"أنين".. شهادة عن الجرح السوري المفتوح

الوجوه التي رسمتها فاطمة شيخ الشباب في بعض لوحاتها بخطوط سوداء على خلفيّة صفراء شاحبة تشعر من خلالها بالمكابرة على الآلام ومدى الصبر الذي تحمّله أصحابها، بحيث أنها تكاد تختفي تحت طبقات اللون. 

  • جانب من معرض
    جانب من معرض "أنين" لفاطمة شيخ الشباب في دمشق

تحار في زيارتك لغاليري مصطفى علي في دمشق، أمس السبت، هل الدعوة تمّت لمعرض فني أم لحفل موسيقي؟ ففي ليوان البيت الدمشقي القديم انسابت موسيقى عازف الأكورديون فادي خوري بجماليات متنوّعة، متنقّلاً بين المقطوعات الغربية والشرقية بسلاسة، داغماً بين مباهج الموسيقى وأحزانها بحرفية عالية. 

لكن ما إن تدخل إلى الغرفة التي ضمّت المعرض الفردي الأول للفنانة السورية، فاطمة شيخ الشباب، بعنوان "أنين"، حتى تكتشف أنّ اللوحات هي استمرار لذاك التلوين في المشاعر، مع تركيز على شجن الخطوط والتكوين والألوان. إذ إنها تسعى عبر ريشتها إلى رصد ملامح أحزان الشعب السوري وحيوية تلك الأحزان، بحيث أنها جعلت ذاك الأنين طازجاً من خلال خياراتها التصويرية التي نكأت بها جراح الذاكرة الجمعية السورية.

الملاحظ في أعمال شيخ الشباب أنها أُنجِزَت في مراحل زمنية متباعدة. يشي بذلك الهويات المتعددة التي كانت تضم كل منها 3 أو 4 لوحات، ورغم عدم التجانس البصري بينها، إلّا أنّ اتحادها بالموضوع جعلها تنويعاً تشكيلياً على مقامات الألم السوري. مرة برمزية عالية وأخرى بتجريد مميّز، وفي الحالات جميعها فإنها تضع المتفرّج أمام نغمات لونية متباينة في جرأتها، وأيضاً في مواجهة أكثر من أسلوب في بناء اللوحة، لكنها تشترك في تصوير طبقات الأنين، سواء الصريح المُجاهر بكمية الألم التي كانت سبباً له، أو ذاك المكتوم الذي رغم خفوت نبرته إلا أنه أكثر تأثيراً في المتلقّي. 

الوجوه التي رسمتها فاطمة شيخ الشباب في بعض لوحاتها بخطوط سوداء على خلفيّة صفراء شاحبة تشعر من خلالها بالمكابرة على الآلام ومدى الصبر الذي تحمّله أصحابها، بحيث أنها تكاد تختفي تحت طبقات اللون. 

لكنها بالمقابل تُجاهر بأحزانها، وكأنها أوراق شجرة جاءها خريفها المديد فاصفرّت وباتت على حواف السقوط، إلا أنها ما زالت متمسّكة بأسباب وجودها وبأمل مُضْمَر يشي به بعض البياض على أطراف اللوحة، لدرجة أنّ المتفرّج يتمنّى لو أنها وسَّعت كادِرها قليلاً لربما احتوى العمل على فرح غامض.

في المقابل ثمّة وجوه يشوبها الانتظار خلف قضبان السجن، وبمسحة كامدة من ألوان البنفسجي والخمري تُعلن ثباتها وإصرارها على المقاومة، رغم أنّ القضبان التحمت بتلك الوجوه وباتت جزءاً من ملامحها، لكن الفضاء العامّ لمجموعة اللوحات تلك يشي بأنّ الحرية ليست على الأبواب، فشفافية الألوان شبه معدومة، وكلّ ما يحيط بالشخصيات كتيم وقاسٍ وفيه شيء من تكريس الزمن الثقيل الذي يمرّ بلا أيّ حسابات للعدالة، وهو ما تؤكّده القتامة المحيطة وقضبان السجن الممتدة على ارتفاع اللوحات.

