الشيباني إلى بكين... هل ينجح البلدان في تصحيح العلاقة بينهما؟

لا تخفي بكين قلقها من "التعاطي" مع القيادة السورية الجديدة نتيجة انتمائها السابق إلى هيئة تحرير الشام، التي ضمت في صفوفها نحو 5  آلاف مقاتل إيغوري يقاتلون في سوريا.

  • لا تخفي بكين قلقها من
    لا تخفي بكين قلقها من "التعاطي" مع القيادة السورية الجديدة.

يقوم وزير الخارجية السورية أسعد الشيباني بزيارة هي الأولى له إلى العاصمة الصينية بكين، لمناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك بين الجانبين، وخصوصاً أن الصين كانت "داعماً" للنظام السوري السابق، كما أن الحكومة السورية الحالية تضم عدداً من المقاتلين الإيغور في صفوفها، وهو ما تعتبره بكين تهديداً لها. 

سوريا دولة مهمة للصين، باعتبارها حلقة في مشروع الحزام والطريق، وكانت جزءاً من طريق الحرير القديم، كما أنها تشكل نافذة ممكنة لبكين على البحر المتوسط وبوابة لتركيا والدول الأوروبية. 

العلاقات بين البلدين تاريخية، لكن تطورها لا يتناسب مع العقود الطويلة التي مرت على إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما، والتي تعود إلى العام 1956.

الرئيس حافظ الأسد لم يزر الصين مطلقاً، في حين زار بشار الأسد الصين مرتين، كان آخرها قبل سقوطه بنحو عام، حين زار الصين على هامش دورة الألعاب الشتوية التي أقيمت في مدينة يانجو، ولم يستقبل في القصر الرئاسي في بكين. 

تحرص بكين في سياستها الخارجية على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وأن جميع الدول متساوية بغض النظر عن حجمها ومقومات القوة لديها.

من هذه الزاوية، كانت الصين قد وقفت مع سوريا في مجلس الأمن، ودعت إلى ضرورة حل الأزمة في سوريا بالطرق الدبلوماسية، فكانت داعمة لقرار مجلس الأمن 2254، وهو القرار الذي كان نظام الأسد يرفضه بشكل قاطع.

منذ بداية الأزمة في سوريا، حاولت بكين أداء دور الوساطة بين الحكومة والمعارضة، فاستضافت المعارض السوري عبد العزيز الخير عام 2012، لكن النظام قام بخطفه بعد وصوله إلى مطار دمشق الدولي قادماً من بكين. 

منذ بدء عملية "ردع العدوان" بقيادة هيئة تحرير الشام والهجوم على مدينة حلب، أعلنت بكين رغبتها في أداء دور إيجابي يحفظ الأمن والاستقرار في سوريا. 

وبعد أسبوعين من سقوط نظام الأسد، أعلن سفير الصين لدى الأمم المتحدة استعداد بلاده للاضطلاع بدور بناء في استعادة الاستقرار في سوريا، ما يعكس نية بكين للمساهمة في إيجاد حلول مستدامة.

المخاوف الصينية من وصول هيئة تحرير الشام إلى الحكم قد تبدو مبررة، وخصوصاً أن هناك مقاتلين مع الهيئة من الحزب التركستاني الإسلامي، وهو الحزب الذي تتهمه بكين بتنفيذ عمليات داخل الصين في الأعوام (2008-2013-2014-2015)، وهو مدرج قس لائحة الإرهاب في الأمم المتحدة منذ العام 2002.

لا تخفي بكين قلقها من "التعاطي" مع القيادة السورية الجديدة نتيجة انتمائها السابق إلى هيئة تحرير الشام، التي ضمت في صفوفها نحو  5  آلاف مقاتل إيغوري يقاتلون في سوريا.

الإيغور هي إحدى القوميات العشر المسلمة في الصين، ولم يسمع أحد بقيام الحكومة الصينية باضطهاد أي من القوميات التسع المسلمة الأخرى، فالقضية ليست بين الحكومة الصينية والمسلمين، بل بين الحكومة الصينية ومن يحمل نزعة انفصالية (الإيغور).

الصين بلد كبير يتجاوز عدد سكانه المليار ونصف المليار، ويتألف من 56 قومية، وبالتالي يتوجب على الحكومة إظهار الحزم حفاظاً على وحدة البلاد.

