لبنان وخطر السقوط... ورقة برّاك مجرّد شرارة

المشكلة الحقيقية التي يواجهها المفهوم السيادي في لبنان ترتبط أكثر بالواقع الدستوري الذي بقي أسير المرحلة الانتقالية التي كرّسها اتفاق الطائف.

0:00
  • سلاح المقاومة نشأ كنتيجة طبيعة لعجز الدولة وتخلّيها عن حماية مواطنيها.
    سلاح المقاومة نشأ كنتيجة طبيعة لعجز الدولة وتخلّيها عن حماية مواطنيها.

لم يعد بإمكان أحد من المراقبين أن يدّعي امتلاك النظام السياسي اللبناني المستند على اتفاق الطائف والميثاق الوطني لعام 1943 القدرة على تلبية تطلّعات مختلف الأطياف اللبنانية، حيث إنّ التوازنات التي أرستها المرحلة الانتقالية في اتفاق الطائف لم تعد تتوافق مع الواقع الديموغرافي من جهة، إضافة إلى ما ظهر من عدم توافق حول الرؤية المستقبلية للبنان التي استهدف اتفاق الطائف العمل على تحقيقها. 

فمن خلال ما ظهر في جلستي حكومة الرئيس نوّاف سلام الأخيرتين واللتين تمحور موضوعهما حول بند وحيد عنوانه إقرار الأهداف التي فرضها المبعوث الأميركي توماس برّاك، سقطت ورقة التوت التي استطاعت منذ عام 1992 أن تستر تشوّهات النظام الحالي وظهرت حقيقة فشل النظام السياسي والدستوري اللبناني في إعادة إنتاج نفسه بما يتوافق مع متطلّبات المرحلة الحالية أو مع ما فرضته ظروف البلد والمنطقة، أقلّه بعد تحرير عام 2000 وما تبعه من هزات أمنية وسياسية كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 مدخلاً لها.

قد يظنّ البعض أنّ تراجع رئيس الجمهورية عن المرتكزات التي وضعت بالاتفاق بين الرؤساء الثلاثة لإدارة عملية التفاوض مع الولايات المتحدة هو سبب رئيس لما تؤول إليه الأوضاع في لبنان اليوم، حيث ظهر واضحاً أنّ ضغوطاً كبيرة مورست على رئيس الجمهورية دفعته لطيّ صفحات هذا الاتفاق وألزمته بتبنّي ورقة برّاك كما هي من دون أيّ تمحيص في مدى توافقها مع ضرورات السلم الأهلي وسيادة لبنان أو مدى تحقيقها للمصلحة اللبنانية، مع إشارة البعض إلى أنها جسّدت من حيث الشكل اعتداءً صارخاً على آليات العمل الدستوري التي تفترض أنّ إسقاط ورقة شروط أجنبية على جدول أعمال المجلس، وإلزامه بدراستها بغية تبنّيها كما لو أنها قدراً محتوماً، لا تتوافق مع الأصول الدستورية السيادية التي تحصر حقّ طرح المواضيع المطلوب دراستها في مجلس الوزراء برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء حصراً. 

قد يفترض البعض أنّ جوهر إشكالية السيادة التي يعاني منها لبنان اليوم مرتبطة حصراً بموضوع سلاح المقاومة، وبالتالي يمكن من خلال نزعه بناء دولة حقيقية قادرة على ممارسة سيادتها. بالطبع لا يجد هذا الافتراض في التاريخ اللبناني ما يدعمه حيث إنّ الواقع الذي أعقب نشأة الكيان الإسرائيلي لم يدلّل على أسباب داخلية كانت حصراً مانعة لقيام الدولة. 

فالدولة اللبنانية، قبل نشأة فكرة المقاومة الشعبية فيها قد ارتضت في المراحل الأولى بعد عام 1948 تأدية دور المتفرّج على انتهاكات الكيان الإسرائيلي لسيادتها، وارتضت فيما بعد الانتقاص من سيادتها، حيث كانت تعتبر أنّ الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان مرتبطة بوجود المقاومة الفلسطينية الذي شرّعه اتفاق القاهرة عام 1969، وكانت ذروة تخلّيها عن دورها السيادي والحمائي لشعبها يوم وقّعت اتفاق 17 أيار 1983 مع الكيان الإسرائيلي، حيث كان هذا الاتفاق تجسيداً لسقوط أول دولة عربية بمفهومها السيادي تحت الهيمنة الإسرائيلية. 

بالطبع لم تكن مرحلة ما بعد الطائف التي أنهت الحرب الأهلية أفضل حالاً بالنسبة لواقع الدولة السيادي حيث إنها لم تمارس دورها في تحرير الجنوب وتركت هذه المهمة على عاتق أهل الأرض متذرّعة بعدم امتلاكها لقدرة المواجهة، ومكتفية بالشكوى إلى مجلس الأمن وتبنّي شعار أنّ العين لا تقاوم المخرز. 

في هذا الإطار، يفترض الإشارة إلى أنّ المشكلة الحقيقية التي يواجهها المفهوم السيادي في لبنان ترتبط أكثر بالواقع الدستوري الذي بقي أسير المرحلة الانتقالية التي كرّسها اتفاق الطائف.

