المجاز.. حيث العالم عوالم

التفكير والكفاح يجب أن يكونا في سبيل هدف واحد هو تمتين علاقة الناس بفعل القراءة والنظر والاعتبار وتهذيب الذوق، وعن ذلك ستورق شجرة الدهشة، ومن هذه الأخيرة يتأسس الإنسان المتسم بالفاعلية والإبداع في شتى حقول الحياة.

  • يوجين بوخ الشاعر، 1888، (فينسنت فان جوخ)
    يوجين بوخ الشاعر، 1888، (فينسنت فان غوخ)

بصرف النظر عن النقاش والصراع الدائر حول التطورات التي شهدتها القصيدة العربية والعالمـية، وعن ماهية الشعر والفن، فإن الأزمة الحقيقية اليوم تكمن صراحة في: أزمة المجاز. ومعها أصبح التفكير ميالاً نحو التسطيح، ونحو المعنى السافر. كأنما العقول عانقت نوعاً من الكسل، والواقع أن هذا الخمول الذهني نذير شؤم للأمة. فالإنسان البنّاء يبدأ من عقله.

إن كان من جهد أو صراع في واقعنا الثقافي، فيجب أن يوجه صوب هذا الانحدار، حيث يجدر بالنقاد والمبدعين واللغويين وصناع القرار الوطنيين، التفكير في أسباب وكيفية علاج مرض أزمة المجاز، وهو مرض جمعي، من أعراضه أنه يعمل على تسريع نجومية الأغبياء، والإمعان في انطفاء النجباء والعلماء في الأمة. وأزعم أن التربية على الجمال مبدأ ذلك العلاج، فمن خلال الحس الجمالي يمكن التأسيس لمجتمع علمي، متقدم، تقل فيه مظاهر الجريمة والسلوك العدواني.

إن ازدهار العلم من ازدهار الفن والأدب، وحيثما كان الواحد منهما منهكاً كان الآخر كذلك. لا يمكن لعقل غير متذوق للمجاز الفني والأدبي أن يكون ذا فائدة في الحقول العلمية والتقنية وما رافقها من عجائب. ولا يمكن لعقل فاقد للحس الجمالي أن يعانق الفضيلة، وأن يدرك قبح السلوك المشين والشرير. إنني أفترض أن مجتمعاً متذوقاً للجمال ستقل فيه أعداد السجون.

كما أن التفكير والكفاح يجب أن يكونا في سبيل هدف واحد هو تمتين علاقة الناس بفعل القراءة والنظر والاعتبار وتهذيب الذوق، وعن ذلك ستورق شجرة الدهشة، ومن هذه الأخيرة يتأسس الإنسان المتسم بالفاعلية والإبداع في شتى حقول الحياة. ومعلوم أن كل المعارف والتطورات إنما هي بنت الدهشة والسؤال. ولا تأتي الدهشة من إنسان تربى على المعنى الثابت، والحقيقة المطلقة، ومن هنا أهمية المجاز وما تفرع عنه، فهو احترام لعقل المتلقي، ودعوة له للتفكير الذاتي. ما من كتابة تحترم عقل المتلقي إلا تلك التي تحترم حقه في الفهم الحر والإنساني. وبذلك فالقارئ يكتب القصيدة من جديد، إنه يكتب نصه الخاص على أنقاض النص المقروء، كشرنقة تخرج من غشائها لتصبح فراشة جميلة. الكتابة هنا قد تكون بالفعل أو بالتخيل والخيال منطلق الحياة الخصبة بالنسبة للإنسان.

وبناء عليه، هل يمكن لطبيب محب للفن والأدب وضمنه الشعر أن يكون سفاح جيوب؟ هل يمكن للجنرال المحب للشعر أن يكون سفاحاً يشن معارك مجانية لا لزوم لها؟ هل يمكن لسياسي محب للشعر أن يكون وصولياً متكسباً من منصبه؟ هل يمكن لفلاح محب للشعر أن يضع مواد سامة لزيادة الإنتاجية؟ هل يمكن لتاجر محب للشعر أن يبيعك بضاعة مغشوشة؟ هل يمكن لفيلسوف محب للشعر أن يكون في صف سلوك لاإنساني؟ هل يمكن لمهندس محب للشعر أن يهندس مدينة من دون حس جمالي؟ هل يمكن لمواطن محب للشعر إلقاء القمامة في كل زاوية؟هل يمكن لناشر محب للشعر أن يكون تاجراً محضاً فيضع في شروط النشر؛ ننشر كل شيء عدا الشعر؟

أليس السبب في تلك الصلافة استفحال مرض أزمة المجاز؟

اخترنا لك