"Worldcrunch": أورويل في غزّة.. كيف تتلاعب "إسرائيل" بالكلام لتبرير العنف؟

من خلال تحريف الكلمات واستخدامها كأدوات حرب، تحول "إسرائيل" الدمار إلى "أمن"، والنزوح إلى "هجرة طوعية"، وإبادة غزّة إلى ضرورة دفاعية.

0:00
  • نشر الاحتلال الإسرائيلي منشوراً في غزة يصف منطقة معينة بأنها
    نشر الاحتلال الإسرائيلي منشوراً في غزة يصف منطقة معينة بأنها "منطقة إنسانية" بعد قصفها، ليبدو أن أفعاله إنسانية، بينما هي في الواقع ترحيل قسري.

مجلة "Worldcrunch"  تنشر مقالاً يتناول كيفية استخدام اللغة والخطاب الرسمي الإسرائيلي كأداة للحرب والسيطرة في غزة.

المقال يقدّم رؤية تحليلية لكيفية استخدام "إسرائيل" للغة كأداة سياسية وعسكرية لتحويل الاحتلال والتدمير إلى واقع مقبول أخلاقياً وقانونياً، وتطبيع الاستثناء على حساب حقوق الفلسطينيين وحياتهم الإنسانية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

حين نشر وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس مقطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي يظهر برجاً قُصِف في مدينة غزة، مرفقاً بعبارة: "برج الغفري الإرهابي يصطدم بالبحر. نحن نقمع بؤر الإرهاب"، وكان قد نشر في اليوم السابق مقطعاً آخر لتدمير مبنى الجامعة الإسلامية في غزة وكتب: "القضاء على مصادر التحريض والإرهاب".

ومع بدء "الجيش" الإسرائيلي هجومه لاحتلال مدينة غزة بالكامل، وتكثيف عملياته في قلب المناطق الحضرية وتدمير الأبراج السكنية والمباني الجامعية التي كانت مأوىً للنازحين، يتّضح بشكل متزايد أنّ اللغة التي تتبنّاها الحكومة الإسرائيلية تُشكّل جزءاً من ترسانتها أيضاً.

فهي لا تقتصر على مرافقة العمليات العسكرية فحسب، بل تسبقها وتبني سرديتها وتمنحها الشرعية وتحصّنها من المعارضة؛ إذ تصبح اللغة سلاحاً للحرب، قادرة على تحويل غزو معلن إلى عمل "دفاعي"، والتدمير المنهجي لمدينة بأكملها إلى عملية جراحية "أمنية". بهذه اللغة تُستَتر كل جريمة خلف خطاب مكافحة الإرهاب.

قبل يومين، نشر كاتس مقطع فيديو جديداً يظهر مبنىً سكنياً دمرته القنابل الإسرائيلية، مصحوباً بعبارة: "بيت من ورق. أفق غزة يتغير". وبذلك يوجّه كلامه بشكل خاص إلى الرأي العام المحلي والحلفاء الدوليين، مفاده أن المظهر العمراني لغزة يتغير. هذا يتجاوز مجرد الخطاب الحربي؛ فمدينة غزة لم تعد مساحة مأهولة بالسكان فحسب، بل أصبحت هدفاً للهدم، وركاماً تجرفه الجرافات. وما يسميه كاتس "تحوّلاً" هو في الواقع إبادة لسكان غزة، و"تغير الأفق" هو مسح لهويتها.

عبارات مثل "بيت من ورق. أفق غزة يتغير" تلخّص وحشية الاستراتيجية العسكرية؛ فهي ليست نتاجاً للعنف فحسب، بل هي فعل من أفعال الحرب بذاتها. هذه اللغة ليست عرضية، بل متعمدة، ومنتشرة، ومعقدة؛ فهي تسبق الهجوم، وتضفي عليه الشرعية، وتحوّله إلى مشهد استعراضي.

من يسيطر على الكلمات يسيطر على الواقع، كما هو معروف، وهذه حقيقة يدركها نتنياهو جيداً، كما أدركها أسلافه من قبله. وعلى مرّ السنوات، وبشكل خاص خلال نحو 23 شهراً الماضية، قاد نتنياهو السياسة الإسرائيلية بدعم من المجموعة الأكثر تطرفاً في حكومته، بالتلاعب المنهجي باللغة بهدف واضح: تحريف الكلمات لتبرير الاحتلال والقمع والتهجير للفلسطينيين.

شروط مقبولة

يمثل هذا الاستخدام الاستراتيجي للغة، المعاكسة للحياد بالمطلق، شكلاً متطوراً من أشكال العنف الرمزي. فهو يعيد تعريف الواقع بمصطلحات مقبولة للجمهور الداخلي والخارجي، ويخفي الثقل الأخلاقي والقانوني للإجراءات المتخذة، ويُخفِي الأهداف الحقيقية للهجوم. وفي حالة غزة، ليس "تحريرها" من حركة حماس هو الهدف، بل الغاية احتلالها العسكري والتهجير القسري لسكانها.

