سعد الله آغا القلعة.. مُهندس الموسيقى العربية ووزير سياحتها
أكثر من 70 عاماً قضاها مُتعلِّماً وباحثاً ومُعلِّماً للموسيقى العربية. من هو سعد الله آغا القلعة؟
-
سعد الله آغا القلعة (1950 - 2025)
أكثر من 70 عاماً قضاها سعد الله آغا القلعة (1950 - 2025)، مُتعلِّماً وباحثاً ومُعلِّماً للموسيقى، فمنذ الرابعة من عمره بدأ تعلُّم الموسيقى على يد والده فؤاد رجائي، ليَدرُس لاحقاً في المعهد الموسيقي بحلب لمدة 10 سنوات ابتداءً من عام 1956، وكان من أبرز مدرسيه الأستاذ شكري الأنطكلي، ثم أصبح مُدَرِّساً في المعهد ذاته بين عامي 1967 - 1972.
هذا الإعداد الموسيقي لم يكن فقط في العزف على آلة القانون الذي تألق به وبات من أهم الأسماء العربية فيه، بل لازمه تعمُّق في المقامات وفلسفة بناء الألحان وتحليلها، مستفيداً في البداية من والده الباحث الموسيقي صاحب كتاب "من كنوزنا" الذي تضمن أول دراسة علمية عربية عن علاقة الشعر بالموسيقى، مع توثيق لوصلات الموشحات تدويناً ومقامات وإيقاعات.
بعدها انطلق سعد الله في مسارب بحثية عديدة، واضعاً نُصب عينيه مقاربة مُنجز الأصفهاني في كتابه "الأغاني"، لذلك اشتغل لسنوات طويلة على مشروع سمّاه "كتاب الأغاني الثاني" وهو مشروع "سمعي بصري مرجعي" يستخدم فيه تقنيات الوسائط المتعددة ليوثق ويحلل حياة أساطين الموسيقى العربية، مع اختيار 100 عمل غنائي ولحني قدمها من يستحقون أن يبقوا في الذاكرة لخصوصيتهم ودورهم في الارتقاء بتلك الموسيقى، وكان ذلك إجابة عن سؤال طرحه سعد الله على نفسه ذات مرة وهو: هل يمكننا في عصر التلفزيون والكمبيوتر، والوسائل الحديثة أن نضع جدولًا لأهم 100 عمل غنائي عربي على غرار ما فعله الأصفهاني قبل ألف عام؟
رائد البحث
لم يتوقف أثر آغا القلعة على تحقيقه لذلك المشروع، بل إنه كتب قبله وبعده العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في كتب ومجلات مُحَكَّمة وفي موقعه الإلكتروني الذي ضم أكثر من 500 ألف متابع، وجُلُّها لم يسبقه إليه أحد، من مثل دراسته المعنونة بـ"هل يشيخ جمهور الموسيقى العربية؟" والتي اتكأ فيها على مقاربة دراسة فرنسية وإسقاطها على الواقع العربي، وهناك مقالته المتعلقة بأثر الذكاء الاصطناعي على الفن عموماً والموسيقى خصوصاً، وفيها أسئلة كبيرة أَجْمَلَها بـ"ما هو مآل الفن؟ هل بدأ بالتحول من إبداع إنساني إلى نشاط بشري؟ وهل سيكون بإمكان بديله التكنولوجي أن يحل محله؟".
وإلى جانب ذلك هناك دراسته الرائدة في العلاج بالموسيقى، والتي أرفقها بمقطوعة من عزفه على القانون تمتد لخمسين دقيقة، واستطاعت أن تترك أثرها على مرضى الفصام خلال علاجهم بها في إحدى العيادات بحيث أن موسيقاه غيرت مجرى حياتهم، وأيضاً ثمة بحث كتبه الراحل عن العلاقة بين السمع والبصر في الموسيقى العربية، والتي حلل فيها قصيدة "لا تكذبي" التي لحنها محمد عبد الوهاب، وفكَّك فيها رموز الشارة الغنائية لمسلسل "أرابيسك"، من كلمات السيد حجاب وألحان عمار الشريعي.
إنجازات آغا القلعة البحثية لم تتوقف على ما كتبه، بل تعدّته إلى استفادته من دراسته للهندسة المعلوماتية التي نال فيها درجة الدكتوراه من فرنسا عام 1981 وتسخير ذلك في بحوثه الموسيقية. إذ إنه كان سبَّاقاً في تطوير نظام معلوماتي يعمل على تحليل الموسيقى العربية، إضافة إلى تطبيق أحدث مناهج التحليل الموسيقي والمقارن في دراساته التي بثتها قنوات التلفزيون السوري على مدى عشرات السنوات في برامج قدَّمها هو بنفسه من مثل "العرب والموسيقى"، "نهج الأغاني"، "عبد الوهاب مرآة عصره"، "أسمهان"،... والتي شرح من خلالها مبادئ الموسيقى العربية، وخصوصيتها وتاريخ تطورها.
