قراءة في العقل السياسي لدونالد ترامب واليمين الشعبوي
وجهة النظر التي أحالت العولمة إلى الأمركة، جاعلةً منها "مؤامرة أميركية" على العالم، قفزت من فوق عوامل رئيسة تشكّل ظاهرة العولمة وتؤلّب كثيراً من الغربيّين ضدها.
-
ترامب يريد أن تصبح الولايات المتحدة الدولة الأكبر في العالم من حيث الجغرافيا.
في مستهل الألفية الثالثة، راحت العولمة، كظاهرة طاغية، تفرض وجودها في كلّ مناحي الحياة فعلياً. وانزلق كثيرون ممن انكبّوا على تحليلها إلى اختزالها في بعدٍ أحادي، هو "أمركة" العالم، وبالحدّ الأدنى "تغريبه"، فبدت العولمة أنها ليست عولمة حقاً، بل مؤامرة كونية مراميها قومية أميركية.
استند ذلك الاستنتاج، والذي قد يبدو بديهياً للمقيمين خارج الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، إلى ظاهرتين متلازمتين رافقتا العولمة:
أ – سيطرة المحافظين الجدد على دفة توجيه السياسات في الولايات المتحدة الأميركية، وانفلات إدارة بوش الابن في شنّ "الحروب الاستباقية". جاء ذلك تتويجاً لعقد من الأحادية القطبية هيمنت خلاله الولايات المتحدة على الساحة دولياً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991، الأمر الذي أفسح المجال لأطروحات انتصارية، ذات منشأ أكاديمي أميركي، مثل "نهاية التاريخ" (فوكوياما، 1992)، ومثل "صراع الحضارات" (هنتيغتون، 1996).
وتُعدُّ الأطروحة الثانية تطويراً للأولى، واستكمالاً لها، بعد أن أعلن فوكوياما أنّ الزمن البشري، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وصل غايته القصوى في انتصار مقولات اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان. فردّ هنتيغتون مضيفاً أنّ الصراعات العالمية، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، لن تجري بعد الآن على خطوط الأيديولوجيا والدول والقوميات، بل على خطوط التصدّع بين الثقافات والحضارات.
ب – اتخاذ العولمة الثقافية تحديداً شكل "نمط الحياة الأميركية"، في الطعام والشراب واللباس، في الوجبة السريعة، في تبنّي هدف تعظيم الاستهلاك المادي وسيلةً لتحقيق السعادة البشرية، وفي هيمنة الحسّ الفردي والروح العملية بديلاً للحسّ العامّ، وفي الأنانية التي يحقّق غاياتها الضيّقة الحساب العقلي المدروس، بعيداً من "قيود" الضمير، أي الإحساس بالآخرين، والمجتمع والوطن والأمة، وإلى ما هنالك من "حمولة زائدة"، من وجهة نظر العولمة، تعيق تقدّم الفرد وطموحه فحسب.
لكن وجهة النظر التي أحالت العولمة إلى الأمركة، جاعلةً منها "مؤامرة أميركية" على العالم، قفزت من فوق عوامل رئيسة تشكّل ظاهرة العولمة وتؤلّب كثيراً من الغربيّين ضدها، ومنها:
أ ـ أنّ حرية حركة السلع والخدمات عبر الحدود تحطّم الصناعي المحلي في الغرب بالسلعة الأجنبية الرخيصة، وتسحق العمال الغربيين غير المهرة بالعمال المهاجرين، أو بهجرة المصانع إلى حيث اليد العاملة أرخص، وقوانين البيئة والعمل مجرد ديكور يزيّن الرفوف والدروج.
ب ـ أنّ الخصخصة وتفكيك دولة "الرعاية الاجتماعية"، اللذين تقتضيهما برامج التصحيح الهيكلي، هدّدا عشرات الملايين في الغرب ذاته بالبطالة أو بالفقر والعوز أو كلاهما.
جـ ـ أنّ العولمة، كاقتصاد سياسي، تعني هيمنة رأس المال المالي، الربوي والمضارِب، والعابر للحدود، على رأس المال المنتج، وتغوّل الاقتصاد النقدي على الاقتصاد المادي الملموس، وتعني تحوّله، بالتالي، إلى المصدر الأول لتفريخ القيم المالية وبسط النفوذ السياسي، وهذا خلق تناقضات حادة بين الرأسمالية الوطنية المنتِجة والكتل المالية المنفلتة من قيود الجغرافيا والهوية.
