"بوليتيكو": المملكة المتحدة توجّه المزيد من الأموال نحو تكنولوجيا التجسس
صندوق الاستثمار الاستراتيجي للأمن القومي البريطاني مرتبط بجهاز الاستخبارات الخارجية "MI5"، وجهاز الاستخبارات الخارجية "MI6"، وجهاز الاتصالات الحكومية "GCHQ"، والآن يحصل على أموال إضافية.
-
مقرّ جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني (MI6) في لندن
صحيفة "بوليتيكو" الأميركية تنشر مقالاً يتناول مسألة خروج "صندوق الاستثمار الاستراتيجي للأمن القومي" (NSSIF) البريطاني من العمل السري إلى مزيدٍ من الظهور العلني ودوره المتنامي في تمويل التقنيات الاحتياطية للقطاعين الأمني والدفاعي.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
في أفلام جيمس بوند، كان جواسيس بريطانيا مزوّدين بأقلام تنفجر وسجائر مسمومة. أما اليوم، فمن المرجّح أن يعمل الجواسيس باستخدام طائرات من دون طيار مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وشبكات اتصالات مشفّرة، وأجهزة استشعار قادرة على تجنّب التشويش على الإشارات.
وقد يتمّ تمويلهم من قبل "صندوق الاستثمار الاستراتيجي للأمن القومي" (NSSIF)، وهو صندوق سري له صلات بوكالات الاستخبارات البريطانية مثل "GCHQ" و"MI5" و"MI6"، ووكالة جيمس بوند الشهيرة. وبعد سنوات من العمل في الظل، تستعد الحكومة البريطانية لإعطاء هذا الصندوق دوراً أكثر بروزاً، إلى جانب زيادة تمويلية قدرها 330 مليون جنيه إسترليني على مدى أربع سنوات.
وقالت الحكومة في استراتيجيتها الصناعية المنشورة حديثاً إنّ هذه الأموال ستُستخدم "لتعزيز قدرته على الاستثمار في الشركات التي تلبّي متطلبات أمننا القومي والدفاعي"، في إطار تركيز متجدد على "التقاطع المتزايد الأهمية بين التقنيات مزدوجة الاستخدام والأمن القومي والمرونة في ظلّ تصاعد التعاون الدولي من أجل التفوّق التكنولوجي".
وفي المقابل، بدأ صندوق "NSSIF" في الظهور العلني بشكل أكبر، من خلال توظيف مسؤول اتصال والمشاركة في مزيد من الفعّاليات العامّة.
ويقول عدة أشخاص مطّلعين على عمل الصندوق، تحدّثوا إلى "بوليتيكو" بشرط عدم الكشف عن هوياتهم بسبب حساسية الصندوق، إنّ خروجه من الظل في وقت يتسم بتوترات جيوسياسية وتسارع في التغيير التكنولوجي ليس مصادفة.
وأشاروا إلى أنّ هذا لا يعكس فقط توافقاً متزايداً على أنّ الحروب المستقبلية ستتشكّل من خلال تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، حيث تستخلص الحكومات الدروس من حرب أوكرانيا، بل لأنّ التفوّق العسكري والنمو الاقتصادي يعتمدان بشكل متزايد على تبنّي الابتكار المتقدّم.
وعلى نحو أكثر تقليدية، قالوا إنّ مزيج صندوق "NSSIF" من المراهنات التجارية الاستراتيجية وكسر الحواجز أمام الشركات الناشئة يوفّر نموذجاً لمعالجة التحدّي الدائم الذي تواجهه المملكة المتحدة في تحويل مديري شركاتها الناشئة الواعدة إلى قادة راسخين. والسؤال الآن هو ما إذا كانت مهمته ستنجو من الانتقال إلى دائرة الضوء.
ما هو صندوق "NSSIF"؟
عندما تأسس الصندوق في عام 2018، كان العالم "يدخل فترة من المنافسة الاستراتيجية وتسود فكرة أنّ الغرب والديمقراطية يخسران التفوّق التكنولوجي" لصالح خصوم استبداديين، بحسب ما قاله شريك الاستثمار الأول في "NSSIF"، إدموند فيليبس، في فعّالية أقيمت هذا الشهر في لندن.
وكان الصندوق من بنات أفكار أنتوني فينكلشتاين، خبير الأمن السيبراني والمستشار العلمي الرئيسي السابق للأمن القومي في الحكومة. وقال فينكلشتاين لـ "بوليتيكو": "كنت مهتماً للغاية بإيجاد طرق أفضل يمكن من خلالها لمجتمع الأمن القومي في المملكة المتحدة أن يبتكر بشكل أسرع وأكثر فعّالية.. وأيضاً استخدام ذلك كرافعة للنمو في المملكة المتحدة"، موضحاً أنّ تفكيره تأثّر بصندوق "In-Q-Tel" الأميركي، وهو صندوق استثماري يهدف إلى خلق خط أنابيب تكنولوجي جديد لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA).