  • لوحة لفاطمة شيخ الشباب
    لوحة لفاطمة شيخ الشباب

التجريدات التي لجأت إليها شيخ الشباب كانت أكثر بلاغة. إذ استطاعت من خلالها أن تتغلغل في طبقات الأنين، وتصل إلى أعماق أكثر، حتى أنها تمكّنت من التقاط نأمات البشر من دون أن تصوّرهم بشكل مباشر، وإنما من خلال حساسيات لونية وخطوط رهيفة وتكوينات متماسكة صوَّرت من خلالها رحلة النزوح السوري على متن قوارب الموت في بحر من الدماء الطازجة، ولعل الانسيابية والاسترسال بعفوية جعل المتلقّي يتابع خطوطها بدقة وكأنه يعيد رسم مسار رحلات الأسى التي خاضها السوريون مضطرين. 

هذا اللعب على الزمن والقدرة على إعادة إنتاجه هو الميزة الأهم في تجريدات هذه الفنانة السورية. ففي إحدى اللوحات بالإمكان أن نشتمّ رائحة الحرائق التي طالت البشر والبيوت، بحيث تشعر بأنّ هناك من أجَّج المحرقة من جديد، بحيث بإمكانك أن تستمع إلى هسيس النيران وهي تنهش كلّ ما تصل إليه، وربما لأنّ الفنانة استعارت لتلك الحرائق لون الذهب، فإنها تتقصّد تمديدها في الزمن لتبقى شاهداً على ما جرى من آلام  التهمت أصحابها، اللذين لم يتركوا بيوتهم إلا إلى السماء، التي جاءت في اللوحات بضربات ريشة غاضبة تنديداً بلا عدالة ما يحصل، وبمثابة عتاب شديد اللهجة على قسوة المصير وسوداويته. 

  • لوحة لفاطمة شيخ الشباب
    لوحة لفاطمة شيخ الشباب

 

في أعمال أخرى يصبح اللون هو المتمرّد، فضمن درجات اللون الأزرق يظهر زبد واضح يغرق فيه البشر الواقفون في انتظار الفرج الذي لا يأتي، ويتمكَّن الرمادي من الاستئثار بروح الكثير من اللوحات، حيث الكَمَد هو المسيطر، والملامح تتلاشى، والضبابية تسود الفضاء، والإنسان بات مجرّد دموع مستمرة، ووقوداً لنيران لا تنطفئ. أما الأبيض فهو في أقلّ تجلّياته اللونية، إذ لا مكان له ضمن كلّ ذاك الأنين، وألوان البهجة مستترة بضربة هنا وضربة هناك، فلا يمكن استدعاؤها أكثر من ذلك.

وجاء في بروشور المعرض بأنّ الفنانة شيخ الشباب تسلّط الضوء على الألم السوري بلغة بصرية وشعرية تتجاوز الكلمات، وتحمل في طيّاتها وجعاً جماعياً عاشه شعب بأكمله، لذلك فإنّ "أنين" هو صوت ينبعث من أعماق الذاكرة السورية التي حمل شعبها على كتفيه جراحاً لم تندمل، وآمالاً لم تمت طيلة 14 سنة من النزيف والرجاء، من الصراخ الصامت، من البيوت التي هُدمت، والأحلام التي شُرِّدت، والوجوه التي اختفت خلف الغياب. 

كلّ عمل فني في "أنين" هو شهادة، وكلّ لون هو شاهد، وكلّ خط هو أثر من آثار تلك الرحلة الطويلة في دروب الحزن والمقاومة، لذا فإن المعرض هو دعوة للتأمّل، الإنصات، والاعتراف بأنّ الألم السوري ليس مجرّد حدث، بل تجربة إنسانية تستحقّ أن تُروى وتُفهم.    

  

اخترنا لك