استئناف العدوان على غزة وفرضية اندلاع الحرب الشاملة!

في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المنطقة، والتي يمكن أن تشهد تطورات دراماتيكية في عدد من الساحات، وليس فقط في قطاع غزة، قد يضطر محور المقاومة إلى الخروج على عاداته القديمة، والذهاب في اتجاه خيار المواجهة.

0:00
  • أغلبية الدول العربية والإسلامية، عبر أنظمتها الحاكمة وشعوبها، ما زالت تقف في مربع المفعول به.
    أغلبية الدول العربية والإسلامية، عبر أنظمتها الحاكمة وشعوبها، ما زالت تقف في مربع المفعول به.

مخطئ من يظنّ أن استئناف العدو الصهيوني حربه المجنونة على قطاع غزة، والتي أسفرت عن ارتقاء أكثر من أربعمئة شهيد في ساعاتها الأولى، هو بسبب رغبة نتنياهو في إطالة عمر ائتلافه اليميني المتطرّف، وحمايته من السقوط والتفكّك فقط. ومخطئ من يظن أيضا أن العودة إلى مربّع الحرب من جديد هو لتمرير بعض قرارات نتنياهو المثيرة للجدل، مثل إقالة رئيس جهاز الشاباك رونين بار، أو تمرير بعض القوانين في الكنيست.

ومع أن الأسباب سالفة الذكر وغيرها، مما يشير إليه بعض الساعين إلى تسطيح الأمور وتبسيطها، قد تكون ساهمت في اتخاذ مثل هذا القرار، إلا انها لا تعدو عن كونها أسباباً ثانوية، يتم استخدام بعضها من جانب إعلام العدو المنقاد إلى المؤسسة الحكومية الرسمية لإخفاء الأسباب الحقيقية من وراء العدوان، والتي يمكن أن يؤدي الكشف عنها، أو التصريح بها، إلى تداعيات لا يرغب العدو وحلفاؤه في حدوثها، أو على أقل تقدير تأجيلها إلى وقت لاحق.

وفي حقيقة الأمر يمكن لنا، من خلال عرض جملة التطورات الأخيرة في المنطقة، أن نكتشف السبب الحقيقي وراء ما يجري، وهو مرتبط بشكل أساسي بتنفيذ خطة أميركية - إسرائيلية مشتركة لحسم المعركة العسكرية مع محور المقاومة في المنطقة، وتوجيه ضربة قاضية إلى هذا المحور، مستغلّة بعض الإنجازات التكتيكية التي حقّقتها خلال فترة عام ونصف عام التي مرت، والتي يعتقد الجانبان أنها يمكن أن تفتح الطريق امامهما على مصراعيه لفرض "إسرائيل" شرطياً للمنطقة بلا منازع، وإبعاد سائر القوى المهمة والفاعلة وإسقاطها، وخصوصا أولئك المناوئين لها، والذين وقفوا على الدوام في وجه خططها التوسّعية والإجرامية.

منذ التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، في شقّه الفلسطيني، قبل شهرين تقريباً، عمدت دولة الاحتلال إلى التنصّل من معظم ما ورد فيه، وقامت باختلاق كثير من الأزمات، التي كادت تؤدي إلى انهياره وسقوطه، وزادت على ذلك عبر رفضها الانتقال إلى المرحلة الثانية منه، والتي كانت تنص صراحة على الانسحاب من أراضي القطاع، وتسهيل دخول الخيام والبيوت الموقتة، إضافة إلى المعدّات الثقيلة اللازمة لرفع الأنقاض وبدء الإعمار، إلى جانب فتح معبر رفح في الاتجاهين، وتفاصيل أخرى كانت ستؤدي لاحقاً إلى إعلان وقف الحرب بشكل نهائي.   

هذا التنصل، الذي تُوّج بالعودة إلى سياسة القتل والعدوان، فجر الثلاثاء الدامي، ترافق مع كثير من التطورات التي سبقته على مستوى الإقليم، والتي يبدو أنها مرتبطة، بشكل أو بآخر، بما كان يتم إعداده في الخفاء من عدوان على غزة، يحيث تدهورت الأوضاع الأمنية على جانبي الحدود اللبنانية - السورية، بعد الهجمات الصاروخية التي شنّتها قوات النظام السوري الجديد ضد القرى والمدن عند الحدود الشرقية للبنان، والتي حاولت من خلالها استجرار رد فعل من مقاتلي حزب الله، الذي نفي علاقته بتلك الأحداث، وهو الأمر الذي يشير إلى رغبة مؤكَّدة من نظام دمشق الحالي في إشغال الحزب، واستنزاف قواته التي تتأهب لمواجهة قد تكون مرتقبة في الجانب الجنوبي من الحدود، وخصوصاً في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، وتنكّر العدو لعدد من بنود اتفاق التهدئة، في شقّه اللبناني.

 على بعد أكثر من 1700 كلم عن الأراضي الفلسطينية واللبنانية، تبدو خيوط المخطط الأميركي-الإسرائيلي واضحة، إذ هاجمت الطائرات الأميركية والبريطانية مدناً يمنية متعددة خلال الأيام الاخيرة، موقعة عشرات الشهداء والجرحى، في عدوان تجاوز، بمراحل من ناحية الحجم والمدى والخسائر البشرية والمادية، سابقاته من الاعتداءات الماضية.

ومع أن هذا العدوان الهمجي استهدف مدناً يمنية، إلا ان صداه تردد في العاصمة الإيرانية طهران، التي هدّدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب صراحة، وحمّلها مسؤولية أي رد فعل يمني على العدوان السافر، وهو ما يمهّد الطريق، كما يشير كثير من الخبراء، إلى إمكان اندلاع مواجهة مباشرة بين الجانبين الأميركي والإيراني، في سابقة حاول معظم الرؤساء الأميركيين تفاديها خلال السنوات الماضية، وفي المقدّمة منهم الرئيس ترامب نفسه أثناء ولايته الأولى في العام 2016.