د ـ أنّ تقليص صلاحيات الدول، اقتصادياً واجتماعياً، بموجب إملاءات العولمة، وتقويض الدول المركزية لمصلحة بنى إدارية دولية عابرة للحدود، هدّد بمسح مراكز القوى المتخندقة في الجهاز البيروقراطي ومؤسساته من الحرس القديم.
هـ ـــــ أنّ انتشار مفاهيم مثل "نسبية الأخلاق"، أي جعل الهوى الفردي مرجعية الصح والخطأ، مهما بلغ من الغرابة، وتقديس "التعددية الثقافية والعرقية"، وتسخيف الهوية القومية وتجريمها، ما عدا في حالة الأقليات، اصطدم بشدة بالنزعات الدينية والمحافظِة والعنصرية البيضاء في الغرب ذاته، وخصوصاً في الأرياف.
كان يفترض بالصعود الكبير لليمين الشعبوي على المسرح السياسي في الغرب الجماعي، ومناهضته الشرسة للعولمة، وخصوصاً في الولايات المتحدة، أن ينبّه من يخلطون بين العولمة والأمركة إلى ضرورة الفصل بين الظاهرتين، لأنّ مناهضة العولمة، من اليمين، راحت تذر قرنها بصورة أشرس وأكثر جذريةً من مناهضة اليسار لها.
وكان بعض اليسار تحوّل أيديولوجياً إلى يسار ليبرالي، وتحوّل وظيفياً إلى رأس حربة في الترويج لمقولات العولمة، اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وخصوصاً عبر المنظّمات غير الحكومية ومراكز الأبحاث المموّلة أجنبياً.
كما كان يفترض بصعود قوى دولية جديدة، انطلاقاً من منصة العولمة ذاتها، مثل الصين التي انضمت إلى منظمة التجارة العالمية سنة 2001، وروسيا التي انضمت إليها سنة 2012، والهند التي كانت من مؤسسيها في 1/1/1995، أن ينبّه بدوره إلى الفروق بين العولمة والأمركة.
كان يفترض أيضاً بردة فعل الغرب الممتعضة بشدّة من صعود أقطاب دولية جديدة انخرطت في العولمة بحساب قومي، أن تنبّه المحلّلين أيضاً إلى أنّ العولمة هي الظاهرة الأساس، وأنّ انخراط بعض النخب الأميركية الوازنة فيها ينبثق من صفتها المعولمة، في ردةٍ عن هويتها الأميركية، الأمر الذي جعل كثيراً من الأميركيين يتعاملون مع تلك النخب بتشكّك أو بإدانة صريحة.
أضف إلى ذلك أنّ الاعتراض على صعود أقطاب دولية جديدة جاء من تمسّك الأخيرة بصفتها القومية (الروسية أو الصينية)، كدول مركزية وبلدان مستقلة غير خاضعة لهيمنة رأس المال المالي الدولي، بل تطمح في أن تشاركه ثمرات العولمة الاقتصادية، الأمر الذي ألّب المعولمين ومناهضيهم في الغرب عليها، كلٌ من منطلقاته، بدرجة أكبر ضد روسيا، كحاجز جغرافي ـــــ سياسي عملاق، في حالة المتعولمين، وبدرجات أكبر ضدّ الصين، كتنين اقتصادي قلّل من ثقلهم نسبياً في موازين القوى الدولية، في حالة مناهضيهم، ومن هنا تركيز ترامب على الصين أكثر من غيرها.
من رحم ذلك التناقض الكبير بين العولمة والأمركة نشأت ظاهرة ترامب في الولايات المتحدة، ولا يمكن فهم ترامب من دون الإمساك جيداً بذلك التناقض المفصلي. أما في سائر الغرب الجماعي، فنشأت معارضة يمينية للبنى المعولمة العابرة للحدود، على غرار الاتحاد الأوروبي، على أسس يمينية متشدّدة أيضاً. وهي معارضة تثبت بدورها أنّ العولمة لا يمكن اختزالها في "التغريب".
