ألين جوفروا.. روح الفنان الحقيقي تبقى في طفولته

رغم سنينها الطويلة، إلّا أنّ جوفروا ما زالت مواظبة على الجلوس في مرسمها وأمام قماش لوحاتها الأبيض ترسم عليه ما يحلو لها، مع أنها باتت أبطأ في الإنجاز.

  • من أعمال ألين جوفروا
    من أعمال ألين جوفروا

إنّ مقارنة بسيطة بين لوحتين متجاورتين في معرض الفنانة الفرنسية – السورية، ألين جوفروا (1930) يفصل بينهما نحو 70 عاماً، ستؤكّد أن روح الفنان الحقيقي تبقى في طفولتها، وقدرتها على التقاط مكامن الجمال من دون تكلُّف، وإنما ببساطة وعفوية آسرة، بحيث إنّ الزمن يتجاوز أحابيله التقليدية في البشر، ويتحوَّل إلى خميرة زاخرة من اللعب بالخطوط والألوان بمهارة فائقة.

معرض "خطوة إلى عالم من الحنين" الذي احتضنه غاليري "زوايا" في دمشق، أمس الأحد، لا يكتفي بالتركيز على الشفافيات التي امتازت بها جوفروا في استخداماتها للألوان المائية، والتَّحكُّم العالي في سيلاناته ودرجة كثافته وعُمق دلالاته. إنما تعدّى ذلك إلى الأعمال الزيتية التي تتحلّى هي الأخرى بتعتيق من نوع خاص، وإصرار على دفع المتلقّين للنفاذ إلى قلب كلّ لوحة وجوهرها. كأنّ هذه الفنانة تُصرّ على شبابها الفني بكلاسيكية مميّزة تنطبع في الذاكرة وتُنشئ فيها حواراً يكون فيه الزمن هو الموضوع الرئيسي، فضلاً عن جماليات الألوان ودلالات استخداماتها، وحُسن التكوين بصيغته العامة، ورصانة الخطوط، إلى جانب عناية فائقة بتشريح الوجوه التي ترسمها ألين في بورتريهاتها، لدرجة أنها باتت قادرة على مخاتلة الزمن وإقناعنا بأن هذه اللوحة أو تلك مرسومة منذ وقت قصير، لولا التواريخ في البطاقات التعريفية التي تُحيلنا في بعض الأحيان إلى ما يقارب النصف قرن أو أكثر. 

وبين اللاذقية ودمشق، بيروت وإيطاليا تصطفي جوفروا مشاهدها، فهي تؤثر الاهتمام بالبيوت القديمة، والطبيعة في أبهى تجلّيات صمتها، بالإضافة إلى حُبِّها الواضح للبحر وكلّ ما يمت له بصلة، وضمن تفرُّعات هذه الثلاثيّة تسعى هذه الفنانة إلى توثيق جمالي، تزداد أهميته مع توالي السنين، ولا سيما أنّ ما تُصوِّره لم يعد على حاله، وفي بعد الأحيان التغييرات التي أصابته وصلت إلى حدّ زوال الأصل نهائياً، وهو ما حصل في اللاذقية بشكل خاص، ولذلك باتت لوحاتها بمثابة شاهد على ما كان، وكيف توارت الخصوصية الجمالية لبعض البيوتات اللاذقانية القديمة في مقابل تسلُّط أبنية حديثة بلا أيّ نكهة معمارية، بحيث إنها تُشكِّل غصَّة لمن يعرف تلك المناطق التي ترسمها ألين بحساسيّة مُفرطة من مثل شواطئ أفاميا وابن هانئ والمرفأ القديم ومناطق كسب والبندة وقلعة المضيق وغيرها.

  • من أعمال ألين جوفروا
    من أعمال ألين جوفروا

في السياق ذاته نرى لوحات لبيروت ومنطقة عين المريسة وتل الزعتر، وبعض ملامح المدن والقرى الإيطالية، ولطزاجة ألوانها وحيوية خطوطها، نظن أنها ما زالت تحتل أماكنها، لنكتشف أن معظمها لم يبق في هذه الأعمال التي لا تسعى لتثبيت الزمن بقدر الحفاظ عليه نقيَّاً من أي شائبة، والسعي لنقله إلى حاضر اللوحة لحظة عرضها أمام الجمهور. 

