الخطاب الذي يتحدى الروايات الرسمية. وقالت إنّ "جيورا إيني، من صندوق ’رابينوفيتش‘، نسخ بنوداً من هذا القانون حرفياً في عقود الإنتاج الخاصة بالصندوق. وهذا القانون ألزم صنّاع الأفلام الممولين منه بتجنب تصوير النكبة أو عرض لقطات مثل حرق الأعلام خلال الانتفاضة الأولى. من الناحية العملية، تم حذف المقاومة الفلسطينية والروايات التاريخية من الأفلام الممولة".
ومع ذلك، يُشير سيفان إلى مشكلة يراها أشد ضرراً من الرقابة الرسمية، ألا وهي الرقابة الذاتية المُنتشرة في صناعة السينما الإسرائيلية. وقال: "على الرغم من أن السينما الإسرائيلية تُعد تقدمية في جميع أنحاء العالم، إلا أنها تُرسّخ إلى حد كبير واجهة إسرائيل الديمقراطية. ولا تزال الأفلام الممولة من الدولة حبيسة أحضان النظام الخانقة".
نقلته إلى العربية: زينب منعم.