من الذهب إلى النفط... رحلة الدولار بين الارتباط والانفصال

علاقة الذهب بالدولار علاقة متجذّرة ومرتبطة بعوامل اقتصادية وسياسية معقّدة، لكن ما ينتظره العالم اليوم هو الصدمة الاقتصادية المقبلة:هل ستقوم الولايات المتحدة بإعادة ربط الدولار بالذهب؟

0:00
  • هل ستقوم الولايات المتحدة بإعادة ربط الدولار بالذهب؟
    هل ستقوم الولايات المتحدة بإعادة ربط الدولار بالذهب؟

منذ آلاف السنين، مثّل الذهب رمزاً للقيمة والثروة والاستقرار، فكان معياراً لتقدير النقود ومرجعاً للثقة بين الشعوب. ومع ولادة الدولار الأميركي في أواخر القرن الثامن عشر، بدأت قصة تداخلٍ معقّدة بين المعدن النفيس والعملة الصاعدة، سرعان ما تحوّلت إلى محور للنظام المالي العالمي.

فمن قوانين الدعم الذهبي في مطلع القرن العشرين، إلى فكّ الارتباط في سبعينياته، ثم إلى نشوء نظام البترودولار الذي ربط العملة الأميركية بالنفط بدل الذهب، ظلّت العلاقة بين الاثنين مرآةً لتحوّلات القوة والاقتصاد في العالم الحديث.

من 1913 إلى 1944

عام 1913 كانت المحطة الأولى بين الذهب والدولار، إذ صدر آنذاك أول قانون في الولايات المتحدة يقضي بأن تكون قيمة الدولار مدعومة بنسبة 40% من الذهب.

عام 1933 أصدر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت قراراً يُلغي العمل بمعيار الذهب، ويُلزم الأميركيين ببيع الذهب للاحتياطي الفيدرالي.

عام 1944 تمّ توقيع اتفاق بريتون وودز من خلال مؤتمر عُقد في بلدة نيوهامبشر الأميركية، وشارك فيه ممثّلون عن 44 دولة حليفة خلال الحرب العالمية الثانية. وكان من أبرز مقرّراته ربط الدولار بالذهب، ليصبح الدولار العملة الوحيدة القابلة للتحويل إلى ذهب.

صدمة نيكسون عام 1972

في 15 آب/أغسطس 1971 أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مجموعة إجراءات اقتصادية كان أبرزها فكّ ارتباط الذهب بالدولار.

أنهى نيكسون قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وهو ما كان يشكّل حجر الأساس في نظام بريتون وودز الذي ربط الدولار بسعر 35 دولاراً للأونصة.

جاء هذا القرار نتيجة ما وصل إليه الاقتصاد الأميركي من مؤشّرات سلبية، أبرزها:

1. عجز ميزان المدفوعات الأميركي نتيجة حرب فيتنام.

2. طباعة الدولار من دون تغطية ذهبية.

3. نزيف احتياطي الذهب.

4. ارتفاع التضخّم وتراجع الثقة بالدولار.

النتيجة كانت انهيار نظام بريتون وودز وتحرير أسعار الصرف عالمياً، وصعود الدولار كعملة احتياط رغم انفصاله عن الذهب.

عام 1973: اتفاق البترودولار

شهد هذا العام اتفاق البترودولار وربط الدولار بالنفط، ووصل سعر أونصة الذهب إلى 850 دولاراً بسبب ارتفاع التضخّم وأسعار النفط.

فقد تمّ التوصّل إلى اتفاق بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، ثم انضمّت إليه جميع دول منظّمة "أوبك"، ليصبح بيع النفط حصرياً بالدولار.

وكانت نتائج هذا الربط على النحو الآتي:

- طلب عالمي دائم على الدولار لأنّ الدول تحتاجه لشراء النفط.

- قوة الدولار رغم أنه لم يعد مدعوماً بالذهب.

- سيطرة أميركية شبه كاملة على النظام النقدي العالمي.

بعد فكّ ارتباط الدولار بالذهب، تمّ ربطه عملياً بـ "الذهب الأسود" (النفط) الذي أصبح ملاذاً استثمارياً أكثر جذباً من الذهب الحقيقي.