نشأت، هكذا، قوى يمينية شعبوية، قومية شوفينية، وعنصرية بيضاء، مناهضة للعولمة، عبر الغرب الجماعي برمّته، على قاعدة العداء للمهاجرين، والسلعة الرخيصة، والصين خصوصاً. وتبلورت روح أخوّة أيديولوجية عابرة للحدود بين تلك القوى (أنظر مثلاً ردّة فعل الرئيس ترامب المتعاطفة بشدة مع قائدة اليمين الشعبوي في فرنسا، مارين لوبان، من جرّاء الأحكام القضائية ضدّها).
نشأت، كذلك، في صفوف ذلك التيار، نزعات مؤمنة بتفوّق الغرب الجماعي (في صراع الحضارات)، ذات نزعات صليبية صريحة موروثة من غزوات الفِرنجة (أنظر مثلاً وشوم "صليب القدس"، و"كافر"، ونداء الحروب الصليبية "الله يريدها"، والتي استعرضها وزير الحرب الأميركي، بيت هيغسيث، على ذراعيه)، مع العلم أنها غزوات همجية استهدفت المسيحية المشرقية أيضاً آنذاك، من القسطنطينية آنذاك إلى القدس، لا المسلمين فحسب، وهدفها الأول هو فلسطين طبعاً، في الأمس، كما اليوم، وهذا له علاقة بالجغرافيا السياسية، بغضّ النظر عن الغلاف الديني المزيّف.
ولا يمكن فهم دعم اليمين الشعبوي المناهض للعولمة في الغرب لأكثر تيارات الحركة الصهيونية انغلاقاً وتشدّداً، من دون هذه الخلفيّة، خلفيّة العداء للعرب والمسلمين. وهو تناقض كبير لدى هذا التيار بالنظر إلى أنّ صعود هيمنة رأس المال المالي الدولي، في ظلّ العولمة، تلازم عالمياً مع صعود نفوذ الجناح الليبرالي في الحركة الصهيونية (على غرار جورج سورس)، بل تلازم مع الشروع بصهينة العالم. وهو تناقضٌ تَرَكَ بعض قوى وشخصيات اليمين الشعبوي خارج تياره العامّ الداعم للكيان الصهيوني والحركة الصهيونية، كما سيأتي.
جرى الترويج، تحت لافتة العولمة، لمقولة "المواطن العالمي" (Cosmopolitanism)، أو الإنسان الفرد اللامنتمي قومياً، السائر عبر الحدود، وغير المرتهن لذاكرة المكان أو هويته، مع العلم أنّ مفاهيم مثل "هوية الأرض"، أو "ذاكرة المكان"، مرفوضة من طرف أصحاب هذه النزعة الذين يركّزون على فكرة "العبور" والتنقّل" و"الحركية". فالمكان، أيّ مكان، محطة عابرة لا خزّان للذاكرة الجمعية، والأرض، كما الإنسان، ذات هوية عالمية، ما عدا حيثما يتوجّب تفكيك الدول المركزية، ولا بأس عندها من التركيز على الهويات الجهوية.
وحيث تكون دلالة المقولة "الكوزموبوليتية" جغرافية، فإنها تشير إلى المدن العالمية الكبرى القائمة على التعددية الثقافية والعرقية، والتي لا تقوم على هوية محدّدة، بل على استعداد مواطنيها العالميين أن يتعايشوا بانفتاح، متقبّلين "أيّ" نمط ثقافي أو فردي، مهما بدا منحرفاً أو غريب الأطوار.
يتطلّب العقل الليبرالي المعولم منا تقبّل مثل تلك "التعددية"، وعدم إطلاق أحكام عليها يعدّها مسبقة و"تعسفية"، ولو عنى ذلك مثلاً تقبّل فكرة "تعددية الأجناس"، من بشرية وغيرها، والتي يمثّلها البشر الذين يعتقدون حقاً بأنهم كلابٌ أو قططٌ أو أي فصيلة أخرى من الحيوانات (therians)، أو كائناتٌ فضائية، أو خيولٌ أحادية القرن Unicorns، أو غير ذلك.
لكم أن تتخيّلوا كيف يستفزّ مثل هذا التفكّك في المفاهيم أصحاب النزعات القومية والدينية والمحافِظة، وخصوصاً عندما يصيب أحد أقارب الدرجة الأولى. ويذكر أنّ أحد أهم أسباب حقد الملياردير إيلون ماسك على المنظومة الليبرالية هو تحوّل ابنه البكر إلى فتاة اسمها "فيفيان" قبل 4 سنوات. وهي صدمة أدخلته بقوة إلى حيّز السياسة والأيديولوجيا من بوابة اليمين الشعبوي إلى جانب ترامب. وكان قبلها مشغولاً بالاختراعات والتكنولوجيا، وأميل إلى الحزب "الديمقراطي"، مع تقديم تبرّعات سخية لمرشحي كلا الحزبين الجمهوري و"الديمقراطي"، بحسب خريطة مصالحه التجارية.