وجود مقاتلين من الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا دفع بكين عام 2016 إلى توقيع اتفاق للتعاون الأمني مع دمشق، تقوم بموجبه سوريا بتزويد الصين بتقرير شهري عن تحركات هؤلاء الإرهابيين، مقابل قيام بكين بتعيين مبعوث خاص لها إلى سوريا.

وجود هؤلاء المقاتلين في سوريا، والحديث عن منح بعضهم الجنسية السورية، وترقية بعضهم إلى مواقع قيادية، يثير قلق بكين.

علاقة تركيا بالحكومة السورية الجديدة أمر تخشاه بكين، في ظل وجود 100 ألف إيغوري في تركيا، وفي ظل الدعم التركي لهم بشكل معلن.

ترى تركيا أن التركستان جزء من الأمة التركية. وكثيراً ما دانت أنقرة "الاضطهاد الذي يتعرض له المسلمون" من قبل الحكومة الصينية.

بكين تنفي هذه الاتهامات، وترى أن سياستها لم تكن عدائية ضد المسلمين أو غيرهم، لكنها تقف بحزم ضد أية جماعة انفصالية وأي تنظيم إرهابي.        

هل نتوقع عودة العلاقات إلى طبيعتها بين البلدين؟

العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لا تزال قائمة، فالسفير السوري في بكين لا يزال على رأس عمله، والسفارة الصينية في دمشق لم يجرِ الحديث عن إغلاقها. 

بعد سقوط نظام الأسد، غادر أعضاء البعثة الدبلوماسية الصينية دمشق، وجرى الحديث عن اعتداءات بسيطة تعرضت لها السفارة الصينية في سوريا.

السفير الصيني في دمشق زار سوريا 3 مرات، والتقى في المرة الأولى الرئيس الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني في شباط 2025. وفي المرة الثانية والثالثة، التقى وزير الخارجية أسعد الشيباني، لكن السفارة الصينية في دمشق لم تباشر أعمالها للمواطنين بعد، كما أنها أوقفت منح سمات الدخول للمواطنين السوريين الراغبين في السفر إلى الصين.

 تسعى بكين إلى الحصول على ضمانات تبدد مخاوفها من طريقة تعامل الحكومة السورية مع المقاتلين الأجانب (الإيغور) في سوريا.

زيارة وزير الخارجية السورية أسعد الشيباني إلى بكين قد تنجح في إعادة العلاقات بين البلدين، فالصين تحترم خيارات الشعب السوري وتتعامل بواقعية مع التغيرات الجارية في سوريا. 

كانت الصين قد أقامت علاقات مع حكومة طالبان بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وتدفقت الاستثمارات الصينية إلى هناك، بمعنى أن بكين تتعاطى ببراغماتية وواقعية في سياستها الخارجية.

اليوم، أصبح هناك مخاوف أميركية من نجاح "النموذج التنموي الصيني" في أفغانستان، وخصوصاً أن الولايات المتحدة وطوال العقود التي كانت فيها مسيطرة على الأوضاع هناك، حرصت على تدمير هذا البلد ليكون مصدراً للإرهاب والمخدرات فقط.

سوريا اليوم بحاجة إلى الدعم الصيني لها في مجلس الأمن، وكذلك إلى الدور الصيني في مرحلة إعادة إعمارها.

لا يمكن لبكين أن تتعامل مع قسد أو حكمت الهجري أو أي كيانات سورية قد تنشأ انطلاقاً من مواقف الصين المبدئية الرافضة للتعاون مع "الكيانات دون الدولة"، وهو ما يشكل ارتياحاً لدى الحكومة السورية. 

هل هناك تنافس أميركي- صيني في سوريا؟ 

لطالما ابتعدت بكين عن مزاحمة الولايات المتحدة، وأجادت "الاستثمار في الهوامش"، أي المناطق البعيدة عن الأطماع الأميركية.

الاستثمارات الصينية في القارة الأفريقية خير مثال على ذلك، فعندما نجح النموذج التنموي الصيني في "القارة السمراء"، عادت الولايات المتحدة وغيرها من الدول إلى الحضور مجدداً في القارة.

المعضلة بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية تتمثل في أن النموذج الصيني في التنمية يحظى بقبول رسمي وشعبي في دول العالم الثالث، ومنها سوريا، على عكس النموذج الأميركي.

الصين لا تفرض شروطاً سياسية على الدول التي تتعاون معها، كما أن الصين نجحت في بناء مشاريع قدمتها كهدية للشعوب التي استثمرت فيها، وهو ما ترك أثراً إيجابياً لدى أبناء تلك المناطق.

