مناطيد في سماء محاصرة

هل من الجائز أن نتعامل مع الفلسطينيين أنهم بشر من الدرجة الثالثة أو الرابعة، فنلقي لهم الطعام من السماء؟

0:00
  • ماذا تتوقّع الأنظمة من الجوعى أن يفعلوا أمام تلك الطرود القليلة؟
    ماذا تتوقّع الأنظمة من الجوعى أن يفعلوا أمام تلك الطرود القليلة؟

لم تكن هذه المرة الأولى التي يتمّ إلقاء المناطيد فيها على مدينة غزة وشمالها، فقد سبق تلك المرحلة الصعبة من التجويع، مراحل أخرى كانت أشدّ لعنة وقهراً، حين صمدنا في مدينة غزة وشمالها بداية الحرب، نعاني ويلات الجوع والحرمان حتى جاءت الهدنة الثانية التي عاد معها أهلنا من جنوب القطاع إلى بيوتهم المدمّرة معتقدين نهاية مرحلة مؤلمة من تاريخ شعبنا، وكانت إبان تلك الحقبة تسقط المناطيد على منطقة المشتل الفارغة، فكنّا نتصارع هناك لأجل الحصول على علبة تونة أو زجاجة زيت نباتي أو حتى علبة فاصولياء. 

وأذكر كم كتبت خلال تلك الفترة مقالات وشهادات ويوميات حول الواقع المرير الذي تسبّبت به تلك الطريقة من الإهانة والإذلال، حيث لا يتمّ توزيع الطعام بعدالة أو مساواة، بل بطريقة عشوائية، إذ كنا ننتظر طائرات الشحن العسكرية العربية كي تعبر فوق رؤوسنا ثم تلقي حمولتها لنجري نحو تلك "المشاطيح"، فيتصارع الجوعى في مشهد يشبه أفلام الزومبي، يتقاتلون فيما بينهم من أجل البقاء، يحملون الأسلحة البيضاء وكذلك الأسلحة الخفيفة مثل المسدسات وبندقية الكلاشنكوف، حتى انتهت تلك المرحلة بكلّ سوءاتها، واعتقدنا أنها لن تعود، خصوصاً مع عودة السكان إلى الشمال، وتكدّسهم في منطقة غرب غزة قريباً من البحر، في المناطق التي كانت مخصصة لإسقاط تلك المساعدات. 

إلّا أنّ سياسة التجويع المستمرة حتى اللحظة، دفعت الأنظمة العربية والغربية إلى العودة مجدداً لانتهاج السياسة نفسها في إلقاء المساعدات عبر الجو، الأمر الذي أحدث ضرراً بليغاً في الوعي والجسد الفلسطيني، حيث إنّ تلك الطرود قتلت وأصابت بعض المواطنين، كما دمّرت بعض الخيام والأسقف الإسمنتية أيضاً، نتيجة قوة السقوط أو تلف بعض تلك البالونات العظيمة، التي تتداخل بعضها ببعض خلال عملية الإنزال، وهو ما سبّب خوفاً كبيراً لدى السكان الذين صاروا يطالبون بعدم إنزال تلك المناطيد.

فهل يعقل أن يتمّ تدمير خيمة من أجل طرد غذائي لا يتجاوز ثمنه في الوضع الطبيعي أكثر من 20 دولاراً؟ وهل من الجائز أن نتعامل مع الفلسطينيين أنهم بشر من الدرجة الثالثة أو الرابعة، فنلقي لهم الطعام من السماء؟ وماذا تتوقّع الأنظمة من الجوعى أن يفعلوا أمام تلك الطرود القليلة؟ لقد باتوا للأسف عبارة على مجموعة من المتوحّشين الذين يطعن بعضهم الآخر من أجل الحصول على حفنة طعام، وصار الجار يثور في وجه جاره، وآخر يعتدي على حرمة بيت سكان لا يعرفهم، لأنّ تلك المناطيد تسقط غالباً في مناطق مأهولة بالسكان، فغزة في الغرب مكتظة، خصوصاً مع نزوح سكان مدينة بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا. 

وفي حال تفكير تلك المؤسسات أو النظم الشمولية تنفيذ عمليات الإسقاط في أماكن أخرى، فإنها ستكون في مناطق حمراء بحسب تصنيف "جيش" الاحتلال أو خطيرة ويوجد فيها الجنود المدجّجون بكلّ ترسانتهم العسكرية، أو في البحر. وأذكر كيف كنا نسمع بغرق الشبان إبّان المرحلة الأولى من تلك العملية، ولذلك فإنّ جميع السبل لم تنجح في ظلّ اعتماد هندسة التجويع التي سبق الإشارة إليها في مقالات سابقة عبر الميادين نت، وفي ظلّ منع الاحتلال إدخال الشاحنات إلا وفق أعداد محدودة جداً، ومنع وصولها إلى المخازن أو البركسات، حيث يتمّ تهديد صاحب الشاحنة بأنه مستهدف حال تقدّمه عن مسافة معيّنة. 

هذا إضافة إلى دفع عدد من المتخابرين والعملاء الذين يسعى الاحتلال لمساعدتهم بتشكيل عصابات تشبه جماعة أبو شباب في الجنوب، من أجل إرساء شريعة الغاب، كما يتمّ استهداف رجال التأمينات، حتى وصل الفلسطيني إلى حالة يرثى لها، وصار الجوع سمة بارزة، أمام حالة الفقر الشديد وتدمير البنوك وعدم توفّر السيولة النقدية ورفع أسعار البضائع التي يتمّ شراؤها من خلال تطبيق بنكي أو بال بيه المتعارف عليه في غزة. 

وإزاء ذلك، أطلق العشرات من النخب الفلسطينية العديد من النداءات والتصريحات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الأدوات الإعلامية للتحذير من إسقاط المناطيد، التي قهرت روح الفلسطيني وعملت على إهانة كرامته وإذلاله، مطالبين بالتوقّف عن ذلك، والضغط على الاحتلال لإدخال المساعدات عبر المعابر المعروفة، والسماح للشاحنات بالمرور، وعدم التهديد بقصفها حال تأمينها كي يتمّ توزيع تلك المساعدات في عدالة ومساواة. لكن للأسف لا يزال العربي ضعيفاً وعاجزاً عن الدفاع عن دم أخيه الفلسطيني أو رفع الحصار عنه حتى بأقلّ الإيمان وهو فتح المعبر، بينما يحاول الغربي فكفكة الأزمة بأيّ وسيلة متوفّرة وهو بعيد عن تراب غزة بآلاف وربما ملايين الأميال.