أما في العلوم الاجتماعية، فيعمل أصحاب النزعة الكوزموبوليتية على تحدّي الأيديولوجيات القومية، كأولوية أولى، وعلى الترويج لمنظور إنسانوي معولم (ولا نقول منظوراً أممياً)، في النظرية والمنشورات البحثية، بحسب الموسوعة الدولية للجغرافيا الإنسانية (2009).
يذكر أن مصطلح "كوسموبوليتي بلا جذور" انتشر في الاتحاد السوفياتي السابق، في نهاية أربعينيات وبداية خمسينيات القرن العشرين، للدلالة على المثقّفين، اليهود غالباً، الذين اتهموا بضعف الولاء للبلاد، وببثّ التأثيرات الغربية في المجتمع والثقافة.
عاد ذلك المصطلح إلى الظهور مجدداً في صيغة "النخبة الكوسموبوليتية"، في أدبيات وخطاب أقصى اليمين في الولايات المتحدة الأميركية، للدلالة على النخب الليبرالية واليهودية التي يرى ذلك اليمين أنها تحكم البلاد فعلياً، والتي تتسم بتطرّف ليبراليتها، وتحظى بتعليمٍ جامعيٍ عالٍ، وتقطن في المدن الكبرى التي تعلو فيها نسبة المكوّن اليهودي، وتفتقد للولاء إلى الوطن الأميركي.
وكثيراً ما يستبدل ذلك المصطلح بـ "النخبة الساحلية"، للإشارة إلى شمالي شرقي الولايات المتحدة الأميركية، وهي من المصطلحات التي جرى إدراجها ضمن التعابير "المعادية للسامية" في موقع "اللجنة اليهودية الأميركية" (AJC).
ولا يزال الموقف من النفوذ اليهودي العالمي، وبالتالي من الحركة الصهيونية، غير محسومٍ في صفوف تيار اليمين الشعبوي في الغرب الجماعي، وهناك منظمات وشخصيات كثيرة فيه تناهضه إلى جانب مناهضة العولمة. ومن الأمثلة على هؤلاء السياسي ديفيد ديوك، والذي برز نجمه قبل نحو عقدين، والصحافي تاكر كارلسون حالياً، الذي يتعرّض إلى هجمة منظّمة من طرف المنظمات اليهودية الأميركية بتهمة "معاداة السامية".
لكنّ التوجّه المتهم بـ "معاداة السامية" لا يمثّل الجانب الغالب في صفوف اليمين الشعبوي في الغرب، الذي يتماهى، بالعموم، مع أقصى اليمين في الكيان الصهيوني في الصراع الدائر، ثقافياً وسياسياً، مع الجناح الليبرالي للحركة الصهيونية، من "تل أبيب" إلى نيويورك، وخصوصاً على خلفيّة مسألة "التعديلات القضائية" قبل عملية "طوفان الأقصى". ويرى ذلك اليمين أن صراع نتنياهو في "إسرائيل"، أو مارين لوبان في فرنسا، مع القضاء المهيمن عليه ليبرالياً، هو جزءٌ من الصراع الذي يخوضه ترامب مع "الدولة العميقة"، الليبرالية المعولمة، في الولايات المتحدة الأميركية.
تؤكّد ذلك طريقة تصويت الناخبين اليهود في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، إذ صوّت 71% منهم مع كمالا هاريس، في حين صوّت 26% منهم مع ترامب، على الرغم من تودّده إليهم والأمر التنفيذي لمحاربة "معاداة السامية" الذي أصدره إبان رئاسته الأولى في 10/12/ 2019.
أما اليهود المتدينون في الولايات المتحدة، فصوّت 74% منهم مع ترامب، بحسب موقع "ذا جويش كرونيكال" في 17/11/2024. وتفسير ذلك طبعاً أنّ الكتلة الأكبر بين الأميركيّين اليهود، على العكس من الكيان الصهيوني، ليبرالية النزعة، بل يُعدّ اليهود الأميركيون مرتعاً للنزعات الليبرالية المتطرّفة والكوسموبوليتية.
