"ذا ناشونال إنترست": صعود دول الخليج كقوى متوسّطة
الحرب الإسرائيلية الأخيرة على إيران قد تؤدي إلى تحفيز دور أوسع لدول الخليج في الحفاظ على الأمن الإقليمي.
-
"ذا ناشونال إنترست": صعود دول الخليج كقوى متوسّطة
مجلة "ذا ناشونال إنترست" الأميركية تنشر مقالاً يتناول تأثير الحرب الإسرائيلية على إيران وعلى دول مجلس التعاون الخليجي، ويحلّل كيف تحاول هذه الدول، خاصة السعودية والإمارات، الانتقال من مجرد إدارة الأزمات إلى بناء دور استراتيجي فاعل في أمن المنطقة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
لقد أدّت المواجهة العسكريَّة بين "إسرائيل" وإيران، بدول مجلس التّعاون الخليجيّ إلى قلق حادّ من أخطار عدم الاستقرار الإقليميّ، التي تثير أسئلة عميقة عن إمكانية السعودية والإمارات خاصة اللتان تعدان من بين "الدّول الوسطى" النّاشئة إلى جانب جيرانهما الأصغر حجماً بمرونة سياسية طموحة للعب دور أكثر تفاعلية من "دبلوماسية الأزمات"، إلى مشاركة استراتيجية في تعزيز الأمن وتشكيل مستقبل المنطقة.
كذلك دول مثل قطر وعُمان رغم أنّها ليست قوى متوسّطة بالمعنى التّقليدي، لكنّ لديها حضوراً حيويّاً من خلال دبلوماسية الوساطة في النّزاعات والصّراعات. لكنّ قدرة دول الخليج عموماً على توسيع الدّور والمكانة تقيّدها ظروف مألوفة في استمرار الاعتماد على المظلّة الأمنية الأميركية، حتّى وإن كانت مشكوكاً بموثوقيتها، في ظلّ ضعف الثّقة العميق بإيران، وعدم الارتياح إزاء الحزم العسكري الإسرائيلي.
مع ذلك، قد تتيح اللّحظة الرّاهنة فرصة نادرة ليس لتغيير النّظام الإقليمي بين عشيّة وضحاها، بل لاتّخاذ خطوات تدريجية تقلّل المخاطر، وتفتح قنوات اتّصال، وتبدأ في تشكيل بيئة أمنية أكثر مرونة. وينعكس هذا الطّموح بشكل متزايد ليس فقط في الخطابات، بل في التحوّلات الاقتصادية والدبلوماسية الحقيقية الجارية.
السعودية والإمارات القوّة الاقتصادية والطموح السياسي
في السنوات الأخيرة، تجاوزت دول الخليج، وخاصّة السعودية والإمارات دورهما التقليدي كمورّدة للطاقة، لتصبح لاعباً اقتصادياً بارزاً على الساحة العالمية مستفيدة من ثرواتها السيادية، وموقعها المركزي، وبيئاتها المواتية للأعمال، لترسيخ مكانتها كمراكز للتمويل والخدمات اللوجستية والتقنيات الناشئة.
وقد أصبحت شركة مبادلة للاستثمار في أبوظبي وصندوق الاستثمارات العامّة السعودي من بين أكثر المستثمرين السياديين نشاطاً في العالم، وهما يموّلان مشاريع في مجالات الطاقة المتجدّدة والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية والمركبات الكهربائية. كما تجهد الرياض لاستضافة فعاليات رياضية عالمية، وترسيخ مكانتها كبوّابة مالية بين الشرق والغرب، في حملة ليست لإعادة صياغة هويتها التجارية فحسب، بل لعكس طموح أعمق في المشاركة بتشكيل الاتجاهات الاقتصادية العالمية.
وقد صاحب هذا النفوذ الاقتصادي المتنامي حراك دبلوماسي أكثر ثقة واستقلالية. ويعود الطموح السياسي المتزايد لدول الخليج جزئياً إلى تراجع في موثوقية المظلة الأمنية الأميركية، فضلاً عن حالة عدم اليقين الإقليمي الناجمة عن المواجهات العسكرية الإيرانية الإسرائيلية، حيث أبدت السعودية والإمارات على وجه الخصوص، استعداداً للتعاون مع شركاء دوليين جدد وإعادة تقييم التحالفات القائمة.