وبعد محاولة فاشلة لإنشاء صندوق مشترك مع الولايات المتحدة وأستراليا، تمّ تأسيس "NSSIF" في عهد المستشار المحافظ فيليب هاموند كمشروع مشترك بين الحكومة وبنك الأعمال البريطاني.
ويشرح دليل توجيهي صدر في عام 2020 أنّ "NSSIF يستثمر تجارياً في شركات التكنولوجيا المتقدّمة جنباً إلى جنب مع المستثمرين المشاركين، ويدعم الاستثمار في الأسهم طويلة الأجل، ويستفيد من الخبرات التكنولوجية الفريدة للحكومة".
وتشمل أهدافه تسريع تبنّي قدرات المملكة المتحدة المستقبلية في الأمن القومي والدفاع وتطوير النظام البيئي للتكنولوجيا مزدوجة الاستخدام في المملكة المتحدة.
وبالإضافة إلى توجيه بعض الأموال إلى صناديق رأس المال الاستثماري الأخرى، يأخذ "NSSIF" حصصاً في الشركات الناشئة التي تُعتبر أساسية للاحتياجات السيادية للمملكة المتحدة. كما يدير "برامج عمل" لنمذجة وتجربة التكنولوجيا بسرعة داخل الحكومة.
وأوضح أحد المتخصصين في التكنولوجيا، الذي قدّم استشارات سابقاً لـ"NSSIF": "لقد مكّنا أولئك الذين لديهم فهم للإمكانات من أن يمتلكوا حصة في هذه الشركات". وتابع: "عندها يمكن لوزارة الدفاع أن تقول: على الأقل أعلم أن المملكة المتحدة ستكون لديها القدرة على تصنيع "x"، لأنّ الاستثمار الرأسمالي يتمّ هنا والمهارات تتطوّر هنا".
في أحد الأمثلة، أعلنت شركة الطائرات من دون طيار البرتغالية "Tekever" عن استثمار قدره 400 مليون جنيه إسترليني في المملكة المتحدة في أيار/مايو. قبل ستة أشهر من ذلك، كان صندوق "NSSIF" من بين المشاركين في جولة تمويل بقيمة 70 مليون يورو للشركة.
وحتى عام 2023، كان "NSSIF" قد استثمر 220 مليون جنيه إسترليني في صناديق وشركات ناشئة تطوّر تقنيات مزدوجة الاستخدام، من رقائق مدعومة بالكم إلى شبكات أقمار صناعية لمراقبة الأرض. ولا توجد أرقام أكثر حداثة متاحة، ورفض "NSSIF" تقديم رقم عندما طلبت منه بوليتيكو ذلك.
العديد من استثماراته تظل سرية، لكن فينكلشتاين قال: "في الغالب، التكنولوجيا ليست سرية. السرّ هو: مع من تستخدمها".
كيف يعمل؟
يتمّ جذب الشركات الناشئة الواعدة إلى انتباه "NSSIF" من خلال شبكة من رؤوس الأموال الاستثمارية المعتمدة والمرخّصة أمنياً، والتي تبحث عن التكنولوجيا التي قد تحلّ يوماً ما مشكلة للأجهزة الأمنية والدفاعية في المملكة المتحدة. ويعرض الموقع الإلكتروني المحدود للصندوق 13 صندوقاً كشركاء استثمار، يشارك معها "NSSIF" بانتظام في الاستثمارات.
ويقدّم مسؤولو "NSSIF" أيضاً رؤى للمسؤولين الأمنيين حول التطوّرات البارزة في السوق، بمساعدة الروابط الوثيقة في التوظيف. تُظهر صفحات |LinkedIn| أنّ الموظفين غالباً ما يتمّ تعيينهم من وزارة الخارجية أو بعد فترات عمل في قنصليات بريطانية بالخارج.
وقد خلف فينكلشتاين في منصب المستشار العلمي للأمن القومي أليكس فان سوميرن، الشريك الإداري في "Amadeus Capital Partners"، أحد أوائل صناديق رأس المال الاستثماري التي تعاونت مع "NSSIF"، والتي تستثمر بانتظام في الشركات الناشئة.
وقال فينكلشتاين إنّ الأهم من قدرة "NSSIF" على الاستثمار هي قدرته على ربط الشركات بالعملاء داخل الحكومة. وأضاف: "أحد أكبر إسهامات الحكومة في دفع الابتكار هو أن تكون مستخدماً مبكراً".