وصول ترامب إلى السلطة زاد مخاوف بكين، وخصوصاً أنه كان قد أزال اسم الحزب الإسلامي التركستاني من لائحة الإرهاب الأميركية عام 2020، لأن هؤلاء لا يؤمنون بـ "الجهاد العالمي"، وبالتالي لا يشكلون خطراً على الغرب.

ترامب، وخلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، أعلن صراحة اعترافه بالنفوذ التركي في سوريا، مطالباً "إسرائيل" بالاتفاق مع تركيا على تقاسم النفوذ في سوريا، وهو ما يزيد من مخاوف بكين التي تتهم أنقرة بتجنيد المقاتلين الأيغور ونقلهم إلى سوريا.

ترى بكين أن الولايات المتحدة الأميركية تسعى إلى استنساخ النموذج الأفغاني ضد الصين (الجهاد الأخضر)، بعدما نجحت في توظيفه ضد الاتحاد السوفياتي (الجهاد الأحمر) لمدة عشر سنوات (1979-1989) أدت إلى استنزاف الاتحاد السوفياتي اقتصادياً، ومن ثم تفكيكه (مع الإشارة هنا إلى أن حجم اقتصاد الاتحاد السوفياتي سابقاً لم يكن يتجاوز 40% من حجم الاقتصاد الأميركي حينها، في حين يوازي الاقتصاد الصيني اليوم نظيره الأميركي، وربما يتفوق عليه وفقاً لبعض التقديرات). 

التجييش ضد الصين، والاتهامات الموجهة إليها من قبل الولايات المتحدة باضطهاد المسلمين، الهدف منه التحريض على الصين، وصولاً إلى عرقلة نموها وتطورها.

بكين تعي ذلك جيداً. لذا، سعت إلى نفي تلك الاتهامات وفضحها عبر السماح لوسائل الإعلام الأجنبية والدبلوماسيين الأجانب بزيارة إقليم شينجيانغ.

نجح حكام سوريا الجدد في تبديد مخاوف العديد من دول العالم، فأبدوا براغماتية كبيرة وقدرة على التحول من فكر الجماعة إلى فكر الدولة.

الوفود الدولية الكبيرة التي زارت دمشق تعكس مخاوف تلك الدول ورغبتها في الوقت ذاته بالتعاطي مع "رأس" واحد في سوريا. 

لم تنجح الحكومة السورية بعد في تبديد مخاوف بكين، وخصوصاً أن قائمة الترفيعات العسكرية الأخيرة التي تضمنت 50 ضابطاً، 6 منهم أجانب. وكانت هذه الخطوة محط انتقاد من قبل الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية وبعض الدول العربية.

الموقف الرسمي السوري أن لهؤلاء فضلاً على الثورة السورية، وأن المرحلة الحالية تقتضي تحقيق الانسجام والتركيز على الولاء أولاً وقبل كل شيء.

مساعي الحكومة السورية لرفع العقوبات عنها لم تتوج بالنجاح بعد. وفي حال عدم رفع العقوبات، ستجد الحكومة السورية نفسها مضطرة إلى "التوجه شرقاً"، وستكون بكين قبلتها الأولى، وخصوصاً أن الصين غير ملتزمة بالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة بشكل منفرد. 

يشكل ملف إعاد الإعمار الأولوية بالنسبة إلى الحكومة السورية، ولا يمكن تجاهل الدور الصيني وقدرة الشركات الصينية على أداء دور كبير في هذا الإطار.

لقاء الرئيس الشرع وفداً من رجال الأعمال من جمهورية الصين الشعبية برئاسة تشو ليجانغ، المدير العام لشركة أوج تكنولوجي في منطقة الشرق الأوسط، يؤكد حرص القيادة السورية على أن يكون للصين دور رئيس في مرحلة إعادة الإعمار.

كل المؤشرات تؤكد أن عودة العلاقات إلى طبيعتها بين البلدين لن تكون بعيدة إذا ما استطاعت سوريا تحييد التدخلات الخارجية أو التخفيف منها على أقل تقدير.

ما حدث في سوريا وسقوط النظام فيها يفرض على الصين إعادة التفكير في استراتيجياتها الخاصة بالأمن الإقليمي وإعادة رسم دورها المستقبلي في سوريا.

ابتعاد الصين عن سوريا سيجعل دولاً أخرى تسعى لـ"ملء الفراغ"، وهو ما سيشكل خسارة الصين لدولة تشكل فرصة استثمارية نادرة لشركاتها.