لقد شكّل التقارب السعودي -الإيراني الذي توسطت فيه الصين عام 2023 نقطة تحوّل لم تشر فقط إلى انفتاح على الدبلوماسية مع الخصوم، بل إلى استعداد لتنويع الشراكات الاستراتيجية خارج نطاق الغرب. وتعكس أدوار الوساطة الخليجية النشطة في السودان، ومفاوضات الحبوب الأوكرانية، والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، استعداداً جديداً للرياض للعمل كفاعل دبلوماسي إقليمي، يهدف إلى صياغة النتائج بدلاً من مجرد التفاعل معها.
لذلك، ترسّخ دول الخليج مكانتها كجهات فاعلة رئيسية في البنية التحتية الرقمية العالمية المتطورة. وقد استثمرت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بكثافة في تطوير مسارات الكابلات البحرية، ومراكز البيانات، وشراكات الحوسبة السحابية مع شركات التكنولوجيا العالمية. وفي الوقت نفسه، تتزايد مشاركتها في نقاشات حول حوكمة الذكاء الاصطناعي، ومعايير الأمن السيبراني، وفحص الاستثمارات التكنولوجية، ما يعكس الترابط العميق بين الحكمة الاقتصادية والطموح الاستراتيجي. وقد بدأ هذا الطموح بالتزايد تحفزه الإحباطات من الضمانات الأمنية الخارجية التي تفاقمت بسبب إعادة ترتيبات العلاقات العالمية، في إعداد الخطط لتعامل دول الخليج مع الأزمات، من ضمنها التصعيد الأخير بين "إسرائيل" وإيران.
الضعف الاستراتيجي لدول الخليج والمخاطر العالمية
تجعل الجغرافيا والبنية الاقتصادية دول الخليج عرضة للخطر الشديد تجاه أيّ تصعيد بين "إسرائيل" وإيران. فمضيق هرمز، الذي يمرّ عبره ما يقرب من 30% من نفط العالم، يعدّ ممرّاً حيوياً لأمنه ولاستقرار الاقتصاد العالمي. وأيّ مواجهة عسكرية في هذه المنطقة لا تهدّد تدفق الطاقة فحسب، بل تهدد أيضاً سلامة الأسواق العالمية على نطاق أوسع.
ولقد كان تأثير التصعيد الأخير بين "تل أبيب" وطهران فورياً ومتعدد الجوانب. فقد شهدت شركات الطيران الكبرى، مثل طيران الإمارات والخطوط الجوية القطرية، إلغاء رحلاتها أو إعادة توجيهها. وحتى قبل الضربات الأميركية، كان الصراع المتصاعد بين الطرفين قد أدى بالفعل إلى ارتفاع أسعار الشحن البحري على خط شنغهاي- جبل علي، الذي ينتهي عند أكبر موانئ الخليج العربي.
كما أفادت مصادر الوكالات أنه على الرغم من عدم وقوع هجمات مباشرة في مضيق هرمز، تصاعدت التوترات بعد اصطدام ناقلتي نفط واشتعال النيران فيهما. وقد تزامن الحادث مع تصاعد التداخل الإلكتروني الذي أثّر على أنظمة الملاحة البحرية في الخليج، ما أدّى إلى تعطيل إرسال نظام التعريف التلقائي وتعقيد العمليات البحرية. كما ارتفع سعر خام برنت لكنّه استقرّ بعد وقف إطلاق النار، ما يبرز مدى سرعة تأثير التوتّرات في الخليج على تقلّبات الأسعار.
وحدة دول الخليج المتصدّعة
لقد ردّت دول مجلس التعاون الخليجي بمزيج من الإدانة والحسابات والدبلوماسية الحذرة، حيث أصدر مجلس التعاون إدانة موحّدة للهجوم الإسرائيلي على إيران، ووصفوه بانتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وتهديد خطير للاستقرار الإقليمي.
وبالرغم من أن الإعلان يعكس موقفاً جماعياً وقلقاً مشتركاً إزاء امتداد الصراع، وتهديد البنية التحتية للطاقة، والتصعيد الإقليمي الأوسع، فإنه يخفي تبايناً استراتيجياً. ولقد استضافت عُمان، التي لطالما كانت وسيطاً موثوقاً بين طهران وواشنطن 5 جولات من المحادثات النووية الأميركية- الإيرانية، إلى حين أنّ عطل استمرارها الهجوم الإسرائيلي ما دفع مسقط إلى إصدار بيان لاذع على غير العادة، مدينة الهجوم باعتباره إهانة متهوّرة لجهود الوساطة التي تبذلها، وضربة مزعزعة للدبلوماسية الإقليمية.
