سوريا و"إسرائيل"...هل بات الصراع حتمياً

"إسرائيل" ليست لديها أطماع توسّعية في سوريا، لكنها لا تريد سوريا القوية، ولا يمكنها تصوّر وجود جار جديد لها في سوريا، خاصة إذا كان هذا الجار بحجم تركيا التي يحكمها في المحصّلة حزب إسلامي لا يمكن الوثوق به من قبل "إسرائيل".

0:00
  • ما الموقف التركي من الأحداث في سوريا؟
    ما الموقف التركي من الأحداث في سوريا؟

تصاعدت حدّة الهجمات الاسرائيلية على سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد لأسباب تعكس حالة القلق الإسرائيلي مما يحدث في سوريا، لجهة وصول قيادة جديدة ذات توجّهات جهادية، ودور تركيا في سوريا الجديدة وسوى ذلك من الملفات.

فمنذ اليوم الأول لسقوط النظام قامت "إسرائيل" بعملية توغّل برية، نتج عنها احتلال المزيد من الأراضي السورية، ونصب نقاط تموضع جديدة لها في الداخل السوري، وتدمير قدرات الجيش السوري وبناه التحتية كالمطارات والمراكز البحثية وغيرها.

استمرت الهجمات الإسرائيلية على سوريا بذريعة استهداف العناصر الأجنبية الموجودة هناك، وعدم السماح لتركيا بإقامة قواعد عسكرية في سوريا، وهي الذريعة ذاتها التي كانت تبرّر فيها اعتداءاتها في مرحلة النظام البائد، فالهدف كان إيران و"ميليشيات حزب الله" وفقاً لـ "إسرائيل".

تزايد التصعيد استدعى من الحكومة السورية اتخاذ مواقف سياسية على الأقل، وهو ما كانت حكومة دمشق تتحاشاه، انطلاقاً من رغبتها في التركيز على الداخل لبسط سيطرتها، ومعالجة الواقع الاقتصادي المتردّي، وصولاً لإعادة إعمار سوريا.

فلا يمكن لعاقل توقّع أن تقوم سوريا بالردّ على "إسرائيل" عسكرياً، خاصة وأنّ قدراتها العسكرية باتت مدمّرة، لكن ذلك لا ينفي حقيقة القدرة على تسهيل وتنظيم بناء مقاومة شعبية قادرة على صدّ العدوان إن اقتضت الضرورة ذلك.

الدفاع عن سوريا في مواجهة أيّ اعتداء خارجي عامل يوحّد السوريين جميعاً، بمختلف انتماءاتهم وطوائفهم، ويشجّعهم على نسيان الخلافات ورصّ الصفوف استعداداً لمعركتهم الحقيقية. "إسرائيل" ليست لديها أطماع توسّعية في سوريا، لكنها لا تريد سوريا القوية، ولا يمكنها تصوّر وجود جار جديد لها في سوريا، خاصة إذا كان هذا الجار بحجم تركيا التي يحكمها في المحصّلة حزب إسلامي لا يمكن الوثوق به من قبل "إسرائيل".

"التوسّع المفرط" لا يخدم مصالح "إسرائيل"، كما أنها لم تعد قادرة على امتلاك القوة اللازمة لبسط سيطرتها على المناطق التي تتوسّع فيها، وبات جلّ اهتمامها حماية نفسها عبر جدار عازل بنته حولها، لكنه ومع الوقت ثبت فشله في تحقيق ذلك. لكن هذا لا ينفي رغبة "إسرائيل" في خلق مناطق عازلة تحيط بها، ولا يخفي سياسة "إسرائيل" الساعية إلى بسط نفوذها على عدد من الدول العربية عبر سعيها للسيطرة على صانعي القرار في تلك الدول وتحقيق اختراقات أمنية فيها.

الموقف التركي من الأحداث في سوريا..

أدّت تركيا دوراً كبيراً في دعم الثورة السورية، فاستضافت ملايين اللاجئين السوريين، وقدّمت كلّ أشكال الدعم اللازم لاستمرار الثورة السورية وصولاً لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. كثيرة هي الدول التي تدخّلت في الوضع السوري، وقدّمت الدعم للأطراف المتصارعة فيها، لكنّ تركيا ترى أنّ لها الأحقية في "قطف الثمرة السورية" لأسباب كثيرة.

إعلان تركيا رغبتها في ترسيم الحدود البحرية مع سوريا كان لافتاً، فقد جاء بعد بضعة أيام فقط من سقوط الأسد، وهو ما لقي استهجاناً لدى العديد من الأطراف، خاصة وأنّ الحكومة السورية المؤقتة لم تكن تمتلك الصلاحيات القانونية اللازمة لذلك. ورغبة تركيا في إقامة قواعد عسكرية لها في سوريا تثير قلق العديد من الدول العربية والإقليمية، وخاصة "إسرائيل" التي تعلن صراحة موقفها الرافض لذلك.

الولايات المتحدة الأميركية لديها أيضاً مخاوف من توسّع النفوذ التركي، وترى أنّ بقاء قواتها في شمال شرق سوريا يؤدّي دور الموازن لمنع توسّع تركيا في محيطها الإقليمي. كما ترى الولايات المتحدة أنّ تركيا لديها فائض قوة، ومحاطة بعدد من الدول الضعيفة، وبالتالي فإنّ هناك مخاوف من توسّع النفوذ التركي في دول الجوار الإقليمي.

