نهاية التحالف الأطلسي: عودة ترامب والفاشية الأميركية
لم يعد السؤال حول إن كانت أوروبا وأميركا تتقاسمان قيماً مشتركة. بل السؤال إن كانت أوروبا ستقاوم موجة الفاشية التي تتبناها الآن علناً أقوى دولة على وجه الأرض؟
-
هل تقاوم أوروبا الفاشية الأميركية الجديدة؟
تتفاقم سيطرة الطبقة الرأسمالية النيوليبرالية في الدول القومية بالغرب، على مساحات التداول السياسي والثقافي والأكاديمي والفضاء الإعلامي والرأي العام. وبالمحصلة، يتحوّل نظامها السياسي الديمقراطي "التمثيلي" الليبرالي إلى حكم أوليغاركي (شبه ليبرالي)، تحكمه قوى بيروقراطية متنفذة غير منتخبة، ولا تعبّر عن جسم الأمة السيادي.
وتتعدد في الاجتماع السياسي الغربي محافل ونخب ونوادٍ ومنصات سياسية ذات نفوذ بالغ، يتجاوز الضوابط والتوازنات الدستورية! ومن أشهرها "المحفل الثلاثي" الذي يستقطب نخب أميركا وغرب أوروبا واليابان، ومنتدى "داﭬوس" السنوي بسويسرا، وجماعة بيلدربرغ بهولندا. وبالنتيجة، انحصرت حرية الاختيار بين البدائل أمام الشعوب في ما تقدمه هذه النخب، بما لا يتيح للشعوب التعبير عن مصالحها وخياراتها.
من هذه المنصات مؤتمر "ميونخ" السنوي للأمن الذي انعقد مؤخراً، واختُتِم قبل أيام. خلال 60 عاماً، بدا المؤتمر كمنتدى للدفاع عن الديمقراطية الليبرالية، ويؤكد فيه قادة الغرب التزامهم بقيم الحرية والأمن وسيادة القانون. لكن هذا العام، تحطّم هذا التقليد!
فقد شارك نائب الرئيس الأميركي، جيمس د. فانس، بخطاب استفز الأوروبيين جداً، كإعلان طلاق أيديولوجي بين أميركا وأوروبا. وأظهرت كلماته أن الأطلسي، الذي كان جسراً بين مثل ديمقراطية متبادلة، يفصل الآن بين وجهتي نظر عالميتين متعارضتين أساساً.
وإن تبقت هناك أوهام حول اتجاه إدارة ترامب، فقد تبددت الآن: لقد تخلت الولايات المتحدة عن التقليد الديمقراطي نحو فاشية صريحة. وإن كان الخطاب يُدشّن تاريخاً جديداً فوراء ذلك كل الأسباب الخاطئة، بحسب المفكر والأكاديمي البريطاني ديلان إيفانز.
حليف الفاشيين في أوروبا
شهد مؤتمر ميونيخ منذ تأسيسه لحظات تاريخية، منها خطاب فلاديمير بوتين عام 2007، حيث أعلن أن روسيا لن تقبل دوراً تابعاً لنظام عالمي يهيمن عليه الغرب. لكن حتى ذلك يبدو الآن هامشياً مقارنة بخطاب فانس. ففي 22 دقيقة فقط، تمكن نائب الرئيس الأميركي من استئصال آخر أواصر التحالف عبر الأطلسي، وسخر من الديمقراطية الأوروبية، بينما وضع رؤية للسياسة العالمية حيث تقف الولايات المتحدة بوضوح بجانب اليمين المتطرف.
لم يكن خطاب فانس مجرد تبجُّح شعبوي بل كان بياناً. وبلغة مليئة بالنفاق، ندد بالقمع المفترض لحرية التعبير في أوروبا، بينما أيّد الحركات الأكثر تطرفاً في القارة. وبينما يهدد دَيْن الولايات المتحدة المتصاعد بانهيار مالي وشيك يشبه فرنسا ما قبل الثورة، رسم فانس صورة لأوروبا كحضارة متحللة، مشلولة بالتعددية الثقافية والهجرة والقيم التقدمية. وفي حين يجعل خلل الكونغرس الوظيفي خفضاً ملموساً للعجز مستحيلاً، ويجعل الجمود التشريعي حتى الحوكمة الأساسية غير قابلة للتطبيق، كان لديه الجرأة ليقترح أن التهديد الحقيقي لأوروبا ليس روسيا والصين، بل مؤسساتها الديمقراطية.
نظر القادة الأوروبيون الحاضرون برعب صامت، بينما اتهمهم نائب رئيس أكثر ديمقراطية مُعَطلة عالمياً بالتواطؤ في عجز ديمقراطي. وفغر وزراء المالية أفواههم غير مصدقين: سياسي من بلاد يتجاوز دَيْنُها 36 تريليون دولار، وتستهلك مدفوعات الفائدة إيراداتها الفيدرالية، ينتقدهم لعدم إنفاقهم الكفاية على الدفاع! كان لدى فانس الوقاحة للإشارة إلى إيلون ماسك، الذي لا تزال محاولاته لسحب تمويل وكالات فيدرالية محل نزاع قانوني وغير ذات أهمية مالياً؛ لكن في الواقع، هذا ليس بالأمر الجديد. فعندما تُقارن هذه المقتطعات المالية بحجم الموازنة القومية، فإن ماسك يقوم بالمكافئ الإداري للتسلق خلف الأريكة.
غازل اليمين الترامبي لسنوات فكرة التحالف الشعبوي العالمي. وأشادت شخصيات كمُنَظّر ترامب السابق، ستيف بانون، علناً بألكسندر دوغين، المفكر القومي الروسي الذي تدعم أيديولوجيته طموحات بوتين الإمبراطورية. لكن الأمر مختلف الآن، فتواصل بانون بالمحيط الخارجي شيء، وأن يتردد صداه في البيت الأبيض شيء آخر تماماً.