وقطر التي تحملت التداعيات المباشرة لضربة إيران لقاعدة العديد الجوية، اضطلعت بدور مزدوج كانت هدفاً ووسيطاً، لكنّها سارعت إلى عرض التوسّطِ لوقف إطلاق النار بين طهران و"تلّ أبيب"، معزّزة بذلك مكانتها كوسيط دبلوماسي، ومترفّعة عن الصراع.
كما أشار ردّ السعودية إلى تحوّل في خطابها، ففي اتّصال هاتفي مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، دعا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى التضامن الإسلامي، وصوّر العدوان الإسرائيلي على أنّه التهديد الأكبر لاستقرار المنطقة، وبالتالي لنجاح رؤية 2030. ومع ذلك ربّما كان هذا الموقف تكتيكياً أكثر منه تحوّلاً.
في الواقع ثمّة دلالة ضمنية محتملة مفادها أنّ بعض قادة الخليج، مع إدانتهم العلنية للضربات، رحّبوا سرّاً بتدهور البنية التحتية النووية الإيرانية. وبالنسبة للرياض وأبو ظبي، ربّما خدم الهجوم مصلحة استراتيجية راسخة في كبح طموحات إيران النووية من دون الحاجة إلى تأييد أو مشاركة علنية.
وقد دعا المستشار الدبلوماسي الإماراتي أنور قرقاش، إيران إلى "استعادة الثقة مع جيرانها الخليجيين"، معرباً بشكل خفي عن شكوكه في ديمومة الوفاق. كما أشار إلى أنّ مسؤولية استقرار العلاقات لا تزال تقع على عاتق طهران. في غضون ذلك، أصدرت البحرين والكويت، اللتان تستضيفان قواعد عسكرية أميركية رئيسية، ردوداً أكثر تحفّظاً، ركّزت على التخطيط للطوارئ وتخفيف حدّة النزاعات، مع تجنب الانحياز العلني لأيّ من الجانبين.
ويسلّط هذا التباين في اللهجة والتركيز الضوء على التوتر الأوسع نطاقاً داخل مجلس التعاون الخليجي، حيث تتوق الدول الأعضاء إلى تأكيد حضورها الإقليمي، ولكنّها تعتمد على الضمانات الأمنية الخارجية وتنقسم في وجهات نظرها حول النيات الإيرانية والأساليب الإسرائيلية.
من إدارة الأزمات إلى بناء القدرة
ما يزال وقف إطلاق النار صامداً بين "إسرائيل" وإيران، لكن المنطقة في حالة تأهب. وقد يؤدي انهيار الاتفاق إلى اندلاع أعمال عدائية جديدة تؤدي إلى عواقب اقتصادية وإنسانية وخيمة. ولقد دفعت الضربات الإسرائيلية والأميركية على المواقع النووية الإيرانية دول مجلس التعاون الخليجي إلى توجيه تحذيرات عاجلة للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبينما رحّبت العديد من دول الخليج سابقاً بانهيار خطة العمل الشاملة المشتركة، فإنّها تدعم الآن، ببراغماتية استئناف المفاوضات باعتبارها الخيار الأقلّ سوءاً. ومع ذلك، لا يزال انعدام الثقة العميق قائماً، ولا يزال خطر تجدّد الصراع كبيراً.
هكذا، تجد دول الخليج نفسها تبحر في بيئة إقليمية متقلّبة، كشف فيها انسحاب الولايات المتحدة عن محدودية الاعتماد على الضمانات الأمنية الخارجية، وتحديات إدارة دفاعها الذاتي. ورغم أنّها لا تزال مقيدة بالقدرة والتبعية وتعقيد التنافسات الإقليمية، فإنّ هذا لا يجعلها عاجزة. وعلى العكس قد تحفّز الأزمة الحالية تفكيراً عملياً بعيد المدى. حتّى إنّ الخطوات المتواضعة قد تُمهّد الطريق لترتيبات أمنية أكثر استدامة.
