من نهر الأردن إلى جبل نيبو.. الأرض التي جمعت الأديان والحضارات
الأردن أرض تتقاطع فيها الرسالات السماوية والحضارات الإنسانية، جمعت آثار الأنبياء ومقامات الصحابة، لتبقى شاهدة على التاريخ المقدس وذاكرة العالم القديم.
-
البتراء في الأردن
الأردن، أرض اختلطت فيها قداسةُ التاريخ بعبق الرسالات السماوية، هي من أقدم المناطق التي عرفت الاستقرار البشري واحتضنت الممالك والشعوب. لم تكن مجرّد موقعٍ جغرافي يتوسط الشرق الأوسط ويربط بين القارات، بل حاضنة للإيمان وشاهدة على مسيرة الهداية. ففي ربوعها نزلت الرحمة، وعلى تُرابها سارت قوافل النبوّة، فغدت مجمعًا تتلاقى فيه الأرواح الباحثة عن النور.
في الكتب السماوية والنصوص المقدسة
هذه الأرض كانت شاهداً على كفاح المؤمنين قبل البعثة، والمكان الذي وطأته أقدام معظم الأنبياء والصالحين واحتضن الكثير من المقامات. شكّلت نواة لجيوش الفتح الإسلامي، وبوابة الانطلاق الأولى، ما منحها مكانةً بارزة في الكتب السماوية والنصوص المقدسة.
في القرآن الكريم لم تُذكر هذه البلاد بشكل مباشر، لكنها وُصفت بالأرض المباركة حول المسجد الأقصى، كما ورد في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: 1].
وفي الحديث الشريف قال الرسول ﷺ في وصف حوضه يوم القيامة: "إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً" – رواه أحمد والترمذي.
أما في الإنجيل (العهد الجديد)، فقد ذُكر اسم الأردن أكثر من مئة وعشرين مرة، إذ عَمّد النبي يحيى (يوحنا المعمدان) السيد المسيح في نهر الأردن، في حدث يُعدّ من أعظم الرموز المسيحية.
وفي التوراة، ورد ذكر الأردن نحو مئتين واثنتين وسبعين مرة، منها عبور بني إسرائيل النهر بقيادة يوشع بن نون نحو أرض كنعان، ومعركة إيليا النبي واليشع على ضفافه، كما ذُكر جبل نبو الذي صعد إليه النبي موسى عليه السلام ونظر إلى الأرض الموعودة قبل وفاته (سفر التثنية 33:11 و3:10).
الأردن على مرّ العصور
منذ فجر التاريخ، كانت هذه البلاد مأهولة بالسكان ومهوى للهجرات السامية التي أسّست أولى التجمعات الحضارية. وتشير المواقع الأثرية إلى العصور المعدنية الثلاثة:
- العصر النحاسي: وتعود إليه آثار وادي الأردن ومناطقه التليليّة.
- العصر البرونزي: شهد قيام حضارات المؤابيين والعمونيين في جنوب الأردن ومنطقة الحَسَا، وكانت رَبّة عمّون عاصمتهم.
- العصر الحديدي: أُقيمت فيه دولة الأنباط العرب الذين اتخذوا من البتراء عاصمة لهم، واستمرت دولتهم من عام 500 ق.م إلى 106م.
وقال عبد الله العسّاف، المؤرخ ورئيس الجمعية الأردنية للدراسات التاريخية والتراثية، إنّ الأردن كان ملتقى لحضارات العالم القديم التي تركت أكثر من مئة ألف موقع أثري، مروراً بعدة ديانات سماوية.
وأشار إلى أن بعض المواقع اكتُشفت في الفترة البيزنطية عام 329م بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية، حيث أُقيمت الكنائس في تلك المرحلة. كما أوضح أنّ السائحين في العهد العثماني كانوا يستعينون بقبائل المنطقة مثل العدوان، إذ كان شيخ القبيلة يوفّر فرساناً لتأمين الرحلة وإرشاد المستكشفين الذين وثّقوا الاكتشافات الأولى.
