جورج عبد الله: الصراع في قلب العدو
في المواقف كافة التي أطلقها جورج عبدالله في عودته، تبيّن كم كان همّه فلسطين، بوصلة الحرية والتحرر، وكم كانت حماسته عالية لتحريض الناس على دعم غزة ووقف معاناتها.
-
جورج عبد الله لم يتغيّر رغم مكوثه الطويل في السجن (أرشيف).
أربع ركوات قهوة، لأربعة أشخاص، في أربع ساعات توضح المسار الذي اختاره المناضل جورج عبد الله، ونقله الصراع مع الإمبرياليين إلى عقر دارهم.
ففي عام 1968، منح وزير الداخلية اللبنانية كمال جنبلاط حرية العمل السياسي العلني للأحزاب التي كانت محظورة قبل ذلك، ما فتح موجة واسعة من النقاشات، والحوارات والجدل على مختلف الأمور، لا سيما القضية الفلسطينية، وكيفية مجابهة "إسرائيل"، المدعومة من الغرب عامة، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، وإن كانت الأولوية في مواجهة السلطات المحلية، على ما طرحت غالبية الأحزاب الشيوعية، أم في المقارعة المباشرة مع الإمبريالية على الطريقة الماوية الصينية!
على هذه الخلفية، جرى أحد اللقاءات مطلع سبعينيات القرن الماضي بين المناضل جورج عبد الله، وكان من مناضلي الحزب السوري القومي الاجتماعي، والصحفي الراحل جوزيف سماحة الذي تحوّل من الحزب القومي السوري الاجتماعي إلى الماركسية، وبات مقرباً، وربما منضوياً، في منظمة العمل الشيوعي.
هدف اللقاء مناقشة إشكالية مَنْ يدير مَنْ؟ ومن يسيطر على من؟ هل الصهيونية أم الولايات المتحدة الأميركية؟ ففي تلك الأثناء، كانت الصورة الظاهرة للأمور أن الولايات المتحدة الأميركية تدعم دائماً الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، وإن لم تتدخل مباشرة في الحرب العربية -الإسرائيلية التي عرفت بـ"حرب النكسة" 5 حزيران 1967.
في النقاشات الجانبية التي أفضت إلى هذا اللقاء، أيّد سماحة فكرة سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على الموقف، معتبراً إن هذه الدولة الإمبريالية الكبيرة، بما تملكه من إمكانات هائلة، هي رأس الإمبريالية وفق التوصيف المتوافق مع شرح لينين للإمبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية، وسلطتها الرسمية هي الآمر الناهي في كل الأمور.
أما جورج عبد الله فقد تبنى النظرة المعاكسة وهي أن الصهيونية العالمية هي التي تسيطر على السياسة الأميركية، وتديرها إلى حدٍّ كبير، وقدّم أدلّة وبراهين دعمت وجهة نظره. وفي نضالاته المختلفة، لم ينخرط عبد الله في تحركات سياسية محلية، ونضالات مطلبية على طريقة الأحزاب اليسارية المحلية، والنقابات العمالية، متجاوزاً مفهوم الكيانات، وحدودها الرسمية التي أرستها اتفاقية سايكس -بيكو.
ويمكن القول إن موقف كلا المتحاورَين أكّد التناقض بين فهم المنظمات والأحزاب الشيوعية لهذه السيطرة، والموقف القومي العابر لحدود التقسيمات التي رست عقب الحرب العالمية الثانية بصورة عامة.
استمر اللقاء الحواري زهاء أربع ساعات، وقدّم كل طرف براهينه، ولم يخرج اللقاء بتفاهم على نقطة التقاء محدّدة، إلّا العداء التام للإمبريالية والصهيونية، على أمل اللقاء في مناظرات لاحقة.
ليس من السهل تذكّر تفاصيل نقاش جرى منذ أكثر من خمسين عاماً، لكنه يتجدّد اليوم لأمرين: خروج جورج عبد الله من السجن، واتضاح صورة لمن السيطرة بشكل أفضل في ضوء تطورات غزة، وحرب "طوفان الأقصى" التي أعقبت السابع من تشرين الأول، إضافة إلى التطورات الأوكرانية.
ما يدفع إلى استعادة الموضوع هو مواقف عبد الله، إن خلال احتجازه، أم بعد تحريره، فالمواقف التي أطلقها تنمّ عن إدراك أن الصهيونية العالمية هي التي تدير سياسة الولايات المتحدة الأميركية، وبنظره يجب مقارعتها مباشرة في عقر دارها، لذلك ارتأى نقل المجابهة مباشرة إلى ديارها، وهذا ما قام به مع مجموعته في أوروبا.
عبد الله لم يتغيّر رغم مكوثه الطويل في السجن، ما مكّنه من التركيز أكثر على مراجعة أفكاره، بينما لم تتراجع التيارات اليسارية ذات الطابع الماركسي- الشيوعي المتظلّل بمظلة الشيوعية السوفياتية عن قناعاتها بأن الهيمنة هي للدولة المركزية الأميركية، وأن الكيان الإسرائيلي ما هو إلّا من صنيعة الغرب، ويستمر بدعم الولايات المتحدة.
وفي العموم، فإن الرأي العام، عربياً أم أجنبياً، لم يكن يدرك أسرار اللعبة الجارية بتجليات مختلفة منذ نحو قرن ونصف، ولم تكن مفهومة إشكالية "الدولة العميقة" المتحكّمة بمسارات السياسة الأميركية بقوة كما باتت أكثر وضوحاً في المراحل الأخيرة من صراعات العالم، وكما انكشفت أمور كثيرة من قدرة الدولة العميقة على التحكم بالمسار العام للسلطات الأميركية، خصوصاً ثبات الموقف من "الدولة" العبرية، فقد جاءت تؤكد صحة كلام جورج عبد الله، وقناعاته التي لا يزال يبني مواقفه النضالية، في السجن وخارجه، على أهمية متابعتها.
تجلّت مواقف عبد الله الثابتة إزاء القضية الفلسطينية في تصريحاته وخطاباته التي برزت إثر عودته، فهو لم يتغيّر، بل تجذّر، وكم كانت مواقفه القليلة بين وصوله المطار، ومنزله، هجومية، داعمة للمقاومة وأهلها، ومركّزاً على وحدة الموقف بين مختلف فئات الشعب، مؤكّداً بذلك قناعته أن الصهيونية العالمية هي أصل المشكلة، والدليل أنه رغم اعتراض الكثير من شعوب العالم على عمليات إبادة سلطات الاحتلال لغزة، فإن هذه السلطات لم تكترث بالموقف العام الدولي، واستمرت في نهجها التدميري لغزة، غير آبهة، أو مكترثة لمواقف العديد من الدول والحكومات، ومدركة أن أحداً لن يستطيع مجابهتها لمعرفتها بمدى سيطرتها على مركز القرار في أقوى قوة في العالم.
في المواقف كافة التي أطلقها في عودته، تبيّن كم كان همّه فلسطين، بوصلة الحرية والتحرر، وكم كانت حماسته عالية لتحريض الناس على دعم غزة ووقف معاناتها، ليؤكد من جديد قناعاته الراسخة أن أصل المشكلة هي الصهيونية الأميركية، وأن لا تحرير ولا تغيير إلّا بالفصل الأخير، الذي لفت النظر إليه، من عمر الكيان الصهيوني.