الاشتباك الدائم والأهداف الخفية: تحليل سوسيولوجي سياسي للكيان الصهيوني
يُعدّ الترويج لسرديات خبيثة ونوايا إجرامية هو الأصل المؤسس للكيان. فالهدف المعلن عن “وطن قومي لليهود” يخفي هدفاً استراتيجياً أعمق.
-
التوسع الاستعماري والتوظيف الديني: استراتيجية الأرض والشرعية.
إن دراسة الكيان الصهيوني لا يمكن أن تكتمل من دون الغوص في أعماق بنيته الأيديولوجية والسياسية، وتحليل أهدافه غير المعلنة التي تشكل جوهر وجوده.
فما يُعلن من استراتيجيات لا يعدو كونه غطاءً لسرديات خبيثة ونوايا إجرامية متأصلة في عقيدة الاستعمار الاستيطاني، من خلال نظريات علم الاجتماع السياسي وتحليل الوقائع العملية، وكشف التصورات الاستراتيجية والأهداف الخفية التي تحرك هذا الكيان، والتي تجعل من الاشتباك الدائم والأبدي حالة وجودية لا يمكن التخلي عنها. إن هذا الاشتباك ليس فشلاً في تحقيق السلام، بل هو الاستراتيجية الناجحة لضمان بقاء الكيان وتمدده.
1. الأهداف غير المعلنة والسرديات الخبيثة: أصل الوجود
يُعد الترويج لسرديات خبيثة ونوايا إجرامية هو الأصل المؤسس للكيان. فالهدف المعلن عن "وطن قومي لليهود" يخفي هدفاً استراتيجياً أعمق، وهو التوسع الاستعماري اللانهائي والسيطرة الإقليمية المطلقة.
في هذا السياق، يمكن تحليل الكيان عبر نظرية الاستعمار الاستيطاني (Settler Colonialism)، التي ترى أن الهدف الأساسي للمستوطن ليس استغلال الموارد فحسب، بل إحلال نفسه محل السكان الأصليين، ما يتطلب إزالتهم المادية أو المعنوية.
هذه الإزالة هي الهدف غير المعلن الذي يبرر كل فعل إجرامي، ويتم تبريره بسرديات خبيثة مثل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهي سردية تهدف إلى محو الوجود الفلسطيني التاريخي والقانوني. إن هذه السردية، كما يوضحها علم الاجتماع السياسي النقدي، هي آلية "إعادة تعريف الواقع" لخدمة المشروع الاستيطاني، حيث يتم تبرير العنف المفرط باعتباره "دفاعاً عن النفس" ضد "إرهاب" السكان الأصليين الذين يقاومون إزالتهم.
2. عقلية الإجرام في العقيدة الصهيونية: العنف المؤسسي كآلية بقاء
تتجلى عقلية الإجرام في العقيدة الصهيونية كآلية بقاء أساسية. هذه العقلية ليست مجرد نتاج للظروف الأمنية، بل هي جزء أصيل من الأيديولوجيا التي تشرعن العنف المفرط ضد "الآخر" باعتباره تهديداً وجودياً يجب استئصاله. من منظور سوسيولوجي، يمكن فهم هذه العقلية عبر مفهوم "العنف المؤسسي"، حيث يصبح الإجرام سياسة دولة ممنهجة ومقننة، تُمارس من خلال آليات مثل التطهير العرقي، ومصادرة الأراضي، وفرض نظام الفصل العنصري (الأبارتايد).
إن هذا العنف ليس عشوائياً، بل هو أداة استراتيجية تهدف إلى تحقيق هدفين خفيين: أولهما، تقويض أي بنية اجتماعية أو سياسية فلسطينية قادرة على المقاومة، وثانيهما، ترسيخ التفوق المطلق للمستوطن عبر إظهار قدرته على ممارسة العنف من دون مساءلة. هذا يفسر الإصرار على الاشتباك الدائم، لأنه يغذي ويبرر استمرار هذا العنف المؤسسي، ويضمن أن تكون القوة هي المحدد الوحيد للعلاقة مع المحيط.
