أربع مخرجات سوريات أفلامهن الأولى تشبههن
أكثر ما يجمع تلك الأفلام القصيرة، الروائية منها والوثائقية، هو مداورتها فلسفة الحياة والموت، وتطرقها إلى ميكانيزمات الخوف والطمأنينة، واختباراتها لمفهوم الحرية الحياتية والفنية على حد سواء.
-
المخرجات السوريات عروب المصري، ورشا ملحم، ولمى طيارة، ورغد باش
"غرفة المسدس"، "على الحافة"، "حياة"، و"قشرة بصلة"، هي عناوين أفلام أنجزتها على التوالي 4 سوريات هن: عروب المصري، ورشا ملحم، ولمى طيارة، ورغد باش، وذلك في أولى تجاربهن الإخراجية، التي تم عرضها، أمس الخميس، ضمن "مقهى السينما" في فندق بيك باش في دمشق.
ولعل أكثر ما يجمع تلك الأفلام القصيرة، الروائية منها والوثائقية، هو مداورتها فلسفة الحياة والموت، وتطرقها إلى ميكانيزمات الخوف والطمأنينة، واختباراتها لمفهوم الحرية الحياتية والفنية على حد سواء.
والجميل في تلك الشرائط هو قدرة كل مخرجة على وضع الخطوط الأولى لملامح أسلوبيتها في التعاطي مع ما تريد تقديمه، على صعيد الفكرة وكتابة السيناريو الذي تصدت له المخرجات الأربع، وعلى مستوى إدارة الكاميرا والممثلين، وأيضاً بما يتعلق بالمونتاج باعتباره إخراجاً ثانياً وغيره من العمليات الفنية، بحيث يمكن توصيف تلك الأفلام بأنها ذاتية إلى أبعد حد، ليس بمعنى معالجة قصص شخصية، وإنما من جهة تطابقها مع رؤية كل مخرجة، وامتزاجها بروحها.
-
لقطة من فيلم "غرفة المسدس" لعروب المصري
عالج فيلم "غرفة المسدس" لعروب المصري فكرة الخوف وآليات التحرر منه، من خلال زوجين يعيشان في بيت داخل مزرعة كبيرة في منطقة معزولة، ورغم ما يبدو عليهما من حب وتفاهم، فإن عدم الإحساس بالأمان يُشكِّل شرخاً بينهما، وخاصةً عندما أحضر الزوج مُسدساً إلى البيت من أجل الحالات الاضطرارية، لكن الزوجة ترفض وجوده، وتطلب أن يبقى في غرفة المستودع التي نكتشف شيئاً فشيئاً أنها تضم جميع مخاوفها.
لكن، أثناء غياب الزوج في العمل تحسّ الزوجة بأن هناك من يهجم عليها في ظلام الليل، فتتجاوز خوفها من المسدس وتوجهه إلى من يهدد حياتها، وترديه من دون أن نشاهد ما حدث بالفعل، ثم تركض بين الأشجار وتدفن المسدس ولا تعود تتذكر أين فعلت ذلك.
ثم، تحت إلحاح الزوج، تبدأ رحلة البحث عنه، فنراها تنبش التراب بالمعول وبيديها، وفي خضم انهماكها تعثر على مجموعة من الجثث، تأبى أن تتركها نهباً للنسيان، فتقوم بوضع حجارة كشواهد لها، من دون أن نعلم لمن تعود تلك الأجساد المنهوبة ومن هو قاتلها.
ضبابية الدلالة من دون مفاتيح حقيقية لقراءات متعددة أوقعت الفيلم في مطب، ولا نعلم إن كان الخوف أو التردد هو السبب وراء ذلك، وهو ما جسدته الكاميرا في ارتباكاتها بين ملامح الوجه المضطرب للزوجة، والتراب المتناثر بين يديها، ومتاهة الشجر حولها، والحيوات الضائعة، والاستكانة لقمم الأشجار العالية بما يشبه التضرع.
-
لقطة من فيلم "حياة" للمى طيارة
أما فيلم "حياة" للمى طيارة فيوثق لإرادة امرأة حمصية في مواجهة الدمار الحاصل لمدينتها، وضمن ثنائية الحميمية والوحشة، البناء والهدم، تقف "حياة" وحيدةً تتأمل النباتات على شرفتها، من دون أن تنظر إلى الأبنية المتهدمة التي تناهبتها القذائف والرصاص والموت الذي طال المساكن والمدارس والمستشفيات. فهي ترفض إلا أن تؤسس لجَمال خاص بها، وأن تشجع عليه، حتى إن ابنتها التي تركب أرجوحتها هي جزء من عملية البناء والترميم التي تريدها.
وتبقى الأرجحة، كما قالت المخرجة طيارة، تحمل في طياتها دلالة على غموض المستقبل، ونَوَسَانِه بين نقيضين. إما استمرار إعادة الروح إلى المدينة، أو الإبقاء عليها مهدَّمة، وهو ما أكدته بلقطاتها المتناوبة، مرة باتجاه ما جرَّته الحرب على حمص وأبنيتها، وأخرى نحو البيت الذي عادت إليه الحياة تدريجياً بمحو معالم الخراب فيه، ليبقى وجه حياة المُغفَل بمنزلة إسقاط سينمائي عن جميع السوريين القادرين على النهوض من رمادهم والتأسيس لجَمَال يُناهض كل دمار، ولإرادة في مجابهة الاستسلام لما حصل وقد يحصل.