تساعد العلاقة مع "NSSIF" الشركات الناشئة على فهم احتياجات مجتمع الاستخبارات والدفاع، كما تسمح له بتشكيل التكنولوجيا في مرحلة مبكرة.
وأوضحت آن غلوفر، الرئيسة التنفيذية لـ "Amadeus Capital": "يمكنك أن تجلس في وضع تجريدي وتحاول تخمين ما يريده العميل، لكن عليك فعلياً إجراء محادثة معه والدخول في التفاصيل".
ووفقاً لديفيد سولي، دبلوماسي بريطاني سابق ومؤسس شركة الذكاء الاصطناعي "Advai" التي تلقّت استثماراً من "NSSIF"، فإنّ دعم الصندوق ضروري لمساعدة الشركات الناشئة في التغلّب على ما يسمّى بـ"وادي الموت"، حين تنهار الشركات الناشئة بسبب التكاليف الأولية المرتفعة.
وأشار ستيف بريرلي، الرئيس التنفيذي لشركة الحوسبة الكمّية "Riverlane"، والتي تلقّت أيضاً تمويلاً من "NSSIF"، إلى أنّ القدرة على تجاوز عملية المشتريات المعقّدة في بريطانيا لا تُقدّر بثمن للشركات الناشئة العاملة في مجالات حسّاسة.
فالعقود الحكومية لا توفّر فقط الإيرادات، بل تمنح أيضاً مصداقية لدى المستثمرين الخاصين.
وقال إد وود، نائب رئيس شركة الكمّيات الناشئة "Nu Quantum"، وهي أيضاً من مستفيدي "NSSIF"، إنّ دعم الصندوق كان "تحويلياً" وأتاح للشركة الاستثمار.
وأضاف: "خلال اجتماعنا الأول مع NSSIF في كانون الثاني/يناير 2023، قيل لنا إن عملية الاستثمار قد تكون خالية من التعقيدات.. كنا متشكّكين، لكن سرعان ما أثبتت السرعة والوضوح والطاقة التي أظهرها ممثل NSSIF خلاف ذلك".
الخروج من الظل
يأتي التوسّع في دور "NSSIF" في وقت تسعى فيه المملكة المتحدة وحلفاؤها في الناتو إلى إيصال التكنولوجيا المتطورة إلى الخطوط الأمامية بشكل أسرع، في أعقاب حرب أوكرانيا. ففي قمة في حزيران/يونيو، وافق قادة الناتو على "تسريع كبير في وتيرة تبنّي التحالف للمنتجات التكنولوجية الجديدة، بحيث لا تتجاوز 24 شهراً في العموم".
كما أدت التوترات الجيوسياسية، بما في ذلك تسليح الصين لسلاسل التوريد وتهديدات ترامب التجارية، إلى تسليط الضوء على أهمية السيادة وضمان الوصول إلى التقنيات الحيوية.
وهذا ما أجبر مسؤولي الأمن القومي على "رحلة ثقافية" للاعتراف بأنّ الحفاظ على التفوّق التكنولوجي يتطلّب بناء روابط فعّالة مع القطاع الخاص، وفقاً لفينكلشتاين.
في الوقت نفسه، أصبحت شركات التكنولوجيا أكثر انفتاحاً للعمل مع وكالات الدفاع والاستخبارات وسط التوترات الجيوسياسية المتصاعدة وزيادة تاريخية في الإنفاق الدفاعي.
وقال فيليبس من "NSSIF": "قبل أربع أو خمس سنوات، لم يكن هناك عدد كبير من روّاد الأعمال يرغبون في التعامل مع هذا المجال. كانوا يريدون العمل على تغيّر المناخ، الصحة، وأشياء رائعة أخرى... هناك الآن مجموعة من روّاد الأعمال الذين يريدون استهداف هذا القطاع".
وستكون لهذه العلاقة أهمية أساسية لتلبية دعوة رئيس الوزراء كير ستارمر الأخيرة بأن تقود المملكة المتحدة "الابتكار بوتيرة زمن الحرب"، واعداً بتخصيص المزيد من ميزانية الدفاع المتزايدة في البلاد للتقنيات المتقدّمة، عقب مراجعة استراتيجية كبرى للدفاع.
وقالت المراجعة إن ذلك سيتطلّب "ابتكاراً ومشتريات يتمّ قياسها بالأشهر، وليس السنوات".