التصعيد الأميركي ضد إيران لم يقتصر على التهديد والوعيد فقط، بل سبقه توجه واضح إلى العودة إلى سياسة الضغوط الاقتصادية القصوى، وهو ما بدا جليّاً في إنهاء إعفاء العراق من دفع ثمن الكهرباء إلى الجانب الإيراني، بالإضافة إلى التهديد الأوروبي المدفوع أميركيا بتفعيل آلية الزناد ضد إيران من جديد.

في ظل ما سبق من تحركات، أشار كثير من التحليلات إلى ترابطها وتزامنها، وإلى كونها نتيجة خطة طويلة المدى، تم إعدادها منذ فترة الرئيس الأميركي المنصرف، جو بايدن، يجد محور المقاومة، في كل ساحاته، نفسه امام تحدٍّ وجودي، بكل ما للكلمة من معنى، وهو إن كان حاول سابقا تأخير مواجهة هذا التحدّي من خلال تقديم بعض التنازلات الموقتة، كما جرى في لبنان وغزة والعراق وحتى إيران، إلا أن الوضع الحالي في المنطقة، وما يمكن أن ينتج منه من تداعيات خلال الأيام والأسابيع المقبلة، يحتّم على المحور اتخاذ قرارات صعبة، وربما تكون مصيرية، وهذه القرارات يمكن أن تحدّد شكل المنطقة خلال الأعوام العشرين المقبلة، في أقل تقدير.

وحتى نكون أكثر تحديداً، فإن امام محور المقاومة خيارين لا ثالث لهما، وكلا هذين الخيارين محفوف بمروحة واسعة من المخاطر، ويمكن أن ينتج منه تداعيات صعبة ومعقّدة. أولهما الانحناء أكثر أمام العاصفة الهوجاء القادمة من واشنطن و"تل أبيب"، اللتين تقودان ائتلافاً عريضاً من دول غربية كانت في الماضي عريقة، وأخرى عربية وإسلامية حسمت خياراتها منذ زمن بعيد، وجنّدت كل إمكاناتها المادية والبشرية والإعلامية من أجل نصرة حلف الشر، وترويج مخططاته ومؤامرته.

الخيار الثاني هو خيار المواجهة الشاملة والمفتوحة مع محور الشر، بكل أطرافه، وهو خيار حاول محور المقاومة، وعلى رأسه إيران، أكثر من مرة، تجنّبه وتحاشيه، نتيجة عدد من الأسباب، لا يتسّع المجال لذكرها في هذه العجالة، مفضّلاً تأجيل هذه المواجهة التي لن تكون، في أي حال من الأحوال، سهلة أو مضمونة النتائج، رافعاً شعار "الصبر الاستراتيجي"، والذي، إن كان غادر مربعه في لحظة ما بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشهيد إسماعيل هنية، في قلب العاصمة الإيرانية، من خلال قصف القواعد العسكرية الإسرائيلية بالصواريخ الإيرانية، إلا أنه ظل محافظاً على الخطوط العريضة لهذا النهج الذي يتباين بشأنه الكثيرون، حتى من مؤيدي هذا المحور ومناصريه.

في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المنطقة، والتي يمكن أن تشهد تطورات دراماتيكية في عدد من الساحات، وليس فقط في قطاع غزة، قد يضطر محور المقاومة إلى الخروج على عاداته القديمة، والذهاب في اتجاه خيار المواجهة مهما كانت التكلفة، ومهما تعاظمت المخاطر. 

في كل حال، وبعيداً عن الخيارات التي سيلجأ إليها محور المقاومة لمواجهة ما يمكن أن نُطلق عليه "المعركة المفروضة"، وبغضّ النظر عن الوسائل أو الأدوات التي يمكن أن يستخدمها وهي كثيرة ومتعددة، فإن ما ستشهده المنطقة خلال الفترة المقبلة يمكن أن يتباين عن سابقه، شكلاً وموضوعاً، بل إنه يمكن أن يصل إلى انفجار كبير يدفع الجميع ثمنه من دون استثناء.

المؤسف في كل ما يجري ان أغلبية الدول العربية والإسلامية، عبر أنظمتها الحاكمة وشعوبها، ما زالت تقف في مربع المفعول به، ولم ترتقِ، كما كان يأمل البعض، وأنا منهم، ولاسيما بعد قمتي الرياض والقاهرة، إلى مصاف الدول المؤثرة، والتي تستطيع أن تفرض الحد الأدنى من نتائج اجتماعاتها ومؤتمراتها، التي لم تستطع حتى الآن أن تُرغم العدو على وقف جرائمه ومذابحه، بل لم تستطع فتح معبر رفح لإدخال الغذاء والدواء لأهل غزة المحاصَرين.

هذه الدول والأنظمة، وصولاً إلى الشعوب، لن تكون في مأمن في حال سقط جدار الامة الأخير الذي يقف في وجه قوى الشر والاستكبار، فهي ستجد نفسها من دون أي مقدّمات في قلب العاصفة، التي ستُدخل الجميع في المنطقة من دون استثناء للحظيرة الإسرائيلية، والتي سيكون مصير كل من بداخلها الذبح إما عاجلاً وإما آجلاً، حتى لو قدّم كل فروض الولاء والطاعة إلى الجزّار، أو دفع مليارات الدولارات من مال الشعوب للقتلة وشذّاذ الآفاق.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.