كما حلَّل الجمل اللحنية لكثير من المبدعين الذين غنى من ألحانهم فريد الأطرش، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، نجاة الصغيرة، عزيزة جلال، ملحم بركات،... فضلاً عن إبراز دور كل من أبي خليل القباني، محمد عبد الكريم (أمير البزق)، الأخوين رحباني، كميل شامبير، النقشبندي،... في الارتقاء بالموسيقى العربية، منطلقاً من اعتقاده الدائم الذي صرَّح به في أحد حواراته بأن "الإبداع الموسيقي ينبغي أن لا ينفصل عن التحليل والدراسة العميقة، لأن العشوائية في التطوير تهدد الهوية الموسيقية العربية".
علامة فارقة
مكانة آغا القلعة العلمية تعززت مع الزمن، وبات علامة فارقة في البحوث الموسيقية العربية، إذ دائماً ما يُقدِّم جديداً ومُبهراً على الصعيد الفكري، وهو ما تثبته مشاركاته في العديد من المؤتمرات الدولية، وأوراقه البحثية التي تلقى الثناء نتيجة عُمق تحليله وصوابية رؤيته، ومن ذلك بحثه "نظرية الأجناس الموسيقية المتداخلة" التي ألقاها في مؤتمر القاهرة 1992، و"الموسيقى العربية وعلاقتها بالحاسب" في المؤتمر ذاته دورة عام 1996، و"المعالجة بالموسيقى عند العرب" التي قدمها في المكتبة الوطنية بدمشق عام 1993، و"التجريب في مسرحة الموسيقى العربية عند سيد درويش" وغير ذلك من الإسهامات التي أهلته لنيل العديد من الجوائز والتكريمات تقديراً لجهوده في مجالات الموسيقى والإعلام معاً، من أبرزها جائزة الكارتوش الفضي عن برنامج "عبد الوهاب مرآة عصره" وذلك في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون عام 1993، لقب أفضل مقدم برامج عربي عن برنامج "أسمهان" ضمن استفتاء تلفزيون دبي عام 1996، وفي العام نفسه نال الميدالية الذهبية لأفضل تقديم تلفزيوني عن برنامج "نهج الأغاني" ضمن مهرجان القاهرة التلفزيوني، وتلقى تكريماً في مؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة عام 1999 كأول موسيقي غير مصري يُكرَّم في ذاك المؤتمر، وتكريم آخر في مؤتمر الموسيقى العربية عام 2008، وجائزة نالبا الدولية في الموسيقى عام 2016.
بعد جمالي
قال سعد الله في أحد حواراته إن: "العلم والموسيقى عندي ليسا عالمين متوازيين، بل هما مكملان لبعضهما. المنهج العلمي الذي تعلمته في الهندسة ساعدني على فهم وتحليل الموسيقى بعمق، وحسي الموسيقي أضفى على عملي الهندسي بُعداً جمالياً إضافياً".
ولعل هذا ما جعله لا يكتفي بإنجازاته الموسيقية، بل أرفقها بمساهمات هندسية، منها على سبيل المثال تأسيسه في عام 1985 لوحدة المساحة والجيوديزيا الدقيقة في جامعة دمشق، وهي وحدة متخصصة في الخرائط السياحية، وبعدها أصبح رئيساً لقسم الهندسة الطوبوغرافية في الجامعة ذاتها عام 1995، ومساهمته في تأسيس "الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية" التي كان عضواً في مجلس إدارتها حتى عام 2001.
كما أنه نشر العديد من المؤلفات العلمية والهندسية، أبرزها كتابا "البرمجة ومعالجة المعلومات" و"الجيوديزيا" الصادران عن كلية الهندسة المدنية بجامعة دمشق، و"أطلس سورية السياحي" بثلاث لغات عربية، فرنسية، وإنجليزية وذلك عام 1989، و"أطلس دمشق السياحي" عام 1992، إلى جانب عدة كتيبات تعرِّف بالمواقع السياحية والأثرية في سوريا.
معرفته وثقافته الواسعة كانا سبيلاً لاختياره وزيراً للسياحة في سوريا بين عامي 2001 و2011 عن فئة المستقلين، وخلال تلك السنوات استطاع أن يزيد عدد السياح من مليون ونصف سائح إلى 8.6 مليون بمعدل نمو وسطي قارب 15%.
سعد الله آغا القلعة الذي غادر دنيانا أمس الإثنين في كاليفورنيا ظل النجاح ملازماً له في جميع مفاصل حياته، ولعل ذلك يعود إلى رصانته في البحث، وجديته في التعاطي مع المسؤوليات الملقاة على عاتقه، إضافة إلى منهجيته الواضحة في تحقيق أهدافه، وكل ذلك من دون أن يتخلى عن حيويته ودماثة روحه في كل ما فعل، ما جعله بحق مهندس الموسيقى العربية ووزير سياحتها الذي خسرته سوريا ومعها العالم العربي.