-
لقطة من فيلم "على الحافة" لرشا ملحم
ثم فيلم "على الحافة" لرشا ملحم الذي يتحدى الموروثات الشعبية بذكاء، منطلقاً من حكاية فتاة يتهمها خطيبها بأنها على علاقة بشاب آخر، ولدرء هذه التهمة عليها أن تتجاوز مشياً حافة حجرية ضيقة وهي معصوبة العينين، وذلك وفق معتقد شعبي يقول بأن من يحقق ذلك يكن صادقاً في قوله.
تبدأ الفتاة برمي خاتم خطوبتها، وتصعد بداية الحافة، وتركز الكاميرا بالتناوب على قدميها بحذائي راقصة باليه، وعلى وجهها وتصميمها على تجاوز محنتها.
هنا، نلاحظ إصرار خطيبها على إفشال مهمتها، مرة بتوظيف طفل أن يرميها بحبات الجوز بواسطة "نقيفة" توقع سماعات أذنها، وأخرى بتشتيت انتباهها بأصوات "الطقطيقات" المزعجة، وثالثة بهمهمات الجمهور المتعالية في انتظارهم لما ستؤول إليه الحكاية.
لكن إرادة الفتاة في الانعتاق تتفوق على كل المعيقات. إذ خلعت سماعة الأذن الثانية، وباتت تستمد توازنها من شرور الآخرين حولها، ومحاولاتهم مضايقتها من تجاوز الحافة المتعرِّجة، ولهذا بعد فترة من التوتر تنجز المهمة بنجاح، وتتخلص من خطيبها الشَّكَّاك ومن ثرثرات اتهامها، لنراها متحررة من كل ذلك، وترقص في أحضان الطبيعة التي تواطأت معها وأصبحت أكثر نضارة.
لقطات مميزة حققتها ملحم، تظهر من خلالها قوة الفكر والفرادة الإنسانية في مواجهة قطيعية البشر ومعتقداتهم الواهية. إذ لم تكن تلك الحافة مُجرَّد حجارة متراصفة بجانب بعضها مع نتوءات كبيرة فيها، وإنما هي فكرة لا بُدَّ من تحدِّيها لقلب المفاهيم، وإحقاق الحق، وإظهار هشاشة الموروثات والقدرة على تفتيتها ببعض الإرادة والتصميم.
-
لقطة من الفيلم الوثائقي "قشرة بصلة" لرغد باش
أما الفيلم الوثائقي "قشرة بصلة" لرغد باش فينحو لتصوير أحد حفاري القبور في مقبرة "باب الصغير"، وفلسفته الوارفة تجاه الموت والحياة، إذ يُجابه الموات اليومي بإمعان في فهم الواقع، والسخرية ممن يتعاطى مع الحياة بجدية وصرامة، متناسياً أن مآله الأول والأخير هو في حفرة تحت التراب.
وفي محاولة للاستغراق أكثر في تلك الفكرة، نراه يقارن بين المُتَّقين الذين يكون دفنهم سلسلاً، وبين أصحاب الذنوب الكثيرة الذين يستشعر ثقلهم رغم نحافتهم البادية، وهو ما يُعسِّر مواراتهم الثرى.
ولا نستطيع إغفال حظ باش في العثور على حفار قبور وسيم ذي ابتسامة جذابة ومنطق خاص، قادر على أن يرشّ على الموت سُكَّراً كما يُقال، وذلك لظُرْفِه وصِدْق تعاطيه مع مهنته، وإيمانه العميق بأن التعامل مع الأموات أفضل بألف مرة من التعاطي مع الأحياء، لا سيما أنه لا يشتري الحياة كلها بقشرة بصلة.
ملاحقة الكاميرا ملامح ذاك الشاب الوسيم، وعلاقته بزملاء مهنته وخاصةً الدرويش الذي يعتقد أنه لن يموت لأنه هو حفار قبور وسيتوقف الموت بموته، وإظهار عمليات الحفر والدَّفن ومواكب الجنازات، كلها أضفت طابعاً من الحيوية على تفاصيل الفيلم، بما في ذلك طفلا المخرجة وهما يتلوان الفاتحة على قبر جدَّتهما، وفي الوقت ذاته يقطفان الورود من عليه.
سخرية مريرة من الموت والحياة معاً، من دون المساس بأي معتقد، وإنما مجرد حوار عفوي مع شخصية استثنائية لطالما تناولتها الفنون الدرامية بالكثير من التمحيص. لكنها كانت هنا مُجسَّدة بأبهى تصوراتها، وبسَكينة داخلية محاطة بضجيج الأرواح التي لا تهدأ وهي تُطل من مقبرة "باب الصغير" على كل الشام.