"New Lines": عن شجاعة وموت أنس الشريف
لقد كرّس الصحافي الفلسطيني أنس الشريف حياته للحقيقة والكرامة، ووفاته تكشف إفلات "إسرائيل" من العقاب في غزة.
-
الصحافي الفلسطيني أنس الشريف الذي اغتالته "إسرائيل"
مجلة "New Lines" الأميركية تنشر مقالاً يتناول اغتيال الصحافي الفلسطيني في قطاع غزة، أنس الشريف، مع طاقمه الصحافي، مركّزاً على إفلات "إسرائيل" من العقاب على جرائمها.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
كان أنس الشريف صحافياً فلسطينياً من غزة. كان عمره 28 عاماً، وأباً لطفلين، ويعمل في قناة الجزيرة. يوم الأحد، اغتالته "إسرائيل".
هذه الحقائق لا جدال فيها. إنها حقيقية. حقيقية كأشعة الشمس التي تخترق نوافذك، حقيقية كأطفاله، حقيقية كألم عائلته، حقيقية كتدمير أحلامه. حقيقية كغضب يشتعل في القلب مع كلّ كارثةٍ غزاوية. حقيقية كسيل الأرواح الهاربة من أجساد أطفال غزة الهزيلة، وأولئك الذين احترقوا في حريق "إسرائيل" المستمر.
بصفتي صحافياً، مُتأصّلاً في التقاليد الغربية المرموقة لهذه المهنة، اسمحوا لي أن أسرد بعض الحقائق الأخرى:
استهدفت "إسرائيل" أنس عمداً أثناء إقامته في خيمة مع موظفي الجزيرة الآخرين خارج أحد المستشفيات، وقتلته هو وأصدقاءه.
"القتل" هي الكلمة التي استخدمتها لجنة حماية الصحافيين لوصف الهجوم. قتلت "إسرائيل" المراسل محمد قريقع، والمصوّرين الصحافيين إبراهيم زاهر ومؤمن عليوة، ومحمد نوفل، وهو أيضاً أحد أفراد الطاقم الصحافي.
اعترف "الجيش" الإسرائيلي بذلك، واصفاً أنس، أحد أشهر الوجوه التي غطت وشاهدت الإبادة الجماعية في غزة، بأنه "إرهابي" من "حماس". مع ذلك، فإنّ ادعاء "الجيش" الإسرائيلي ليس حقيقة. إنه ما كنّا نسميه كذبة، وهو مفهوم فقد معناه إلى حدّ كبير بسبب غرقنا في الأكاذيب.
وثّقت لجنة حماية الصحافيين 186 حالة وفاة لصحافيين في حرب غزة. من بينهم 178 فلسطينياً قُتلوا على يد "إسرائيل".
يُحبّ السياسيون الغربيون وصف العنف الذي لا ينوون فعل أي شيء لوقفه بأنه "لا معنى له". لم يكن هناك أي معنى لما فعلته "إسرائيل". أمضى "الجيش" الإسرائيلي وأتباعه المتصيّدون على وسائل التواصل الاجتماعي شهوراً في شيطنة أنس وتشويه سمعته، في محاولة لتبرير اغتياله في النهاية وتشويه سمعته في تقاريره الشجاعة عن تجويع "إسرائيل" لغزة. كان آخر تقرير له في مستشفى بغزة، واقفاً، كعادته، شاهداً على المذبحة، أمام جثث الأطفال الجياع النحيلة. كان يُبلّغ عن آخر الأرقام، التي تُشير إلى ارتفاع عدد وفيات المجاعة وسوء التغذية إلى 217 مدنياً، بينهم مئة طفل.
قال أنس حينها بينما كان رضيع هزيل يتلوى في الخلفية: "يستقبل هذا المستشفى الأطفال يومياً بسبب المجاعة وسوء التغذية ونقص الحليب، وانتشار العدوى والأمراض داخل قطاع غزة".
تشعر "إسرائيل" بضغط دبلوماسي هائل بسبب تجويعها المتعمّد لجيل فلسطيني بأكمله. كما أنها لا تزال تعاني من أيّ عواقب حقيقية لأساليبها في شنّ حربها. لذا فقد قتلت أحد أشهر الوجوه التي تنقل هذه الفظائع للعالم.
يبدو أنّ استراتيجية "إسرائيل" هي أنّ "إبقاءك لا فائدة منه، وتدميرك لا خسارة فيه".
أعود دائماً إلى صورة أنس على مواقع التواصل الاجتماعي، شعره مُصفّف، وابتسامةٌ خفيفةٌ تُثقلها أعماقُ الظلم الذي كان يشهده كلّ يوم، وهو يحمل طفليه، وفي الخلفية أنقاضٌ مُشوّهة، وكأنّ نعيمَ وفرحَ إمساكه بطفليه وهما مُتشابكا الأيدي قد أفقدا كلَّ جانبٍ من جوانب هذا العالم المُنهار معناه. لحظةٌ تُجسّد حباً أبدياً نقياً، سيظلُّ صداه يتردّد حتى بعد هذه الكارثة.
كيف لهم أن يقتلوه؟
بالطبع سيفعلون. لا يهمهم، ولو أنّ العالم بأسره يثور لأنّ أطفال غزّة يتضورون جوعاً. ربما فعلوا هذا لأنّ العالم يراقبهم، ربما ليكون ذلك استعراضاً مُتباهياً للإفلات من العقاب.
لم تدفَع "إسرائيل" الثمن، حتّى في خضمّ أكبر أزمة دبلوماسية مزعومة لـ "إسرائيل"، لم تشعر بأيّ ندم على إبادة طاقم كامل من الصحافيين. لا حظر أسلحة، لا عقوبات، لا محاكمات، ولا حتى غطاء تحقيق داخلي، فلماذا لا يفعلون ذلك؟
لكنّ الحقيقة هي أنّ أنس الشريف عاش. وكانت لحياته معنى وأحلام وقيمة. نعم، كانت حياته محاطة بالمأساة، بحرب لا تنتهي. لقد عرف الحصار والحرمان والجوع والمجازر والحرائق. لكنه عرف أيضاً معنى تقبيل خد ابنته، ومسك يد ابنه، ومعنى عيش حياة مليئة بالشجاعة والصدق، والدفاع عن المظلومين والمهمّشين، ورواية قصصهم، والصمود في وجه الخوف وتدمير كلّ ما كان عزيزاً عليه. معنى أن يكون صحافياً حقيقياً.
كتب في رسالة وداعية نُشرت بعد وفاته، بناءً على تعليماته:
"أحثّكم على ألّا تسكتكم القيود، ولا تكبّلكم الحدود. كونوا جسوراً نحو تحرير الأرض وشعبها، حتى تشرق شمس الكرامة والحرية على وطننا المسلوب. أستودعكم رعاية عائلتي. أستودعكم ابنتي الحبيبة شام، نور عيني، التي لم تسنح لي الفرصة لرؤيتها تكبر كما حلمت. أستودعكم ابني العزيز صلاح، الذي تمنيتُ أن أدعمه وأرافقه طوال حياتي حتى يقوى على حمل همّي ومواصلة رسالتي. لا تنسوا غزة... ولا تنسوني من خالص دعواتكم لي بالمغفرة والقبول".
ما كان ينبغي عليه أن يتحمّل كلّ هذا، أو أن يحمل ثقله على كاهله، لكنه فعل. وسنظلّ نتذكّر.
نقلته إلى العربية: بتول دياب.