لطالما كانت شرعية سلوك "إسرائيل" تعتمد على الفجوة بين الأقوال والواقع، وهي فجوة تركت المجتمع الدولي مشلولاً ومتردداً لفترة طويلة في مواجهة هذا التضليل.

في السردية الإسرائيلية السائدة، توصف الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عقود بأنها "متنازع عليها"، وهو تعبير يقوّض الوضع القانوني للاحتلال. كما يُعاد توصيف الحواجز الفاصلة على أنّها "جدران أمنية" لحماية المستوطنين الإسرائيليين. ويُطلق على الاعتقال من دون محاكمة مصطلح "الاعتقال الإداري"، ما يحوّل الانتهاكات إلى مصطلحات بيروقراطية.

أمّا عنف المستوطنين، فيوصف بأنه "حوادث"، لإخفاء عدم التكافؤ في القوة، وخلق وهم المساواة حيث لا وجود لها. وتستبدل كلمة "قتل" بكلمة "تحييد"، ما ينزع عن الضحايا إنسانيتهم، ويجعل استخدام القوة مقبولاً وروتينياً.

لقد جعل هذا التحريف اللغوي، على مدى عقود، ما لا يُحتمل مقبولاً، وحوّل الفصل العنصري والضم والانتهاكات واستخدام القوة المفرطة إلى ما يُبرَّر باعتباره ضرورة. واليوم، يوجّه نتنياهو خطابه إلى جمهورين: الأول داخلي، يزداد تطرّفاً؛ والثاني دولي، يزداد تشككاً يوماً بعد يوم.

في الداخل، يستحضر هذا الخطاب "الحقوق التاريخية" و"الغزو التوراتي". أمّا في الخارج، فيلجأ إلى شعارات "مكافحة الإرهاب" و"الدفاع عن النفس". لكن كلا الخطابين يسعيان لتحقيق الهدف ذاته، وهو تطبيع الاستثناء، وجعل ما لا يمكن قوله قابلاً للقول، وتقديم ما هو في الواقع خيار سياسي متعمد على أنّه أمر لا مفر منه: السيطرة الدائمة على غزة، ومحو الدولة الفلسطينية، والقضاء على حق تقرير المصير.

ما هو الطبيعي

الكلمات تحدد ما يعد طبيعياً، وما يعد منحرفاً، وما هو مقبول. وفي أوقات الأزمات، تمارس السلطة قبضتها على الخطاب، ليس فقط عبر القصف، بل أولاً من خلال بناء فكرة أنّ ما يُقصف هو شر مطلق. وبهذه الطريقة، يُمكن تضييق المجال الدلالي والترميزي، ومعه الأخلاق ذاتها. فالذين يموتون لم يعودوا أطفالاً، بل أصبحوا "أضراراً جانبية"، والذين يفرّون لم يعودوا لاجئين، بل تحولوا إلى "دروع بشرية محتملة".

يقول فيلسوف المعرفة والسلطة ميشال فوكو إنّ الحقيقة البريئة غير موجودة، وإنّ كل خطاب يولد من علاقات القوة، وما نسميه الواقع هو غالباً نتاج اللغة. وينطبق هذا المقياس بشكل خاص في أوقات الحرب. فعندما يصف نتنياهو أو المتحدثون باسم "الجيش" الإسرائيلي ما يسمونه بـ"منطقة إنسانية"، فهم يقصدون أنها منطقة قُصفت بعد أن خصصت لآلاف المدنيين المهجرين، وبهذا يحرّفون اللغة، فتبدو أفعالهم إنسانية، وليست ترحيلاً قسرياً، وغالباً إلى أماكن غير آمنة.

وعندما يتحدثون عن "الهجرة الطوعية" من غزة، يتجاهلون حقيقة أنّ المدنيين يُجبرون على مغادرة منازلهم تحت تهديد القتل العمد. وعندما يُطلق على كل مستشفى مصطلح "مركز عمليات إرهابية"، تُجرَّد مهنة الطب نفسها من إنسانيتها لتبرير قصفها.

وُصفت مدينة غزة مؤخراً بأنها "ملاذ للإرهابيين". لكن في الواقع، هي مدينة يقطنها أكثر من نصف مليون نسمة، غالبيتهم من النساء والأطفال. كما أنّ اختزال الإقليم بأكمله إلى "وكر" لحركة حماس، هو بناء سردية لتبرير كل قصف. وهذا تطبيق عملي لنظرية السلطة عند فوكو، حيث تُنتج الحقيقة لتبرير الانتهاكات، وتقمع المعارضة، وتحوّل الحملة العسكرية إلى مهمة أخلاقية مشروعة.

هكذا تعمل لغة السلطة، من خلال بناء تصنيفات أخلاقية ورسم حدود بين من يمكن قتله ومن يجب حمايته. وهذا هو جوهر خطاب السلطة الإسرائيلية، وتركها من دون تحدٍ يعني المشاركة والتواطؤ معها.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.