ويعدّ إيجاد آلية إقليمية للإنذار المبكر والاستجابة للحوادث إحدى هذه الخطوات. يبنى هذا الإطار على بروتوكولات مشتركة لتبادل البيانات آنياً، ويمكن أن يشمل دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، وربما "إسرائيل"، بدعم فني من الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة الصحة العالمية ووكالات الأمم المتحدة ذات الصلة. ويمكن أن يشمل نطاقه الحوادث الإشعاعية والاختراقات السيبرانية، وحالات الطوارئ الصحية العامة. ورغم تواضع طموح هذه الآليات، إلا أنها قادرة على إحداث تأثير استقراري عميق.
وتتيح المبادرة الخليجية للسلامة النووية والشفافية فرصة أخرى. ومع توسّع برامج الطاقة النووية المدنية في الإمارات والسعودية، واستمرار الأنشطة النووية الإيرانية، تتزايد الحاجة إلى بروتوكولات سلامة مُصمّمة إقليمياً. بتوجيه من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث يمكن لمجلس التعاون الخليجي أن يُسهم في إنشاء منصةٍ لتدريبات السلامة المشتركة، وتنسيق التخطيط للطوارئ. وهذا من شأنه أن يعزّز معايير منع الانتشار، ويهيئ قنواتٍ محايدة للحوار التقني، حتّى بين الخصوم السياسيين.
هذه المبادرات العملية غير السياسية لن تحلّ أعمق التنافسات في المنطقة. مع ذلك، يمكنها التخفيف من مخاطر سوء التقدير، وفتح قنوات التواصل، وبناء الأساس تدريجياً لترتيبات أمنية أكثر ديمومة، بينما ستقدّم صناديق الثروة السيادية الخليجية مساعدات التنمية وأدوات حيوية فعّالة، وقد تعكس مبادرات مثل "التحالف العالمي" لتطبيق "حل الدولتين" في فلسطين.
رغم أنّ المناخ السياسي الراهن قد لا يسمح بتطبيق مثل هذه الآليات، إلّا أنّ طرحها الآن قد يسهم في تهدئة التوتر. فالمقترحات القائمة على المخاطر المشتركة والتعاون التقني تتيح فرصاً نادرة وغير مسيسة لبناء عادات التواصل والثقة.
ترجمة دبلوماسية الوساطة إلى مبادرات
لقد أبرز الصراع بين "إسرائيل" وإيران هشاشة دول الخليج في مواجهة عدم الاستقرار الإقليمي. لكنه كشف أيضاً عن المساحة الدبلوماسية المتاحة، حيث بدأت السعودية والإمارات في العمل ليس فقط كفاعلين في مواجهة عدم الاستقرار، بل كجهات وساطة داعمة محتملة.
في الوقت نفسه، أظهرت دول خليجية أخرى، مثل قطر وعمان، وإن كانت أصغر حجماً ونفوذاً، مرونة لا سيّما في مجال الوساطة والدبلوماسية السرية. وتشكل هذه الجهات الفاعلة، مجتمعة، كتلة خليجية متعددة الأوجه، وأكثر استعداداً للتعامل مع التحديات الإقليمية المعقدة.
ومع ذلك، فإن الطموح وحده لا يكفي. فالاختبار الآن هو ما إذا كانت دول الخليج قادرة على ترجمة نفوذها إلى مبادرات، وما إذا كانت قادرة على ابتكار وتنفيذ تدابير عملية، ربّما تعزّز الأمن، وتعكس تنامي نفوذها حتّى مع بقائها مقيدة بضمانات أمنية أميركية.
إنّ التعاون الفعال، والحوافز الاقتصادية، والدبلوماسية المستدامة تشكل مساراً للمضي قدماً ليسّ لحل جميع النزاعات، بل لبناء القدرة على الصمود والمساهمة في نظام إقليمي أكثر استقراراً. قد يمثّل هذا المنعطف تحوّلاً كبيراً للسعودية والإمارات العربية كقوّتين متوسّطتين ناشئتين، بالإضافة إلى انفتاح دبلوماسي أوسع للخليج. ومع ذلك، فبدون تنسيق مستدام، ووضوح استراتيجي، وإرادة لتحمّل مخاطر محسوبة، قد تتلاشى هذه الإمكانية بسهولة.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.