نضارة ما تشتغل عليه جوفروا يتحقّق أيضاً في لوحاتها عن شخصيات مقرَّبة منها، من مثل أم سيروب وجميلة وحتى النساء القرويات المنشغلات بهمومهن اليومية. إذ تشعر أن ما تفعلنه ما زال مُستمراً، وأن رسمه لم يوقف سيرورته، بل على العكس أيقظ باستمرار الروح الكامنة في موضوعه، حتى ولو كان انتظاراً فإنه انتظار يفيض بالمعنى، وإن كان انهماكاً بالعمل فإنه يتلبَّس حَرَكيِّة داخلية خاصة، وإن كان قراءةً فإنه يتحوَّل إلى قراءة من نوعٍ آخر، لها علاقة بالإصغاء إلى الصيرورة بمعناها الفلسفي.

والأمر ذاته ينطبق على الأزهار التي ترسمها ألين وأيضاً على طبيعتها الصامتة، التي تُفصِح عن الكثير من المشاعر أثناء تأمّلها، فهي انطباعية آسرة، والتدقيق في تفاصيلها سيُحيلنا إلى الآليات التي تُفكِّر فيها هذه الفنانة في إرسالها النور إلى مكوِّنات لوحاتها، والهواجس النفسية التي تملَّكتها خلال عملية الرسم ووضع الخطوط ومزج الألوان، سواء أكانت لتفاحة إلى جانبها سكين أو لصحن فاكهة أو مزهرية. 

ولإيضاح بعض الاستفسارات التي تعلق بذهن المتلقّين، التقت "الميادين الثقافية" الفنانة ألين جوفروا، وأجرت معها حواراً بسيطاً قالت فيه إنها لطالما أحبّت البيوت القديمة وتستغرب كيف تمّ تدميرها من دون شفقة على حساب أبنية حديثة بلا روح. 

وشرحت الفنانة الفرنسية - السورية كيف أنّ حبَّها للبحر تملَّكها منذ كان والدها يصطحبها إليه، ثم نتيجة زياراتها شبه اليومية إليه. إذ كان زوجها وكيل باخرات وتذهب معه إلى المرفأ وترسم ما تشاهده أمامها.  

  • من أعمال ألين جوفروا
    من أعمال ألين جوفروا

وعن علاقتها مع لوحاتها أوضحت جوفروا أنها ينبغي أن تحب الموضوع الذي تشتغل عليه، وبغير ذلك فإنها لا تنجح، كأن يطلب منها أحد ما أن ترسم منظراً طبيعياً أو بورتريهاً ما، حينها تفقد روح العمل ولا تستطيع أن تضع فيه جزءاً من روحها، ولهذا تفضّل ألّا يُفرض عليها شيء، فهي تتعامل مع لوحاتها كأرواح خاصة بها، ولأنها لا تحبّ الزيارات وبحكم عُمرِها الذي قارب الــ 95 عاماً، فإنها تُعوِّض علاقتها مع الناس بعلاقاتها مع ما ترسمه، ويؤثّر مزاجها وحالتها النفسية أثناء اشتغالها على خطوطها وألوانها، ولهذا تعتقد أنها تنجح في الألوان المائية أكثر من الزيتية وذلك بسبب شفافيتها التي تتأثّر بشفافية روحها خلال عملية الرسم. 

رغم سنينها الطويلة، إلّا أنّ جوفروا ما زالت مواظبة على الجلوس في مرسمها وأمام قماش لوحاتها الأبيض ترسم عليه ما يحلو لها، مع أنها باتت أبطأ في الإنجاز، فآخر لوحاتها أخذت منها أسبوعاً كاملاً بمعدل رسم 4 ساعات يومياً، في حين أنها كانت تنجزها في مدة أقصر. 

اخترنا لك