الدعم الأميركي المستمرّ لقوات سوريا الديمقراطية، يدخل جزء منه في إطار المناكفات السياسية مع تركيا، وستؤدّي التوافقات الأميركية مع تركيا إلى تسريع انضمام قوات سوريا الديمقراطية إلى مظلة وزارة الدفاع السورية مقابل خروج القوات التركية من بعض المناطق الموجودة فيها في سوريا.

الحديث عن دور تركيا في إعادة بناء الجيش السوري لن يلقى ترحيباً من قبل "إسرائيل"، خاصة وأنّ لديها مخاوف من تسليم تركيا عدداً من المسيّرات إلى الحكومة السورية. لكن تركيا لا تسعى للمواجهة مع "إسرائيل" وكذلك "إسرائيل" لا تريد المواجهة مع تركيا، لكنّ تعارض مصالح الدولتين في سوريا قد يجعل من سوريا "مكسر عصا" بينهما، وهو ما لا تريده سوريا بكلّ تأكيد.

تطوّرات الأوضاع في تركيا تدفع حزب العدالة والتنمية إلى تحقيق أيّ انتصار خارجي يمكن أن يقدّمه للشعب التركي، ولعلّ التوصّل إلى تسوية في ملف التعامل مع قسد يعدّ الأكثر ترشيحاً في هذا الإطار.

المساعي الإسرائيلية لتحقيق طموحاتها في سوريا...

تسعى "إسرائيل" إلى خلق حالة من الانقسام بين مكوّنات الشعب السوري، فتعلن دعمها للدروز والكرد وباقي الأقليّات في سوريا. فاللعب على ورقة الأقليات لعبة مكشوفة ولا تقنع أحداً، لكنّ ذلك لا ينفي قدرة "إسرائيل" على إيجاد فصيل درزي أو كردي أو غيره، يسعى للتعامل معها. لكنّ ذلك الفصيل لن يكون معبّراً عن موقف الدروز كلّهم، ولا يمكنه الحديث باسم جميع الكرد الوطنيين في سوريا.

إعلان نتنياهو نيّته التدخّل لحماية الدروز أحرج دروز سوريا الذين وجدوا فيه إساءة لهم، وهم من كان تاريخهم رمزاً للوطنية ومقاومة الاستعمار الأجنبي. لكنّ "إسرائيل" تذرّعت بأنّ لديها مواطنين دروزاً يخشون أن يتعرّض أبناء طائفتهم للاضطهاد في سوريا، وبالتالي فإنّ موقف الحكومة الإسرائيلية جاء تلبية لنداء مواطنيها.

حماس "إسرائيل" لحماية الدروز أمر مستغرب، فالدروز لم يتعرّضوا للاضطهاد ولم يطلبوا الحماية من أحد. كما أنّ "إسرائيل" لم تحمِ الدروز طوال فترة حكم الأسد، ولم تتدخّل لحماية الكرد من القصف التركي الذي تعرّضوا له طوال السنوات الماضية. كما أنّ "إسرائيل" ساعدت المسيحيين الموارنة في حربهم ضدّ الدروز في لبنان عام 1982.

وفي سبيل ذلك، خصّصت الحكومة الإسرائيلية مليار دولار لتحسّن أوضاع الدروز والشركس شمال "إسرائيل"، وسعت إلى تسهيل مرور عدد من العمال الدروز من سوريا للعمل في "إسرائيل"، مستغلّة أوضاعهم الاقتصادية الصعبة. "إسرائيل" ليست معنيّة بحماية الدروز ولا غيرهم، لكنها تبحث عن مبرّر لبقاء قواتها في الأراضي السورية، كما أنها تسعى لتبرير القيام بعملية عسكرية في الداخل السوري إن استدعى الأمر ذلك.

كما تسعى لإقناع الدروز برفض الإعلان الدستوري والحكومة الجديدة في سوريا، والمطالبة بنظام فيدرالي يقضي على آمال السوريين ببقاء سوريا واحدة موحّدة. ومن غير المستبعد لجوء "إسرائيل" لتنفيذ عمليات مدبّرة ضدّ الدروز في سوريا واتهام حكومة دمشق بذلك، وبالتالي إعطاء "إسرائيل" المبرّر للتدخّل في سوريا. كذلك تعمل "إسرائيل" على استغلال نفوذها للضغط على القوى الدولية الكبرى لتنفيذ رغبتها في قيام فيدرالية في سوريا، وبالتالي منع تركيا من الاستفادة من كامل سوريا.

في المحصّلة فإنّ الموقف الإسرائيلي يتلخّص في منع بقاء سوريا موحّدة تحت نظام لا يقيم علاقات طبيعية مع "إسرائيل". 

الحكومة السورية ستجد نفسها مضطرة إلى التفكير في توقيع اتفاقية سلام مع "إسرائيل"، تجنّباً للحرج من عدم قدرتها على الردّ العسكري على الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، وحاجتها إلى رفع العقوبات الأميركية المفروضة عليها. كما أنّ رغبة الرئيس ترامب في إحياء "السلام الإبراهيمي" تدفعه إلى التعامل مع حكومة دمشق، خاصة وأنّ السعودية وباقي الدول العربية تدعم هذا الاتجاه.

فشل هذا الخيار سيدفع دمشق إلى تبنّي خيار المقاومة، وهو ما سيعيد رسم خارطة التحالفات في المنطقة، تأكيداً لمبدأ أنّ "الثابت الوحيد في السياسة هو التغيّر" استجابة لمتغيّرات الواقع الجديد، وما يفرضه من خيارات على صانع القرار.