تعددية المواقع الدينية: جامعة الرسالات السماوية
تجسّد المواقع الدينية في الأردن التعددية الروحية التي ترجمت تعاقب الرسالات السماوية. وبحسب تصريح المدير العام لدائرة الآثار العامة فادي بلعاوي، فإنّ المقامات ومواقع الأنبياء والكنائس والكهوف المذكورة في النصوص المقدسة تتجاوز خمسة عشر ألف موقع، منها ستة مواقع مُدرجة ضمن التراث العالمي لليونسكو، أبرزها:
- المغطس (بيت عنيا عبر الأردن): موقع معمودية السيد المسيح على يد النبي يوحنا المعمدان.
- أم الرصاص: موقع أثري يضم بقايا كنائس بيزنطية، أبرزها كنيسة القديس ستيفان.
- جبل نبو: الجبل الذي صعد إليه النبي موسى عليه السلام ورأى أرض الميعاد.
- كهف النبي لوط: المكان الذي لجأ إليه النبي لوط بعد دمار قريته.
- مقام النبي هارون: يُزار من المسلمين خاصة.
- مقام النبي شعيب: من أقدم المقامات الإسلامية في الأردن وتُقام فيه زيارات سنوية.
- مار إلياس: مسقط رأس النبي إيليا (إلياس).
- كما تنتشر مقامات الصحابة كجعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، التي تشهد على الفتح الإسلامي المبكر ومعارك مؤتة واليرموك، لتبقى شواهد حيّة على الجذور الإسلامية العميقة لهذه الأرض.
سياحة وتجديد روحي أم هوية وطنية؟
تُشكّل السياحة الدينية ركيزة أساسية في الهوية الوطنية الأردنية، إذ تربط بين الأرض والرسالة، وتعكس إرثاً روحياً متجذراً في الأنبياء والقديسين.
يقول أحمد صالح من الكرك: "الوقوف على أرضٍ مرّ بها أنبياء وصحابة يمنحك شعوراً بالشجاعة والإيمان".
أما الباحث الأميركي جيمس تشارلز وورث، المختص بالنصوص اليهودية والمسيحية، فقال: "الأردن أرض التجديد الروحي". وأضاف عالم الآثار الأميركي نيلسون غلوك: "كل حجرٍ في شرق الأردن يروي قصة من الكتاب المقدس".
وقال الزائر اللبناني أنطوان الحداد: "عندما زرت جبل نيبو شعرت بسلامٍ داخلي عميق، من هنا تأمل موسى أرض الميعاد، ومن هنا ترى التاريخ بعينيك".
أما الزائرة المغربية سعاد خليل فقالت: "لم أتخيل أن أشعر بهذا القرب الروحي في مكان بعيد عن وطني، فالأرض هنا مباركة".
شهادات العلماء والباحثين
يرى علماء الآثار أنّ الأردن يحتضن فصولاً من التاريخ الديني الإنساني. فقد وصف الباحث البريطاني نيكولاس بينت الأردن بأنه "أرشيف مفتوح على سطح الأرض"، فيما أكدت الباحثة كاثلين كينيون، التي قادت حفريات في غور الأردن، أنّ موقع المغطس هو الأوثق ارتباطاً بنصوص الكتاب المقدس.
وقال العالم الأميركي توماس باركر، الذي عمل في جرش وأم قيس، إنّ هذه المدن "استثنائية في حفظها لتفاعل الحضارات الرومانية والبيزنطية والإسلامية"، ورأى أن تنوّعها يعكس تعاقب الرسالات السماوية.
وكتب بيتر بارسونس عن النقوش النبطية في البترا قائلاً: "هي ليست مجرد كتابة، بل مرآة فكرية وروحية لشعبٍ صاغ هويته بين قوافل التجارة ومعتقدات السماء".
أما الباحث الألماني غوستاف دالمان في عمله Sacred Sites in the Holy Land، فقد اعتبر أن الأردن يجب أن يُدرَس بوصفه "أرض أنبياء" مثل فلسطين، لما يحتويه من مواقع وردت في نصوص العهدين القديم والجديد.
تتفق الشهادات والدراسات على أن الأردن لم يكن مجرّد ممرٍّ للحضارات، بل حاضناً لها، وذاكرةً حيّة للرسالات السماوية. هذه الأرض لا تزال تمنح زائرها لحظة تأمل وومضة نور، وتؤكد أن هوية الأردن متجذرة في التاريخ المقدس، جامعة بين الإيمان والإنسانية والتجدد الروحي.