فبعد أكثر من 33 سنة على إقراره، لم تبذل السلطات اللبنانية جهداً حقيقياً أو حتى شكلياً لتخطّي المرحلة الانتقالية، التي يمكن تسميتها بالمحاصصة، نحو مرحلة بناء الدولة الحقيقية العادلة القادرة على تمثيل شرائح المجتمع اللبناني كمجموعة من المواطنين بدل التعاطي معهم على أساس اعتبارهم زمراً طائفية يسهل دغدغة غرائزهم واستغلالها. 

فوفق هذا المسار، يمكن تحليل الأسباب التي كانت وما زالت تؤدّي إلى تشكيل السلطة وفق تفاهمات تتخطّى حدود الوطن لتشكّل انعكاساً لتفاهمات إقليمية وحتى دولية. فعند كلّ استحقاق دستوري، كان المسار المتفق على اعتماده شكلياً على الأقل، يقف عاجزاً عن إعادة إنتاج السلطة إذا لم تتوفّر عوامل خارجية مساعدة. 

بالطبع لا يمكن اعتبار العهد الحالي، أي انتخاب رئيس الجمهورية الحالي وتشكيل الحكومة الحالية أيضاً، خارجاً عن هذا الواقع. وبالتالي يصبح من الممكن تفهّم توجّهه لمناقشة ورقة إملاءات أقرّتها قوة أجنبية وضغطت لإقرارها من دون أن يكون ممكناً اعتبارها اتفاقية تلزم الطرف الآخر، وتشكّل مدخلاً لحقوق وواجبات متبادلة.

وعليه، بعيداً عن إشكالية مفهوم السيادة وارتباطه، وفق توجّه الحكومة الحالية، بموضوع سلاح المقاومة الذي نشأ كنتيجة طبيعة لعجز الدولة وتخلّيها عن حماية مواطنيها وفشلها في حفظ سيادتها على كامل ترابها، يمكن التقدير أنّ حجم الأزمة الحالية في لبنان لا يرتبط بسلوك الحكومة الحالية فقط، مع الإشارة إلى أنه يشكّل نموذجاً لسلطة فاقدة لأصل وجودها، حيث إنه يفترض بالسلطة الحقيقية أن تشكّل انعكاساً للسيادة بمعنى القدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها من دون تدخّل خارجي، وإنما يرتبط بأزمة بنيوية يمكن تعريفها برفض تطوير النظام السياسي وتحصينه حتى يكون قادراً على بناء دولة تستهدف مراكمة القوة وتحصين سيادتها في مواجهة أيّ تدخّلات خارجية أو محسوبيات داخلية.

فمن خلال قراءة معمّقة لتوجّهات القوى السياسية الداخلية التي دفعت لإظهار رئيس الجمهورية في موقف الضعيف المتراجع تحت وطأة الضغوط الخارجية الدافعة لإقرار ورقة برّاك، يمكن ملاحظة أنّ الحرص الذي أبدته تلك القوى على حصرية السلاح وارتباطه بسيادة الدولة لم ينعكس حرصاً على هذه السيادة نفسها في مواضيع أخرى، إذ إنه في حين لم يسعَ أحد منها لإلغاء الطائفية السياسية أو تبنّي قانون انتخاب عادل أو محاربة الفساد المستشري منذ عقود، من دون أن ننسى عدم اكتراثها بضعف الجيش والمؤسسات الأمنية المحكومة لمعونة أميركية، كان بعضها يستجدي دعم الخارج في مواجهة بعض القوى الداخلية وكان يبرّر اعتداء بعض القوى الإقليمية على شخصيات سياسية لبنانية، كحال احتجاز رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في السعودية.

من دون أن ننسى كيف أدّى البعض دور المحرّض للكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة وشجّع على استهداف بيئة تشكّل جزءاً أساسياً من لبنان عبر الاغتيالات أو من خلال الحصار والعقوبات ومنع إعادة إعمار القرى المدمّرة، بما يظهر جوهر التجاذبات السياسية في لبنان على أنها لا تحتكم لقواعد دستورية وطنية وإنما تعبّر عن صراع بين قوى تتناحر في كيان غير مُتفق على الأهداف النهائية لوجوده.

وعليه، يمكن القول إنّ قرار الحكومة بتبنّي أهداف ورقة برّاك لن يكون سوى الشرارة التي قد تشعل تراكمات سنين طويلة من الفشل أو عدم وجود نيّة لبناء دولة المواطنة القوية القادرة. فتمسّك المقاومة بسلاحها لا يستهدف الحفاظ على السلاح من أجل السلاح فقط، وإنما يستهدف الحفاظ على جوهر لبنان، أي أنّ هذا السلاح هو قوة رديفة قادرة على الحفاظ على كيان أعلن برّاك أنه قد لا يكون نهائياً وأنه قد يُضمّ إلى بلاد الشام، ولا يخفي الإسرائيلي من جهة أخرى أطماعه بالتمدّد نحو الليطاني ومن بعده نحو نهر الأوّلي.