ثمّة خصوصية، على الرغم من ذلك، أو سمّها "استثنائية أميركية" إن شئت، لحالة اليمين الشعبوي تحت قيادة ترامب، إذ إنّ مشروعه يقوم على استعادة "الهيبة الأميركية" على العالم، بصفتها القومية، والتي قوّضها، خارجياً، تغوّل الحلفاء والمنافسين الدوليين والإقليميين، والتي قوّضتها، داخلياً، الليبرالية المعولمة والتي سمحت بدورها للحلفاء والمنافسين بالتغوّل.
يكمن الفارق، إذاً، بين الليبراليين المعولمين في دعمهم للكيان الصهيوني، وبين دعم اليمين الشعبوي في الغرب الجماعي له، في الاندماج العضوي لرأس المال المالي الدولي في الحركة الصهيونية العالمية، اقتصادياً وثقافياً، كرأس مال ربوي مضارب عابر للحدود، كوسموبوليتي، في حين ينطلق اليمين الشعبوي من مواقع قومية شوفينية وعنصرية بيضاء واستعلائية غربية، في التعامل مع الكيان الصهيوني كحليف، مع الحفاظ على "الحدود"، سياسياً، بينهم وبينه.
من هنا جرأة ترامب على فرض رسوم جمركية على "إسرائيل"، ولو جرى تجميدها مؤقتاً، وعلى ردّ نتنياهو خائباً في زيارته الأخيرة إلى البيت الأبيض قبل أيام، وهي خطوة رمزية تتعلّق بـ "هيبة أميركا"، ومكانتها إزاء الحلفاء، ولا تمسّ التزام الإدارة الأميركية بالكيان الصهيوني، ويخطئ من يحمّلها معنىً يتجاوز ذلك. فهي رسالة من ترامب لنتنياهو: لستَ أنتَ من يحرّك خيوط اللعبة هنا، بل أنا من يحرّكها.
ثمّة بون شاسع طبعاً بين النزعات القومية الشوفينية والعنصرية التي تتبنّاها الدول الإمبريالية لشنّ الحروب والهيمنة على العالم، وبين النزعات القومية التحرّرية التي تتبنّاها حركات الوحدة والتحرير والنهضة في الجنوب العالمي في مواجهة الإمبريالية وأدواتها. لكن هذا ليس موضوعنا هنا، بل وزن الحس القومي في عقل اليمين الشعبوي، ومنه دونالد ترامب، الأمر الذي ينعكس في خطابه طبعاً.
من هنا حديثه مثلاً عن "يوم التحرير"، في 2 نيسان/أبريل الفائت، عندما أعلن عن مجموعة رسومه الجمركية ضد العالم. وهي من وجهة نظر إدارة ترامب رسومٌ متواضعة جداً، لأنّ نسبها تبلغ نصف ما تفرضه الأمم الأخرى على الولايات المتحدة. الأهمّ أنّ التحرير هنا يعني تحرير الاقتصاد الأميركي من العولمة، ورفع جدران تحميه، أسوةً بالجدران التي يجري بناؤها جنوباً، فـ"التحرير" هنا يعني استخلاص الولايات المتحدة من ربقة العولمة.
أما شمالاً، فيبرز الإحساس بالمكان، ووزنه وحجمه ومكانته، في ثنايا خطاب ترامب، لأنّ حديثه المتكرّر عن الحدود الوهمية بين الولايات المتحدة و"ولاية كندا" لا يفهمها أحد كالقوميّين. والحقيقة أنّ وجود كندا على الخريطة جاء نتيجة تسوية مع البريطانيين في حرب 1812، كمنطقة نفوذ بريطاني. وفيما عدا منطقة كوبيك، لا توجد فروق لغوية وثقافية وجغرافية وتاريخية حقيقية تبرّر وجود كندا كدولة مستقلة.
لكنّ إثارة مسألة ضمّ كندا، زائداً غرينلاندا، إلى الولايات المتحدة ينبثق أيضاً من حاجة ترامب إلى جعل الولايات المتحدة أكبر دولة في العالم من حيث المساحة الجغرافية، إذ لا يستقيم القول إنها أعظم بلد في العالم، بحسب وجهة النظر هذه، ومساحتها تقارب مساحة الصين، وأقل من مساحة كندا قليلاً، وأقل كثيراً من مساحة روسيا!