من التفاهة إلى السفاهة، ثمّ إلى الأمام سرّ!

يختزل الروائي الإسباني، كارلوس زافون، أحوال الكوكب اليوم بقوله: "لن يُفنى العالم بسبب قنبلة نووية، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة".

  • (عن الانترنت)
    (عن الإنترنت)

أن تبيع بضاعة من البلاستيك الافتراضي، وتحاول إقناع الزبائن بأنها من الذهب عيار 21، مرفقة بكفالة لمدة 5 سنوات، مهنة تستهوي العابرين بوهم أنهم مؤثرون. 

في سوق الهال هذا، ستجد على الأرصفة القذرة بقايا خس، وبندورة مفعوسة، وقرنبيط ذابل، لكن الباعة يتصرفون على أن هذه البضاعة الكاسدة صنف أول، بدليل الزحام حول هذه المنصّات التي تتكئ على قاموس من الشتائم، وتكسير الركب، والضرب تحت الحزام، والتهديد بالقتل! 

سجالات مسعورة، انتقلت من خانة الشوارع الخلفية إلى منصات النخبة، وإذا بالمسافة تتضاءل بينهما إلى حدود الاشتباك بالسلاح الأبيض، فلا فرق عملياً بين من ختمَ "رأس المال" لكارل ماركس، ومن نشأ في أزقة "باب الحارة". 

عنتريات تغزو منصات التواصل الاجتماعي مثل أسراب الجراد محمولة على تاريخ من الثأر البدوي، والغوص في رمال التاريخ الآفل لتمجيد فضائل الأجداد في سلخ جلود الأعداء، وكأن العيش في اللحظة الراهنة مجرد قناع وهمي يحمي هشاشة الجموع وخشيتها من أن تتوه خارج أسوار حظيرة القبيلة. 

هكذا بعد أن أنجزنا بنجاح توطين التفاهة، دخلنا في حقبة توطين السفاهة! فالسفهاء بكامل جهلهم وطيشهم وحماقاتهم، يعملون بوردية عمل كاملة في تصدير فطائر من الهراء وتسخينها في "الميكرويف". 

لا برامج جديّة في المحطات التلفزيونية، إنما معارك هوائية فوق حلبة للملاكمة بما يكفي لهيجان الجمهور، وتصعيد مستوى المشاحنات إلى الذروة، فالمتلقي لا تعنيه وجهات النظر أو المعلومات الطازجة بقدر اهتمامه بلحظة تبادل الشتائم بين ديكة الشاشة، ونتف الريش بينهما على الملأ. 

يشير أمبرتو إيكو إلى أن المشاهد تهمّه في الدرجة الأولى الطريقة التي تتبدّى فيها معالم الضراوة بين "المتحاورين"، وهم يصرخون "دعني أُنهِ حديثي، فأنا لم أقاطعك"، وصولاً إلى تبادل النعوت مثل" يا واطي" التي باتوا يستقونها من الطبعة الأخيرة للقواميس على أنّها كلمات عامية مجازة. 

في قاموس اللغة العربية أضفنا كلمة" الصرماية"، و"بالصرماية"، و"لصرمايتي" كمكمّل غذائي للسجال الحرّ، فالفكرة ستبقى ناقصة من دون "ورنيش" لتلميع الأحذية. 

لم يعد دلق كأس الماء في وجه الخصم كافياً لإثارة غريزة المتلقي، أو الخبط على الطاولة غضباً، فصاحب المنصة يحتاج إلى "تريند" لتسويق بضاعته، وتالياً، إن اقتحام كلمة "الصرماية" وما يشبهها في القاموس اليومي ضرورة في تسخين البرامج، فهي إحدى علامات "الأكثر مشاهدة". 

هكذا انتقلت مفردة "الصرماية" من الأزقة الشعبية وأحاديث المقاهي والمسلسلات التلفزيونية إلى المنابر كسفاهة عمومية وبلاهة "نخبوية" مهمتها صناعة عدو جديد وتنزيه عدو آخر من خطاياه بجرّة قلم أو بخبطة "صرماية" في فضاء الاستديو، وتبويس شوارب تحت الهواء. 