3. التوسع الاستعماري والتوظيف الديني: استراتيجية الأرض والشرعية
إن التوسع الاستعماري هو المحرك الجغرافي للكيان. فالحدود ليست خطوطاً سياسية ثابتة، بل هي حدود متحركة تتمدد باستمرار عبر سياسة الاستيطان. يرتبط هذا التوسع ارتباطاً وثيقاً بـ التوظيف الديني، حيث يتم استخدام النصوص الدينية كأداة شرعنة سياسية للاستيلاء على الأرض.
هذا التوظيف يخلق سردية "الحق الإلهي" التي تحصّن المشروع الاستعماري من النقد الأخلاقي والقانوني الدولي، ويحوّل الصراع من صراع سياسي على الأرض إلى صراع ديني وجودي، ما يضمن استمرارية الاشتباك. إن الهدف الخفي هنا هو "السيطرة الكلية على المجال الحيوي"، ليس فقط السيطرة على الأرض، بل على الموارد المائية، والمجال الجوي، والحدود، بما يضمن تبعية المحيط الفلسطيني الكاملة للكيان.
هذا التوظيف الديني يخدم أيضاً هدفاً داخلياً خفياً، وهو تبرير التمييز العنصري ضد المواطنين الفلسطينيين داخل الكيان، باعتبارهم "غرباء"” عن "أرض الميعاد".
4. نتائج الحروب والاستراتيجيات الإقليمية: آليات الاشتباك وحقيقة الواقع
تُعد نتائج الحروب والاستراتيجيات الإقليمية هي المقياس العملي لآليات الاشتباك التي يتبعها الكيان. فالهدف من الحروب ليس بالضرورة تحقيق نصر عسكري حاسم ينهي الصراع، بل هو إعادة تشكيل الواقع الإقليمي والموضوعي بما يخدم الأهداف الخفية. وتشمل هذه الآليات: * إدارة الصراع لا حلّه: الإبقاء على حالة من التوتر والاشتباك المنخفض لضمان استمرار الدعم الخارجي وتبرير الإجراءات الأمنية القمعية.
الهدف الاستراتيجي غير المعلن هو منع ظهور دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية، والحفاظ على حالة "اللا سلم واللا حرب" التي تخدم التوسع الاستيطاني. * تفتيت المحيط الإقليمي: العمل على إضعاف وتجزئة الدول المحيطة لضمان التفوق العسكري والاقتصادي المطلق للكيان، عبر سياسات "فرّق تسد" والتحالفات الإقليمية الهادفة إلى عزل المقاومة وتطبيع العلاقات مع الأنظمة لضمان أمنه على حساب القضية الفلسطينية.
فرض الأمر الواقع: استخدام القوة لتغيير الخرائط الديموغرافية والجغرافية، ثم السعي لشرعنة هذا التغيير دولياً، كما حدث في ضم القدس والجولان ومشاريع الضم في الضفة الغربية والمخطط الخفي لجنوب لبنان. إن حقيقة الواقع والموضوعية في هذا الصراع هي أن الكيان يرفض أي حل لا يضمن تفوّقه المطلق وهيمنته الإقليمية.
5. الاستقطاب العنصري الداخلي: ضمانة الوحدة الهشة
يعتمد الكيان على الاستقطاب العنصري الداخلي كآلية لضمان تماسك مجتمعه الهش. يتم ذلك عبر خلق عدو خارجي دائم (الفلسطينيون والعرب) لتوحيد الفئات المتباينة داخلياً (الشرقيون والغربيون، العلمانيون والمتدينون).
هذا الاستقطاب يضمن أن الأيديولوجية الصهيونية تظل هي القاسم المشترك الوحيد، ويحول دون ظهور انقسامات طبقية أو عرقية عميقة قد تهدد استقرار الكيان. إن حالة الاشتباك الدائم هي الوقود الذي يغذي هذا الاستقطاب ويمنع تفكك الجبهة الداخلية. من الناحية السوسيولوجية، يُعرف هذا بـ "وظيفة الصراع الخارجي في التماسك الداخلي"، حيث يصبح العداء الخارجي هو الرابط الاجتماعي الأقوى، ويتم تهميش أي أصوات نقدية داخلية عبر اتهامها بـ "الخيانة" أو "اللاسامية".
