الغرق في مياه الرواية.. تلك المهنة الشاقة التي نذهب إليها طوعاً!

في نهاية المطاف ستعيش في منطقة اللاطمأنينة، قبل وبعد طباعة روايتك، طالما أنك اخترت هذه المهنة الشاقة، وذهبت إليها طوعاً بتأثير غوايتها السحرية وحسب.

  • لوحة
    لوحة "الكاتبة" للأميركية روث تشاني (1908 - 1973)

ليست كتابة الرواية وحدها، مهنة شاقة، بل الانتهاء من كتابتها أيضاً! أن تجد نفسك فجأة، في منطقة اللاجاذبية، معلّقاً في الفراغ، بعد أشهر، وربما سنوات من المخاض والولادة، واختراع حيوات وكمائن وأوهام لشخصيات، كانت تشاركك حياتك بكلّ تفاصيلها. أشباح لا يراها أحد سواك، تتجوّل معك أينما حللت، في الشارع والمقهى والحمّام، في اليقظة والمنام، قبل أن تتسرّب على مهل، إلى ثنايا النص، تحفر مجراها في التراب على هيئة ساقية قد تتحوّل إلى نهر، أو تغرق في الطين الرطب، وربما تتخذ هيئة الصلصال. قد تصطدم أثناء الحفر بصخرة، فيتعثّر محراثك عن العمل، وقد تكتشف كنزاً مخبوءاً، في حال أزحت هذه الصخرة جانباً. 

أما الآن، أقصد لحظة الانتهاء من الكتابة، عليك أن تتخلّى عن المسوّدات والمراجع والإحالات، وأن تقوم بتنظيف مخيّلتك من كلّ ما علق بها من أوجاع وشغف وعراك وقلق، خفيفاً مما كان يثقلك، مثل طائر يحلّق عالياً، وأن تحسّ بالندم ربما، لأنك لم تتح لشخصية ما، أن تصرخ بكامل حنجرتها من الألم أو اللذة أو الاشتهاء. في لحظة ما ستخونك البلاغة في إيصال ما كنت تنوي تدوينه بدقّة، ذلك أن للشخصيات رغباتها المضمرة، وحياتها السريّة التي قد تتمرّد على أقدارها، عند منعطفٍ ما، والحال لن تتمكّن من تقشير طبقات اللغة نحو البذرة الأولى، كي تمهّد التراب بما يليق بحياة حقيقية، ستنمو في الضوء. 

أصعب ما ستواجهه في مسالك الكتابة، إهمال واقعة أو فكرة أو مكان، والذهاب إلى منطقة أخرى من السرد، تاركاً خلفك ضحايا بنصف رئة للتنفّس، وبكنوز مدفونة في جدار، أو تحت رخام أرضية غرفة ما، أو خزانة مهملة في عليّة، لطالما أهملت موجوداتها، أو وراء ستارة نافذة مغلقة قد تخفي وراءها مشهد امرأة مجهولة. كائنات معوقة، ليس بمقدورها المشي بمفردها، وقد اتكأت على عكاكيز من قصب. 

خلال فترة الكتابة، تحاول تقليب التربة بمعول الشَّهوة، كأنك أمام جسد أنثوي مثير (أليست الرواية مؤنثة؟)، فتضيع بين تضاريسه النافرة، وتجوس في الهضاب والأودية والمغاور والكهوف، في معارك ضارية، إلى أن تقبض على الجملة الهاربة بفخاخ اللغة، والطاقة القصوى لاشتعال المخيّلة، مطمئناً إلى الثمار التي قطفتها من الأشجار العالية. ولكن مهلاً، أليست هذه الثمرة حامضة؟ ألا تحتاج إلى شمسٍ إضافية لكي تنضج؟ ينبغي إذاً، فحص البذور والأسمدة، أو إعادة تقليم بعض الأغصان، فأنت بشكلٍ ما، بستاني في حقل اللغة والمخيّلة، أو منقّب آثار، عليك مسح التراب المتراكم فوق هذه اللقية أو تلك، على مهل، وفكّ رموز النقوش المكتوبة على سطحها، وترميم وعاء مكسور، كان مخصصاً لملك أو محارب.

ألم الكتابة وفترة النقاهة

  • غابرييل غارسيا ماركيز
    غابرييل غارسيا ماركيز

ألم الكتابة لا يقل وطأة عن شغفها، وبين هذين الخطين، الألم والشغف، تعيش حياةً مضطربة، وحالات من الشرود الطويل بمصائر مؤجلة، أو معلّقة، أو غائمة، لشخصيات هاربة، ما تزال تقف على الحافة، خشية صعودها سلّماً مكسوراً، أو أن تتوغّل في مناطق محرّمة. 

هكذا انتظر غابرييل غارسيا ماركيز 17 سنة، كي يكتب تحفته" مئة عام من العزلة" بنسختها النهائية، ولجأ إلى 11 ألف وثيقة لكتابة "الجنرال في متاهته". أما إيزابيل الليندي، فكانت تنتظر أسبوعاً محدداً، من الشهر الأول، من كل سنة، كي تجلس إلى طاولة المطبخ، وأمامها باقة من الورود الصفراء، قبل أن تستحضر أرواح شخصياتها. 

هناك إذاً، مكابدات شاقة، تواجه الروائي، قبل كتابة نصّه، وبعد الانتهاء منه. أما في فترة النقاهة، فلن يستسلم إلى الطمأنينة على الإطلاق. كائن مكتئب، وجد نفسه فجأة بلا عائلة، أو جنرال متقاعد، لم يعد لديه من يكاتبه، أو يلقي عليه التحية، أو مريض يتمرّن على المشي بعد أن غادر سرير المستشفى، في إثر عملية جراحية معقّدة.

