قصة قناة بنما.. من واشنطن إلى واشنطن مجدداً
على مدى عقود ناضل البنميون لاستعادة سيادتهم على قناة بنما حتى نجحوا في أواخر السبعينيات في تحقيق هدفهم خلال رئاسة الرئيس عمر توريخوس الذي وقّع فيها اتفاقية مع الرئيس الأميركي آنذاك أنهت السيطرة الأميركية على القناة.
في أوّل زيارة خارجية رسمية له بعد تولّيه مهامه، توجّه وزير الخارجية الأميركية الجديد ماركو روبيو إلى بنما سيتي لنقل مطالب رئيسه دونالد ترامب إلى القيادة البنمية بضرورة الحدّ من علاقاتها مع الصين. وقد أبلغ روبيو الرئيس مولينو أنّ الرئيس الأميركي لا يريد الحفاظ على الوضع الراهن فيما يتعلّق بقناة بنما نظراً لنفوذ الصين المتزايد في المنطقة، على حدّ تعبيره.
وسرعان ما أتت الزيارة أُكلها بالنسبة لواشنطن، إذ أعلن الرئيس البنمي خوسيه راؤول مولينو بعد محادثات مع روبيو، أنّ حكومته البنمية لن تجدّد مذكّرة التفاهم مع الصين المتعلّقة بمبادرة الحزام والطريق والتي سبق ووُقّعت في العام 2017. وقال مولينو صراحة إن حكومته ستدرس إمكانية إنهاء المشروع المشترك مع الصين قبل موعد انتهائه المحدّد بعد ثلاث سنوات، واعداً روبيو بأن يحصل ذلك خلال عام أو عامين على أبعد تقدير.
أهمّية القناة بالنسبة لواشنطن
هذه الخطوة الأميركية تأتي في سياق شعور دوائر القرار في واشنطن بالقلق على هيمنتها العالمية بنتيجة صعود القوة الاقتصادية للصين، ودخول أكثر من ستين دولة حول العالم بشراكات اقتصادية معها في إطار مبادرة حزام وطريق التي أطلقها الرئيس الصيني شي جينبنغ قبل عقد، والتي باتت تشكّل منصة عالمية لمساعدة الدول غير الغربية على ضمان استقلاليتها في مواجهة الهيمنة الأميركية والغربية.
ويكمن إعطاء الولايات المتحدة أولوية لاستعادة هيمنتها على بنما عبر إجبارها على قطع علاقاتها الاقتصادية مع الصين، في كون هذا البلد يملك أحد أهم الممرات المائية في العالم وهي قناة بنما. وتنبع أهمية هذه القناة من كونها تصل بين المحيطين الأطلسي والهادئ بما يجعلها واحدة من أهم الممرات الاسترتيجية في العالم، على قدم المساواة مع مضيق جبل طارق وقناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز ومضيق ملقا.
وتكتسب القناة أهمية خاصة بالنسبة للولايات المتحدة وهو ما عبّر عنه المفكّر الجيوسياسي الأميركي ألفرد ثاير ماهان حتى قبل البدء في حفر القناة بعقدين من الزمن حين اعتبر أنّ القناة ترتبط بالأمن القومي الأميركي، خصوصاً أنها تسهّل الربط بين الضفة الشرقية للولايات المتحدة الواقعة على المحيط الأطلسي مع الضفة الغربية للولايات المتحدة الواقعة على المحيط الهادئ. كذلك فإنّ هيمنة الولايات المتحدة على القناة التي تمّ ضمانها في أوئل القرن العشرين عبر تشجيع حركة انفصالية أدّت إلى استقلال بنما عن كولومبيا، وعبر فرض تولّي قسم الهندسة في الجيش الأميركي بمهمة حفر القناة لتفرض الحكومة الأميركية بعدها اتفاقية على بنما تمنح فيها واشنطن السيطرة على القناة لمدة تسعة وتسعين عاماً.
نضال البنميين ضدّ الهيمنة الأميركية
على مدى عقود بعد ذلك ناضل البنميون لاستعادة سيادتهم على القناة حتى نجحوا في أواخر السبعينيات بتحقيق هدفهم خلال رئاسة الرئيس البنمي عمر توريخوس الذي وقّع فيها اتفاقية مع الرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارتر أنهت السيطرة الأميركية على قناة بنما.
