اتفاقيات الدفاع المشترك بلا جدوى… "إسرائيل" خارج الحسابات!
الأمن القومي العربي لم يعد يحتمل مزيداً من التعطيل أو الارتهان للوعود الدولية. المطلوب مراجعة جذرية لاتفاقيات الدفاع المشترك، وتحديد مهمات واضحة للقواعد العسكرية الأجنبية.
-
اتفاقيات الدفاع المشترك..معاهدات خارج الخدمة.
أظهرت التطورات الأخيرة في المنطقة أن اتفاقيات الدفاع المشترك، سواء الثنائية أم الجماعية، لم تكن في معظم الأحيان أكثر من نصوص شكلية أو أدوات انتقائية يجري اللجوء إليها فقط بما يخدم مصالح الدول الكبرى أو بعض الأطراف العرب، لا بما يحمي فعلياً الأمن القومي العربي.
ومع أن هذه الاتفاقيات صيغت تحت عناوين حماية الاستقلال وردع العدوان، إلا أن حصيلتها العملية تكشف عجزاً متواصلاً أمام التهديد الأخطر على الإطلاق: الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة. وبذلك تحولت إلى عبء سياسي ومالي، وإلى قناة لزيادة التبعية العسكرية والاقتصادية، بدل أن تكون أداة لحماية الدول المستضيفة أو دعم استقرارها.
معاهدات خارج الخدمة
يمكن تصنيف اتفاقيات الدفاع المشترك العربية إلى ثلاثة أنماط رئيسية:
-معاهدة الدفاع العربي المشترك لعام 1950، الموقعة تحت مظلة جامعة الدول العربية. وهي الاتفاقية الأقدم والأوسع، لكنها بقيت بلا أي تفعيل منذ نشأتها. فخلال العدوان الثلاثي عام 1956، وحرب حزيران 1967، وحرب أكتوبر 1973، ثم الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وأخيراً غزو الكويت 1990 وما تلاه من احتلال العراق عام 2003، لم تُفعل بنود الاتفاقية عملياً. بل الأخطر أن بعض الدول العربية قامت بخرقها صراحة عبر دعم حركات انفصالية أو التورط في تدخل عسكري مباشر ضد دول عربية أخرى، وهو ما جعل المعاهدة أقرب إلى إطار رمزي فاقد للثقة.
- الاتفاقيات الإقليمية والثنائية بين الدول العربية، وأبرز مثال عليها اتفاقية الدفاع الخليجي المشترك التي وُقعت عام 2000. ورغم أنها جاءت في إطار تهديدات مباشرة لأمن المنطقة، فإنها عجزت عن إثبات فعاليتها عندما تعرضت الدوحة مؤخراً لاعتداء إسرائيلي، حيث اكتفى البيت الخليجي ببيانات التضامن والشجب. هذه الحالة كشفت أن تضارب الحسابات السياسية بين دول الخليج جعل الاتفاقية حبراً على ورق، تماماً كما حصل مع معاهدة الجامعة العربية.
-الاتفاقيات مع القوى الأجنبية، وهي الأكثر حساسية، لأنها غالباً ما ترتبط بإقامة قواعد عسكرية أو شراء منظومات سلاح أو تدريب قوات. من الأمثلة البارزة الاتفاقية السورية – السوفياتية التي لم تمنع "إسرائيل" من تنفيذ مئات الغارات داخل الأراضي السورية على مدى سنوات، وكذلك الاتفاقيات الأميركية مع قطر أو البحرين التي لم تتحرك في مواجهة العدوان الأخير. في الواقع، تُظهر التجربة أن هذه الاتفاقيات تخضع دائماً لمعادلة المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، فالولايات المتحدة مثلاً لن تواجه تركيا دفاعاً عن أي طرف عربي، لكنها قد تتدخل عسكرياً ضد إيران تحت أي ذريعة.