تقوم وزارة الدفاع بإجراء إصلاحات كبرى في كيفية شراء التكنولوجيا، بما في ذلك من خلال إنشاء وحدة مخصصة للابتكار الدفاعي، في حين قالت وزارة العلوم والابتكار والتكنولوجيا الشهر الماضي إنها ستعمل بشكل أوثق مع وزارة الدفاع "لتسريع تطوير القدرات المبتكرة من أجل المهام ودعم قطاع تكنولوجيا دفاع مزدهر ورائد عالمياً".
وفي خطة طويلة الأجل نُشرت الشهر الماضي، قالت الوزارة إن دعم التكنولوجيا مزدوجة الاستخدام من خلال تحسين استخدام المشتريات وتخصيص نسبة أكبر من تمويل البحث والتطوير لن يعزز فقط أمن المملكة المتحدة، بل سيخدم قطاع التكنولوجيا الأوسع أيضاً.
وفي الأسبوع الماضي، طلبت الوزارة من المعهد الوطني البريطاني للذكاء الاصطناعي إعادة تركيز عمله على الأمن والدفاع، بعد إعادة تسمية معهد السلامة للذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة إلى "معهد أمن الذكاء الاصطناعي" في وقت سابق من هذا العام.
حدود النجاح
في الولايات المتحدة، تمّ الاستحواذ على شركات ناشئة مدعومة من "In-Q-Tel" من قبل شركات مثل "Google" و"Amazon"، أو أصبحت شركات عملاقة مثل "Palantir".
أما في المملكة المتحدة، فقد شكّك البعض في البداية في قدرة "NSSIF" على تحقيق نجاح مماثل، بحسب ما قاله أحد المستثمرين. وأضاف فينكلشتاين: "انتقلت من كوني مجنوناً إلى أن أصبحت بعيد النظر". وتابع: "بكلّ تواضع، لقد دعمت بعض الشركات الناشئة الناجحة".
ومع توسّع "NSSIF" في عمله، يمكن أن يتوقّع تدقيقاً أكبر من قبل الوزراء والجمهور لسجله. لكنّ وزارة الابتكار قالت في بيان صحفي مؤخراً إن الصندوق دعم عدداً من الشركات الناشئة التي وصلت إلى مكانة "يونيكورن" بقيمة مليار دولار، مما جذب استثمارات خاصة وخلق وظائف.
وقال بريرلي من "Riverlane": "الشيء الرئيسي الذي يحتاجه NSSIF هو أن يكون أكبر"، مضيفاً أنّ احتمالية حصوله على المزيد من الأموال يمكن أن تكون "تحوّلية حقاً" وتسمح له بالمشاركة في جولات تمويل أكبر وفي مراحل لاحقة.
وقد تحدّث الوزراء علناً عن تكرار نموذج "NSSIF" لدعم مهام حكومية أخرى، مثل الصحة أو صافي الانبعاثات الصفرية.
لكنّ خمسة أشخاص على دراية بـ"NSSIF" قالوا إنه على الرغم من نجاحه، فإنه ليس حلاً سحرياً للمشكلات العميقة التي تواجه الشركات الناشئة في المملكة المتحدة.
وعلى الرغم من أنّ المزيد من الأموال والاهتمام موضع ترحيب، إلا أن "NSSIF" يجب أن يضمن حفاظه على نهجه التجاري وتركيزه الضيّق على التكنولوجيا المتقدّمة، على حدّ قولهم.
في حزيران/يونيو، قبلت الشركة الناشئة "Oxford Ionics" عرض استحواذ بقيمة 1.1 مليار دولار من الشركة الأميركية "IonQ"، وهو ما اعتبره البعض مثالاً آخر على انتقال شركات التكنولوجيا البريطانية الواعدة إلى الخارج. (تقول Oxford Ionics إنها تخطّط للحفاظ على قاعدتها البحثية في المملكة المتحدة).
لكن من المتوقّع أن تدر الصفقة ملايين الجنيهات من الأرباح على خزينة الدولة، حيث يمتلك "NSSIF" حصة في الشركة، التي تطوّر أنظمة كمومية.
وقال سولي من Advai إن هذه هي نوعية الصفقات التجارية التي ينبغي لـ"NSSIF" أن يعقدها، مع إعادة استثمار العوائد لدعم الجيل القادم من المؤسسين.
وأوضح أن ما يجعل "NSSIF" فريداً هو تركيزه التجاري و"مصلحة الحكومة الذاتية البحتة"، مشيراً إلى أن هذا شيء يجب على المملكة المتحدة أن تصبح أكثر ارتياحاً له مع نمو عمل الصندوق. وقال: "لسنا جيدين في مصلحتنا الذاتية مثل الولايات المتحدة".
نقله إلى العربية: الميادين نت.