لكنّ هذا لم يؤمّن سيادة سلسلة للبنميين على قناتهم، إذ إنه ما إن تسلّم الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان مقاليد السلطة في واشنطن في العام 1981 حتى قامت وكالة الاستخبارات الأميركية باغتيال عمر توريخوس عبر إسقاط طائرته التي كانت تقلّه برفقة عدد من مساعديه.
بعد حادثة الاغتيال، وفي ظلّ حكم الجنرال نورييغا الموالي للأميركيين، تمكّنت واشنطن من بسط سيطرتها ولو بطريقة غير مباشرة مرة أخرى على قناة بنما. وقد استفادت في ذلك الوقت من عصابات الكونترا المدعومة من الأميركيين والتي كانت تقاتل ضدّ الحكومة الساندينية في نيكاراغوا، لنشر قوات على شكل خبراء عسكريين في بنما وعدد من الدول المجاورة لها لإبقاء حضور عسكري لها بالقرب من القناة.
وفي العام 1989، ومع انهيار كتلة الدول الاشتراكية وهزيمة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، أعادت واشنطن رسم سياستها في أميركا اللاتينية بعد انتفاء الخطر الشيوعي على نفوذها، وسعت لاستعادة سيطرتها المباشرة على قناة بنما. في هذا الإطار، وبذريعة مكافحة عصابات المخدرات في كولومبيا، واتهامها للجنرال نورييغا بتقديم تسهيلات لعصابات المخدرات لنقل الكوكايين إلى الولايات المتحدة، شنّت القوات العسكرية الأميركية حملة عسكرية أطاحت خلالها بنورييغا واعتقلته ونقلته إلى سجن في الولايات المتحدة لتبسط سيطرتها المباشرة على القناة.
مفتاح السيطرة على شمال الأطلسي والهادئ
الجدير ذكره أنّ أهمية قناة بنما لا تقتصر فقط على ربطها بين المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي، بل إن السيطرة عليها ضمنت للولايات المتحدة السيطرة على شمال المحيط الأطلسي، خصوصاً في ظل التحالف الذي أقامته مع أوروبا الغربية منذ الحرب العالمية الأولى. من هنا، فإنّ السيطرة على قناة بنما، بالتوازي مع سيطرة الولايات المتحدة على بحر الشمال وبوابته على المحيط المتجمّد الجنوبي في مواجهة روسيا، وسيطرة واشنطن عبر حلف شمال الأطلسي على مضيق جبل طارق جعلت منطقة شمال الأطلسي عملياً بحيرة أميركية.
في المقلب الآخر، فإنّ سيطرة الولايات المتحدة على قناة بنما، بالتوازي مع قواعدها العسكرية البحرية المتقدّمة في غوام وجزر هاوي وأوكيناوا صعوداً إلى مضيق بيرينغ الذي يفصل ألاسكا عن شرق روسيا، يضمن هيمنة الولايات المتحدة على الجزء الأكبر من المحيط الهادئ خصوصاً في مواجهة الصين التي تجد نفسها مضطرة لمواجهة التحدّي الأميركي بالقرب من شواطئها.
كلّ هذا يأتي في ظلّ سعي الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب لتركيز جهودها بالدرجة الأولى على مواجهة واحتواء صعود الصين كقوة عظمى اقتصادية، بعدما كان الرئيس الأميركي السابق جو بايدن قد ركّز في ولايته التي امتدّت من بداية العام 2021 إلى كانون الثاني/يناير 2025 على احتواء روسيا في أوكرانيا.
والجدير ذكره أنّ النجاح الأميركي في تجميد تطوير العلاقات البنمية الصينية سيشجّع واشنطن على الإقدام على خطوتها التالية المتمثّلة بإجبار كندا والدنمارك على إعطائها موطئ قدم على شواطئهما المطلة على القطب المتجمّد الشمالي، وخصوصاً في جزيرة غرينلاند الدنماركية، بغية مواجهة الصين في القطب المتجمّد الشمالي، بعد نجاح روسيا في فتح طريق الشمال الذي يفترض أن يربط بين الصين وأوروبا مختصراً المسافة عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر بمقدار خمسة الآف ميل. وهذا يرشّح منطقة القطب المتجمّد الشمالي لأن تكون منطقة ملتهبة خلال القرن الحادي والعشرين.