لماذا الآن؟
السؤال المشروع هو: لماذا يعود الحديث اليوم عن جدوى هذه الاتفاقيات؟ السبب المباشر هو استهداف "إسرائيل" لعاصمة خليجية تُعتبر مقراً لأكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط. الحدث بحد ذاته يفضح التواطؤ الأميركي مع العدوان، ويظهر تناقض وظيفة القواعد العسكرية الأجنبية التي يُفترض أن تكون مظلة حماية للدول المستضيفة. لكن القضية أعمق من ذلك، إذ إن الأمن القومي العربي تعرض لانتهاكات متكررة خلال العقود الماضية: قصف الناتو لليبيا عام 2011، الاحتلال التركي لشمال سوريا وشمال العراق، الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على غزة ولبنان وسوريا، فضلاً عن الحروب الداخلية التي غذّاها أطراف إقليميون ودوليون. الجديد اليوم أن كل هذه التهديدات باتت أكثر وقاحة، وأن الخطاب العربي الرسمي لا يتجاوز في معظم الأحيان دائرة الإدانة والشجب.
إن فشل اتفاقيات الدفاع المشترك لا يعود فقط إلى غياب التفعيل أو ضعف القدرات العسكرية، بل إلى خلل بنيوي في النظام العربي نفسه، والذي تتبدى ملامحه بما يلي:
-تضارب المصالح بين الدول العربية، حيث يُنظر إلى الأمن القومي من زاوية قطرية ضيقة لا من منظور جماعي.
-التبعية الاقتصادية للنفط والغاز وما تفرضه من ضغوط سياسية تحد من حرية القرار العسكري.
-غياب صناعة عسكرية عربية مستقلة تجعل الدول في حاجة دائمة إلى استيراد السلاح من القوى الكبرى، وهو ما يخلق علاقة تبعية تُفرغ الاتفاقيات من مضمونها.
-الانقسامات السياسية والأيديولوجية التي تعمق العجز عن بناء قيادة موحدة أو غرفة عمليات مشتركة.
بالمقارنة، نجحت منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لأنها تقوم على مبدأ "الردع الجماعي"، ولديها قيادة عسكرية مشتركة وبنية تحتية دفاعية موحدة. كذلك تمكنت منظمة معاهدة الأمن الجماعي في آسيا الوسطى من التدخل في بعض النزاعات، لأنها تملك حدّاً أدنى من التوافق السياسي والإرادة التنفيذية. هذه المقارنة تكشف أن الإشكالية عربية داخلية في الدرجة الأولى، وليست مجرد غياب دعم خارجي.
خيارات وسيناريوهات
أمام هذا الواقع، يمكن تصور سيناريوهين رئيسيين:
-الاستمرار في الوضع الراهن: ستظل الاتفاقيات أداة شكلية، بينما تتواصل الاعتداءات الإسرائيلية والاختراقات الأمنية من دون أي ردع.
-إعادة صياغة الاتفاقيات: من خلال وضع آليات تنفيذ واضحة، وتحديد مجالات محددة للتعاون مثل الأمن السيبراني، وتبادل المعلومات الاستخبارية، والتدريب المشترك، والتسليح الموحد.
إلى جانب ذلك، هناك أدوات يمكن للدول العربية تفعيلها تدريجياً:
-المسار الدبلوماسي: طرد أو تجميد العلاقات مع السفراء الإسرائيليين، وتنسيق تحرك عربي في الأمم المتحدة والمحاكم الدولية.
-المسار الاقتصادي: وقف بعض الاتفاقيات التجارية والمالية مع الكيان الإسرائيلي، وربط أي تعاون اقتصادي بوقف العدوان.
-المسار القانوني: رفع دعاوى ضد قادة "إسرائيل" في محكمتي العدل والجنائية الدوليتين، بما يراكم الضغط السياسي والقانوني.
-المسار الشعبي والإعلامي: تعزيز دور المجتمع المدني والفضاءات الإعلامية في محاسبة الحكومات على فشل الاتفاقيات.
المحصلة أن الأمن القومي العربي لم يعد يحتمل مزيداً من التعطيل أو الارتهان للوعود الدولية. المطلوب مراجعة جذرية لاتفاقيات الدفاع المشترك، وتحديد مهمات واضحة للقواعد العسكرية الأجنبية، بحيث تكون الأولوية لحماية الدول المستضيفة لا لمصالح القوى الكبرى. إن الاستمرار في الاكتفاء بالشجب والإدانة يكرّس الواقع القائم ولا يغيّره.
والسؤال المركزي يبقى: هل لدى الدول العربية الإرادة السياسية لتجاوز التبعية وبناء منظومة دفاع جماعية حقيقية؟ الجواب مرهون بمدى استعدادها لتحويل الأقوال إلى أفعال، واستثمار الهامش المتاح قبل أن يتسع الخطر الإسرائيلي ليشمل الجميع.