6. القدرة المالية للكيان وتأثيرها تاريخياً: نفوذ يتجاوز الجغرافيا
لا يمكن إغفال القدرة المالية للكيان وتأثيرها تاريخياً في تحقيق أهدافه الخفية. إن الدعم المالي الهائل، سواء من خلال المساعدات الخارجية أو شبكات التبرعات العالمية، يمنح الكيان قوة هائلة تتجاوز حجمه الجغرافي. وقد أثرت هذه القدرة تاريخياً في:
* بناء المؤسسات العسكرية والأمنية: تمويل آلة الحرب والتكنولوجيا العسكرية المتطورة لضمان التفوّق النوعي، وهو هدف غير معلن يهدف إلى ردع أي تهديد إقليمي محتمل، والاحتفاظ بـ "خيار القوة" كأداة أولى للتعامل مع الصراع.
* التأثير على القرار السياسي الدولي: استخدام النفوذ المالي واللوبيات للضغط على الحكومات الغربية لتبني مواقف داعمة للكيان وتجاهل جرائمه، وهو ما يضمن "الحصانة الدولية" من المساءلة، ويسمح للكيان بمواصلة مشروعه الاستيطاني من دون خوف من عقوبات دولية حقيقية.
* تمويل مشاريع الاستيطان: ضخ الأموال في بناء المستوطنات وتغيير الواقع الديموغرافي على الأرض كجزء من الهدف التوسعي غير المعلن، وتحويل الأراضي الفلسطينية إلى "حقائق على الأرض" يصعب التراجع عنها.
خلاصة التصورات الاستراتيجية والأهداف الخفية:
يمكن تلخيص التصورات الاستراتيجية والأهداف الخفية للكيان الصهيوني في النقاط التالية، والتي تتجاوز الأهداف الأمنية المعلنة:
التصور الاستراتيجي
الهدف الخفي غير المعلن
الآلية العملية (آليات الاشتباك)
الاستعمار الاستيطاني
الإزالة الكاملة للسكان الأصليين (التطهير العرقي المستمر)
مصادرة الأراضي، بناء المستوطنات، قوانين التمييز العنصري، العنف المؤسسي.
التفوّق المطلق
السيطرة الكلية على المجال الحيوي الإقليمي (من النيل إلى الفرات)
إدارة الصراع، تفتيت الدول المحيطة، الردع النووي، الاحتفاظ بـ "خيار القوة".
الحصانة الدولية
منع أي مساءلة قانونية أو أخلاقية عن الجرائم المرتكبة
استخدام النفوذ المالي واللوبيات، التوظيف الديني للصراع، تبرير العنف.
الوحدة الداخلية
ضمان تماسك المجتمع الهش عبر العداء الخارجي
الاستقطاب العنصري الداخلي، الإبقاء على حالة الاشتباك الدائم كوقود للتماسك.
تأكيداََ على ما سلف:
نعتبر أن الأهداف غير المعلنة للكيان الصهيوني، من التوسع اللانهائي إلى الإزالة الكاملة للسكان الأصليين، ليست مجرد طموحات سياسية عابرة، بل هي أصل وجود الكيان ومرتكز عقيدته.
إن تحليل هذه الأهداف عبر نظريات علم الاجتماع السياسي، خصوصاً نظرية الاستعمار الاستيطاني، يكشف أن الاشتباك الدائم ليس فشلاً في تحقيق السلام، بل هو الاستراتيجية الناجحة لضمان بقاء الكيان وتمدده. إن فهم هذه الأهداف الخفية هو الخطوة الأولى نحو تفكيك السرديات الخبيثة ومواجهة النوايا الإجرامية التي تشكل جوهر هذا المشروع الاستعماري. إن حقيقة الواقع والموضوعية تؤكد أن الكيان لا يمكن أن يتخلى عن هذه الأهداف من دون التخلي عن هويته الاستيطانية ذاتها، ما يجعله كياناً محكوماً بالصراع الدائم كضرورة وجودية.