إدمان العصر.. لماذا لا يمكننا التخلّي عن الهواتف الذكية؟

لا يعدّ الإدمان على التقنية مجرّد عادة سيئة، بل يُنظر إليها باعتبارها ظاهرة نفسية-اجتماعية- اتصالية تعكس مدى اختراق الوسائل الحديثة للبنية الذهنية والسلوكية للفرد والمجتمع.

0:00
  • التكنولوجيا ليست محايدة... ماذا يعني ذلك؟
    التكنولوجيا ليست محايدة... ماذا يعني ذلك؟

من حيث الدوافع يربط بعض الأبحاث الاستخدام المفرط للهواتف المحمولة بعناصر تتجاوز الخيارات الفردية، منها دوافع نفسية مثل القلق والبحث عن الموافقة الاجتماعية والخوف من فوات شيء مهم، أو سلوكية مثل الاستجابة الفورية للإشعارات وأنظمة "المكافأة" في التطبيقات، إضافة إلى عناصر اجتماعية/ ثقافية مثل ضغط التواصُل الدائم وتوقُّعات التفاعل، ومنها أيضاً تقنية - تصميمية تتعلق بواجهات وتصميمات تستهدف إطالة الوقت في التطبيق. 

يتداخل بعض هذه العوامل ويؤدي إلى سلوكيات ضارة وتداعيات غير محمودة، إذ قد يؤدي مجرد ظهور إشعار على الهاتف إلى حلقة مستمرة لا تنقطع من المتابعة والتنقل كافية لقطع التركيز والانتقال إلى حلقة مفتوحة من إضاعة الوقت على الهاتف، الأمر الذي يؤدي إلى تبعات مثل تقليص الإنتاجية وضرر في جودة النوم. 

لا تنحصر هذه الظاهرة في مجتمعات معينة، فالإدمان على استخدام الهواتف الذكية، إذا صحّ التعبير، بات مشكلة عالمية. من هذا المنطلق ظهرت مجموعة من الدراسات التي تعالج كيفية الحد من أضرارها وخلصت إلى مجموعة من النصائح والإجراءات التي تهدف إلى تخصيص أوقات "خالية" رقمياً، واستخدام أدوات تساعد على ضبط الوقت.

فقدان السيطرة والشعور بالقلق

إذا ما حاولنا تتبّع أسباب الإدمان على الهواتف الذكية وتأصيلها علمياً وزمنياً، نجد أن نشأتها لا تنفصل عن مسار طويل من الاستخدامات المفرطة التي اقترنت بظهور التكنولوجيا. في الأدبيات الخاصة بعلوم الإعلام والاتصال اصطلح على هذه الظاهرة بتعبير "الإدمان على الوسيلة" 

 (Media Addiction / Technological Addiction) 

ظهر هذا التعبير في نهاية القرن العشرين مع تصاعد استخدام التلفزيون، ثم الإنترنت، وتوسع لاحقاً مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وصولاً إلى الهواتف الذكية. في البداية كان المصطلح عبارة عن مجرد استعارة بهدف وصف الانغماس الزائد في وسيلة إعلامية معينة، لكنه سرعان ما اكتسب بعداً علمياً عندما بدأ باحثون في دراسة أوجه التشابه بين سلوك المستخدم تجاه الوسائل وسلوك المدمنين على المواد الكيميائية.

مع انفجار الإنترنت والهواتف الذكية، اتسع المفهوم ليصبح "إدمان الوسيلة" يشمل كل تفاعل مفرط ومتكرر مع وسيلة إعلامية أو تكنولوجية حتى يفقد الفرد السيطرة أو يشعر بالقلق عند الانقطاع عنها.

وبسبب كون الظاهرة متعددة الأبعاد فقد جرت مقاربتها بشكل أساسي من منظور نوعين من العلوم. إلى جانب علوم الاتصال والإعلام، كان من البديهي أن يجد علم النفس السلوكي نفسه معنياً بدراسة هذه الإشكاليات. 

وفي حين يفسر علم النفس الظاهرة من خلال دوائر المكافأة في الدماغ  (Dopamine reward system) والاعتياد على المحفزات الفورية (مثل الإشعارات، والإعجابات، والرسائل)، فإن علوم الاتصال والإعلام تنظر إلى الوسيلة باعتبارها "عاملاً نشطاً" يُصمَّم لجذب الانتباه وإطالة زمن الاستخدام عبر تقنيات الإقناع والتصميم النفسي (persuasive design). 

بالتالي، لا يُنظر إلى الإدمان على الوسيلة فقط كنتيجة لضعف ضبط النفس، بل كنتاج تفاعل بين الفرد والتكنولوجيا حيث تعمل الوسيلة على تشكيل أنماط التفكير والسلوك.