لم يعرب فانس عن تعاطفه مع اليمين المتطرف في أوروبا فحسب؛ بل شجع بنشاط صعوده. وفي خطوة أطلقت موجات صدمة عبر المؤتمر، التقى على انفراد أليس فايدل، زعيمة البديل لأجل ألمانيا، حزب أقصى اليمين المتطرف في ألمانيا. وحطّم الاجتماع معياراً سياسياً ألمانياً راسخاً: "جدار الحماية" الذي أبقى حزب البديل بجذوره وديباجاته الاعتذارية عن النازية، خارج التيار الرئيس. ورغم تجنب فانس تسمية الحزب صراحة في خطابه، كانت رسالته لا لبس فيها: الفاشيون في أوروبا لديهم الآن حليف قوي في واشنطن.
نظام عالمي جديد لا يخشاه بوتين
كانت اللحظة الأكثر كشفاً في خطاب فانس عندما تساءل مباشرةً عن غرض حلف شمال الأطلسي. وزعم أنه لعقود من الزمان، كان التحالف مبرراً على أساس "القيم الديمقراطية المشتركة". لكن، إذا لم تعد هذه القيم مشتركة، فعمّ إذن يدافع الحلف؟ لم يكن هذا سؤالاً بلاغياً فارغاً، بل كان تحذيراً ضمنياً: إنّ إدارة ترامب بلا أي التزام أخلاقي لإبقاء التحالف. ومع ذلك، ليست أوروبا هي التي تخلت عن القيم المشتركة، بل أميركا.
كانت الاستجابة الأوروبية سريعة لكنها متشظية. فقد ذكّر أولاف شولتس، المستشار الألماني، فانس بزيارته لمعسكر اعتقال داخاو قبل أيام فقط، مؤكداً مسؤولية ألمانيا عن مكافحة عودة الحركات الفاشية. وكان زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي، فريدريش ميرز، أكثر صراحة مؤكداً أن ألمانيا تحمي حرية التعبير، وليس حق نشر الكراهية والتضليل. في أميركا اليوم، حرية التعبير تعني شيئاً واحداً: حرية العنصريين البيض في التبشير بكراهية الإسلام والكراهية العنصرية.
ورغم هذه الردود، بدا أن ضخامة اللحظة غابت عن بعض قادة أوروبا. وبدل مواجهة الأزمة الوجودية التي عرضها خطاب فانس، عاد النقاش سريعاً لموضوعات مألوفة: الميزانيات العسكرية وبطء وتيرة إنتاج الأسلحة. وكان رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، هو الذي التقط حقاً خطورة الموقف. وفي حديثه بعد فانس، أقر بالواقع غير المعلن:
"لقد أوضح نائب الرئيس الأميركي أنّ عقوداً من العلاقة القديمة بين أوروبا وأميركا تنتهي. الآن فصاعداً، ستكون الأمور مختلفة، ويتعيّن على أوروبا أن تتكيّف مع ذلك".
هل تقاوم أوروبا الفاشية الأميركية الجديدة؟
إن انهيار التحالف عبر الأطلسي ليس مجرد إعادة تنظيم جيوسياسي؛ بل هو تتويج لتحوّل أيديولوجي أميركي. فكان يفترض لعقود من الزمان أن أميركا وأوروبا متحدتان من خلال التزام مشترك بالديمقراطية، مهما كان معيباً. هذا الافتراض لم يعد قائماً. ففي عهد ترامب وفانس، لا تبتعد أميركا عن أوروبا فحسب، بل تتحالف بنشاط مع قوى تسعى لتفكيك الديمقراطية الأوروبية من الداخل. فـ"الخطر من الداخل" ليس شبح نخبة راسخة عازمة على إضعاف حرية تعبير استحضرها خيال فانس المريض، بل أحزاب فاشية يغازلها فانس وترامب بنشاط.
إنها ليست نزعة انعزالية، ولا استثنائية أميركية، إنها أخطر بكثير: رؤية للسياسة العالمية لم تعد أميركا فيها تدافع عن الديمقراطية، بل تدافع عن الاستبداد تحت ستار الشعبوية. لم تعد أميركا تسعى لقيادة العالم الحر، بل لتقويضه!
إن الطريق أمام أوروبا غير مؤكد! فدعوة زيلينسكي لـ"جيش أوروبي"، تعكس إدراكاً متزايداً بأن القارة يجب أن تتحمل الآن مسؤولية أمنها كاملةً. ولكن بعيداً عن الاعتبارات العسكرية، تواجه أوروبا سؤالاً وجودياً أعمق: هل ستدافع بثبات عن الديمقراطية، أم تستسلم لقوى يسعى فانس وحلفاؤه لإطلاق عنانها؟
كان خطاب فانس لحظة وضوح نادرة. فقد كشف حقيقة صارخة يتردد كثيرون في الاعتراف بها: لقد انتهى التحالف عبر الأطلسي! ليس بسبب خلافات عسكرية ونزاعات اقتصادية، بل لأن الولايات المتحدة تخلت تحديداً عن المثل الديمقراطية التي ربطتها ذات يوم بأوروبا. وتبنت أيديولوجية تعكس أحلك فصول التاريخ الأوروبي. لقد طُرِدَت النازية من ألمانيا عام 1945؛ ووجدت الآن موطناً جديداً بواشنطن!
لم يعد السؤال حول إن كانت أوروبا وأميركا تتقاسمان قيماً مشتركة. بل السؤال إن كانت أوروبا ستقاوم موجة الفاشية التي تتبناها الآن علناً أقوى دولة على وجه الأرض؟