قد تتنفّس الصعداء لحظة كتابة الجملة الأخيرة في الرواية، مودّعاً شخصياتك، وكأنك لن تلتقيها أبداً، لكنك في المقابل، لن تطمئن تماماً إلى ما أنجزته. ستعود مرغماً إلى اقتفاء أثر شخصياتك مجدّداً. تنصت إلى ما يعتمل في الداخل، إلى الندوب التي أودعتها في أرواحها، وقد تكتشف بغتة، حفرة وسط أحد الشوارع، لم تنتبه إلى وجودها، لحظة" ذهاب المخيّلة وإيابها"، وهنا عليك ترميم الحفرة في الحال، وربما ستدخل متاهة غير متوقّعة، ستأخذ السرد إلى مسارب أخرى، ما يعيق المسار الأول للحدث. 

هذا الاشتغال على الطبقة العميقة للقماشة، بقدر ما هو شاق، إلا أنه يحرّر الصورة من الغبش الذي لحق بها في الكتابة الأولى التي ظننت أنها كتابة نهائية. لن تتردّد بالطبع بإزالة جدار هنا، أو سور هناك، وأن تفتح نافذة هنا، وجسراً هناك، قد يؤدي إلى حديقةٍ أو مقبرة، وربما ستنشئ سلّماً يفضي إلى دهليز أسرار وألغاز واعترافات، فهذا مطبخك السرّي، ولديك مطلق الحرية في هندسة وتأثيث عالمك الروائي، كما تشاء، طالما أنه لا يزال ملكك الشخصي، ولم يخرج إلى العلن، كما لن تلتفت إلى احتجاجات شخصياتك في خلخلة طمأنينتها الأولى، فالحفر في طبقات النص، هو من سيعيد الحدث إلى سكّته الصحيحة، مهما كانت حدّة الألم. 

لن يضيرك استدعاء وصايا إيتالو كالفينو الست، خصوصاً، في ما يتعلق بالخفّة، والسرعة، والدقة، والتعددية، أو رسائل ماريو فارغاس يوسا في كتابة الرواية للمستجدّين، أو حتى طريقة الجدّات في حياكة حكاياتهن الخرافية لجهة التشويق وصناعة الحبكة، فالرواية في نهاية المطاف، سفينة نوح أخرى، بإمكانها الإبحار بكلّ أنواع الكائنات والأجناس الإبداعية. إذ تهبّ الروائح والألوان والإيقاعات، تبعاً لجهة الريح، ولكنك كقبطان ألا ينبغي أن تخشى عاصفة هوجاء قد تغرق السفينة؟ في هذه الحال، ليس أمامك سوى تخفيف حمولة السفينة، والاستغناء عمّا هو فائض من أغراض، في مقدّمتها" الحشو"، والحوارات التي لا تقود إلى عتبات جديدة للحكي. 

الكتابة والمحو

  • إيزابيل الليندي
    إيزابيل الليندي

لا مقدّسات في نصّ قابل للمحو والكتابة، فالنسخة الأخيرة، ليست سوى مسوّدة صالحة للشطب والإضافة، ومحطة لصعود ركاب جدّد، ومغادرة ركاب آخرين.

يقول الروائي المغربي، إسماعيل الغزالي، في هذا السياق" لندع زمن التخطيط المسبق لإنجاز الرواية جانباً، وما يحتمله من حالات وجودية شاقة، يتأرّق فيها الروائي وينصلب بمسامير فكرته وتخييله المُزمنيْن، وسواء وثّق المنفلت من إشراقاته في دفتر، ورسم في مذكرته الروائية ما قد يعينه من أدوات ومفاتيح ودلائل وخرائط لعمله السردي الوشيك، أو اكتفى بأن يقلّب شرائح روايته اللامكتوبة بعد، على مشواة تخييله، فهذه البروق التي تسبق عاصفة الكتابة لاذعة وصاعقة، بقدر ما هي مغوية وممتعة".

ويضيف موضحاً "أما اللحظة التي يبدأ فيها العمل في الخروج من غسق الكُمون إلى نهار التحقّق، ما أن يخطّ العبارة الأولى الشبيهة برأس الخيط، ويلفي نفسه بقدرة قادر في غمرة كتابة الرواية فعلاً، فمنذئذ يشرع طور ثان من زمن الإنجاز الروائي في الوجود الفعلي، ويمكن حساب الوقت الذي يستغرقه منذ ذلك الحين حتى العبارة الأخيرة من المسوّدة. طورٌ ثالثٌ يعقب كلّ ما سبق، وهو عملية الحذف والتنقيح والتدقيق، وهي عملية أكثر شقاء في إنجاز اللعبة الروائية، بل أحياناً عملية الحذف هذه تكون أهم من الكتابة ذاتها".

 قد نحزن لموت شخصية في منتصف الرحلة بحادثة مفاجئة، مثلما سنستغرب تشبّث شخصية ثانوية بمقعدها إلى نهاية الرحلة بقوة فعل مباغت، فلولا وجود "سانشو" لما تمكّن "دون كيخوته" من إنجاز مغامرته كفارس جوّال. 

في نهاية المطاف ستعيش في منطقة اللاطمأنينة، قبل وبعد طباعة روايتك، طالما أنك اخترت هذه المهنة الشاقة، وذهبت إليها طوعاً بتأثير غوايتها السحرية وحسب، أو كما يقول أرنستو ساباتو في كتابه "الكاتب وكوابيسه" إنّ عمل الرواية هو "تسريع وتيرة الكارثة التي تحدّق بالإنسانية".

اخترنا لك