من هذا المنطلق لا يعدّ "الإدمان على الوسيلة" مجرّد عادة سيئة، بل يُنظر إليها باعتبارها ظاهرة نفسية-اجتماعية- اتصالية تعكس مدى اختراق الوسائل الحديثة للبنية الذهنية والسلوكية للفرد والمجتمع.

هذه الفكرة تُعدّ أحد الأسس النظرية التي تُستخدم اليوم في تحليل ظاهرة الإدمان على الهاتف الذكي ووسائل التواصل الاجتماعي، ضمن ما يُعرف بـ الاعتماد التكنولوجي (Technological Dependence) أو الاستخدام الإشكالي للوسائل (Problematic Media Use).

التكنولوجيا ليست محايدة... ماذا يعني ذلك؟

في التتابع الزمني استفادت الدراسات المتعلقة بالإدمان على الهواتف الذكية مما سبقها من دراسات تندرج في إطار الإدمان على الوسيلة، والأخيرة تغذت من دراسات سابقة أكدت نتائجها أن وسائل الاتصال ليست "محايدة"، وذلك لكونها تمتلك خصائص قادرة على توجيه السلوك.

بموازاة التطور التقني وظهور وسائل اتصال جديدة كانت الدراسات المتعلقة بهذه المجالات تتراكم لتشكل قواعد علمية تمهّد للحقبة التالية. من زاوية إعلامية واتصالية، يمكن استعراض بعض الأسماء والدراسات الكلاسيكية التي أسست أو أسهمت في بلورة مفهوم الإدمان على الوسيلة.

الكندي مارشال ماكلوها كان من أوائل من طرح فكرة أن "الوسيلة هي الرسالة" (The medium is the message)، بمعنى أن الوسيلة نفسها تغيّر وعينا وسلوكنا قبل مضمونها.

في عمله "Understanding Media: The Extensions of Man (1964)"، رأى أن وسائل الإعلام تشكّل امتداداً لحواس الإنسان، وأنها تُعيد تشكيل الإدراك والأنماط الذهنية، وهي الفكرة التي مهدت لاحقاً لتصور "الاعتماد على الوسيلة" و"إدمان التكنولوجيا".

خلال سبعينات القرن الماضي طوّر إيليو كاتز وجاي بلوملر نظرية الاستخدامات والإشباعات (Uses and Gratifications)، بحيث اعتبرا أن الجمهور يستخدم الوسائل لإشباع حاجات نفسية (التسلية، الهوية، العلاقات الاجتماعية)، ما يفسر الارتباط العاطفي والسلوكي الزائد بالوسائل.

ثم جاء الأميركي نيل بوستمان الذي حذّر من أن وسائل الإعلام، ولا سيما التلفاز، لا تنقل فقط معلومات بل تُعيد تشكيل التفكير العام ليصبح ترفيهياً وسطحياً.

أسهم كتابه "Amusing Ourselves to Death (1985)" في وجود قناعة بأن وسائل الاتصال يمكن أن تُحدث "تخديراً إدراكياً" يشبه الإدمان الذهني على المتعة السريعة.

أما من منظور علم النفس والإدمان السلوكي فقد كان البريطاني مارك غريفيثس من أوائل الذين صاغوا مفهوم الإدمان التكنولوجي (Technological Addiction) خلال تسعينات القرن الماضي. 

عرّف الإدمان التكنولوجي بأنه سلوك متكرر غير قابل للسيطرة، يُحدث متعة مؤقتة ثم قلقاً عند الانقطاع، شبيه بالإدمان على المواد المخدّرة.

وكانت الأميركية كيمبرلي يونغ أول من استخدم تعبير "إدمان الإنترنت" علمياً عام 1996. وفي عام 1998 وضع  كتابها "Caught in the Net" الأساس لدراسة الإدمان الرقمي، وطوّرت مقياساً ما زال يُستخدم حتى اليوم، ومهّدت أفكارها لاحقاً لمفهوم إدمان الهاتف الذكي Smartphone Addiction)).

أما في دراسات التكنولوجيا الحديثة فيمكن الاكتفاء بالإشارة إلى اسمين، أولهما شيري توركل التي درست كيف أدى التفاعل مع الهواتف ووسائل التواصل إلى اعتماد عاطفي وتقليص للعلاقات الواقعية. 

من خلال كتابها Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other (2011)، أشارت إلى البُعد الاجتماعي- النفسي للإدمان على الوسيلة الرقمية.

الاسم الآخر هو تريستان هاريس، المدير السابق لأخلاقيات التصميم في شركة غوغل. لم يقدّم هاريس دراسات أكاديمية بحتة، لكن مداخلاته ومشروعه أثّرا في النقاش العام حول التصميم الإدماني. ركّز على كيفية استخدام الشركات تقنيات التحفيز النفسي (dopamine triggers)  من أجل زيادة الوقت الذي يقضيه المستخدم على الشاشة.