عام 1999: محطة الانخفاض الحادّ

يُعدّ عام 1999 المحطة الأبرز التي أدّت إلى انخفاض سعر الأونصة إلى 252 دولاراً بسبب خفض البنوك المركزية احتياطاتها من الذهب لأسباب استراتيجية واقتصادية، أبرزها:

1.   انخفاض سعر الذهب حينها وتراجع الطلب عليه، إذ اعتبرت البنوك المركزية أنّ الذهب أصل غير فعّال لا يدرّ عائداً كبيراً.

التحوّل إلى أصول مدرّة للدخل، وبشكل خاص السندات الحكومية الأميركية، للاستفادة من الفوائد وزيادة السيولة.
الاتجاه العالمي نحو تحرير الأسواق وتعزيز الثقة بالسياسات النقدية المستقلة وأسعار الصرف العائمة.

اتفاق البنوك المركزية على بيع الذهب: في أيلول/سبتمبر 1999 تمّ توقيع ما يُعرف بـ اتفاق واشنطن بين 15 بنكاً مركزياً، يهدف إلى بيع كميات محدّدة من الذهب تدريجياً وتحديد سقف سنوي لا يتجاوز400  طن.

الانتقال إلى اليورو في أوروبا: إذ أعادت البنوك المركزية الأوروبية تشكيل احتياطاتها لدعم اليورو كعملة موحّدة

عام 2003: احتلال العراق

شكّل احتلال العراق أزمة سياسية كبيرة في المنطقة، وعلى الرغم من ذلك استقر سعر الذهب عند 400 دولار أميركي للأونصة.

التحوّلات الكبرى في سعر الذهب

1. الأزمة المالية عام 2008: أدّت إلى ارتفاع سعر الذهب من 400 دولار إلى 440 دولاراً.

2. عام 2010: ارتفع الذهب من440  إلى 1230 دولاراً بسبب القلق من أزمة ديون منطقة اليورو. ووصل سعر الأونصة إلى 1360 دولاراً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

3. عام 2019: ارتفع سعر الأونصة بسبب جائحة كورونا إلى 2075 دولاراً للأونصة.

أما العوامل التي دفعت الذهب إلى الصعود خلال الجائحة، فهي:

- الذعر العالمي وتوجّه المستثمرين نحو الملاذات الآمنة.

- السياسات النقدية التوسّعية للمصارف المركزية، وتخفيض الفائدة إلى مستويات تقترب من الصفر، ممّا جعل الأصول الأخرى أقلّ جاذبية مقارنة بالذهب.

- برامج التحفيز المالي الضخمة:

o الدول الكبرى أطلقت حزم دعم تريليونية لمواجهة الانكماش الاقتصادي.

o زيادة طباعة الأموال عزّزت المخاوف من التضخّم على المدى المتوسط، ما دفع الأفراد والمؤسسات إلى تخزين الذهب.

- تراجع قيمة الدولار خلال الجائحة، ما جعل الذهب أرخص لحاملي العملات الأخرى، فزاد الطلب عليه.

4.   في آب/أغسطس 2020 وصل الذهب إلى 2070 دولاراً للأونصة، وشكّل هذا السعر رقماً قياسياً آنذاك.

المحطة ما قبل الأخيرة: أزمة "سيليكون فالي بنك"

في آذار/مارس 2023 شهدت الولايات المتحدة واحدة من أبرز أزماتها المصرفية بعد الأزمة المالية العالمية، ما انعكس مباشرة على ارتفاع أسعار الذهب، خاصة بعد السحب الجماعي للودائع بسبب مخاوف تتعلّق بمحفظة البنك من السندات طويلة الأجل.

وكان تأثير الأزمة على النحو الآتي:

1.   عودة الثقة بالذهب كملاذ آمن.

2.   تراجع توقّعات خفض الفائدة.

3.   هبوط عوائد سندات الدولار.

المحطة الأخيرة عام 2025

وصل الذهب إلى 4381 دولاراً للأونصة، بسبب الرسوم الجمركية والصراع الاقتصادي والتكنولوجي بين الصين وأميركا، والتي بالتأكيد لن تكون المحطة الأخيرة.

إنّ علاقة الذهب بالدولار علاقة متجذّرة ومرتبطة بعوامل اقتصادية وسياسية معقّدة، لكن ما ينتظره العالم اليوم هو الصدمة الاقتصادية المقبلة:

هل ستقوم الولايات المتحدة بإعادة ربط الدولار بالذهب؟ أم ربطه بالعملات المشفّرة؟ الجواب سيأتي في السنوات القليلة المقبلة.