سفهاء اليوم هم المؤثرون. أولئك الجَهَلة الذين أغرقوا مجتمع الفرجة بكل أنواع البضائع الاستهلاكية التي نتجرّعها كل يوم كمرضى لا سبيل للشفاء من دونها! والحال، دع الافكار العميقة جانباً، لا أحد لديه القدرة على حمل معاول الحفر. ابقَ طافياً على السطح مثل فقمة كسولة على الشاطئ، اطمئن ستأتيك الفرصة لتكون في الواجهة: ألا تمتلك صوتاً فوق النهيق بدرجة؟ لا تجزع إذاً، فبرامج الغناء لا تحصى، لا تخشَ لجان التحكيم، فبعض هؤلاء كانوا مثلك يوماً ما، يغنون في حفلات الأعراس والملاهي، سيصفقون لك، وسيعيدون تدوير بلاستيك موهبتك بسهولة، قطعة وراء قطعة، كما لو أنك ساعة سويسرية. ارتد سروالاً زاحلاً، واكشف عن كعب أخيل، زخرفي جسدك بــ "التاتو"، انفخي شفتيك كما ضفدعة في مستنقع، اجعل فروة رأسك مثل خريطة احتلها برابرة، اجعل من طحالب الطائفية سجادة للصلاة، اركع أمام الدولار، ضع "لايك" هنا و"لايك" هناك، أتقن لعبة عجين الفلاحة، فالكومبارس سينطق يوماً ما بجمل شكسبيرية لا تحتاج إلى معجزة. 

لا تظن أنك منبوذ أو صفر على الشمال، فبقليل من "المطاحشة" ستتقدم الصفوف، المجد للدهماء والجَهَلة وطيش السفهاء، فقد اعتنى بأمراضك المزمنة فلاسفة وروائيون وعلماء اجتماع. ألم يخصّص ميلان كونديرا روايته الأخيرة "حفلة التفاهة" في تشريح حالتك؟

خذ هذا المقطع مثلاً: "التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود، إنها معنا على الدوام وفي كل مكان. إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: "في الفظائع، في المعارك الدامية، في أسوأ المصائب، وهذا غالباً ما يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف دراماتيكية للغاية ولتسميتها باسمها، لكن ليس المقصود التعرف عليها فقط، وإنما يجب أن نحبها، التفاهة، يجب أن نتعلم حبها".

أما البروفسور هاري جي. فرانكفورت فأنجز بحثاً مطولاً بعنوان "عن التفاهة" باعتبارها مظهراً بارزاً في ثقافة اليوم، الجميع شركاء فيها حتى حين يظن أحدهم أنه يتجنبها. ويوضّح بأن التفاهة "ما هي إلا استعمال متهور أو مهمل للغة وبالتالي لا ينتج عن هذا الاستعمال إلا الهراء"، ويلفت إلى انتشار التفاهات في مواقع التواصل الاجتماعي، وكيف أن استقبال هذا الكمّ الهائل من التفاهة يومياً "يؤثر في مستوى وعي، وثقافة، وفكر الأفراد المحيطين بنا، فكل شيء أصبح متاحاً للقول، والكلام، والحديث، والتلفظ، وغابت الحدود والضوابط في مثل هذه القنوات، لأن كل فرد يعتبرها حساباً شخصياً، وتالياً، من حقه أن يضخ فيه كل هذا الهراء."

عزّز مفردات الانحطاط في جحيم من الصور المتلاحقة والبذاءة و"التجريف الأخلاقي" وانتصر لبرامج الطبخ والأبراج والشعوذة والتهريج والفضائح. انظر إلى أقدام لاعبي الكرة، وأهمل الأدمغة.

إذهب إذاً، إلى مواقع الطبخ وتعلّم أفضل طريقة لتقشير ثمرة الأناناس، واستفد من طريقة تحضير "الكواج" وكيفية خلط المكونات في الكواج الطائفي السوري، بدلاً من دلق كل هذه المقادير من توابل الكراهية. 

عموماً، سيختزل الروائي الإسباني، كارلوس زافون، أحوال الكوكب اليوم بقوله: "لن يُفنى العالم بسبب قنبلة نووية، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة".

انتبه، نحن الآن في عصر السفاهة، وهذه نقلة نوعية في احتضار الكائن.

اخترنا لك