الانتخابات التشريعية والإقليمية في فنزويلا: اقتراع في قلب عاصفة جيوسياسية
حملت الانتخابات طابعاً رمزياً خاصاً إذ شهد لأول مرة في التاريخ ولادة البنية التمثيلية الرسمية في إقليم غويانا إيسيكيبا المتنازع عليه مع دولة غويانا المتاخمة منذ أكثر من قرن.
-
شهدت فنزويلا انتخابات يوم الـ25 من أيار/مايو 2025
وسط أجواء مشحونة سياسياً وأمنياً، توجّه الناخبون في فنزويلا يوم الخامس والعشرين من مايو الجاري إلى صناديق الاقتراع لانتخاب 285 نائباً للجمعية الوطنية و260 نائباً في المجالس التشريعية للولايات إلى جانب حكّام الولايات الأربعة وعشرون، ومن بينهم حاكم جديد لإقليم غويانا إيسيكيبا الذي جرت فيه لأول مرة انتخابات رسمية بعد تحويله إلى ولاية دستورية وفق نتائج الاستفتاء الشعبي الذي نُظم في ديسمبر 2023.
وبحسب الأرقام الرسمية التي أعلنت عنها "اللجنة الوطنية للانتخابات"، بلغت نسبة المشاركة 43% من أصل ما يزيد على 21 مليون فنزويلي لهم حق الاقتراع، في استحقاق وُصف بأنه "الأوسع" من حيث عدد المناصب المتنافس عليها.
أقيمت الانتخابات تحت إشراف أكثر من 400 مراقب دولي من منظمات وأحزاب من أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وبلغ عدد المرشحين أكثر من 6600 مرشّح. وبحسب اللجنة الوطنية للانتخابات، جرت العملية في أجواء هادئة ومنظمة، رغم التهديدات التي سبقت يوم الاقتراع، ورغم الأمطار الغزيرة التي شهدتها بعض الولايات. حسم تحالف "القطب الوطني العظيم"، الذي يضمّ "الحزب الاشتراكي الموحّد" الحاكم، النتائج بفوز ساحق، حيث حصل على 82.6% من أصوات القوائم الوطنية وانتزع 23 من أصل 24 ولاية، في حين حَصَدَت المعارضة منصب حاكم ولاية كوخيديس وحسب.
وقد شكّلت هذه النتيجة، وفق الخطاب الرسمي، دليلاً على "تجذّر المشروع البوليفاري في أوساط الشعب"، فيما اعتبرها خصوم الحكومة نتاج بيئة انتخابية غير متكافئة "سيطرت عليها الأجهزة الرسمية ومنعت شخصيات معارضة من الترشُّح أو خَصَّصَت لها موارد محدودة".
وعلى أي حال، حمل هذا الاستحقاق طابعاً رمزياً خاصاً، إذ شهد لأول مرة في التاريخ ولادة البنية التمثيلية الرسمية في إقليم غويانا إيسيكيبا المتنازع عليه مع دولة غويانا المتاخمة منذ أكثر من قرن. انتُخب للمرة الأولى حاكم للولاية، إلى جانب ثمانية نواب للجمعية الوطنية وسبعة أعضاء في المجلس التشريعي المحلي، وسط حضور لافت من السكّان، بمن فيهم المجتمعات الأصلية التي قطعت مسافات طويلة للوصول إلى مراكز الاقتراع.
وقد بدا واضحاً أن الدولة الفنزويلية تتعامل مع الإقليم كجزء لا يتجزأ من ترابها الوطني، في تحدٍّ مباشر لموقف "محكمة العدل الدولية" التي كانت قد دعت إلى عدم إجراء انتخابات في الإقليم.
وفي مشهد بدا احتفالياً بقدر ما كان تعبيراً عن تثبيت السيادة، ظهر الرئيس نيكولاس مادورو في أحد مراكز التصويت في العاصمة كاراكاس، معلناً أن فنزويلا "هزمت كل محاولات التخريب"، وأن العملية الانتخابية كانت "سريعة وناجحة وخالية من الحوادث". كما أعرب عن استعداده للعمل مع جميع الفائزين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية، مُشدّداً على أن الديمقراطية الفنزويلية هي "الأكثر حرية وإرساءً للسيادة في القرن الأخير".
وذكر مادورو إقليم إيسيكيبو قائلاً "إننا اليوم نحتفل بميلاد سيادة جديدة"، مُشدداً على أن دولة غويانا "احتلّت الإقليم" استناداً إلى "إرث الإمبراطورية البريطانية التي احتلّته بالقوّة"، وأكَّد على أن الفنزويليون سوف "يستعيدون إيسيكيبو" استناداً إلى مخرجات الانتخابات وبوجود حاكم للولاية وموارد ودعم.
وعلى الرغم من الطابع المؤسساتي المُعلن للانتخابات، ظلّ شبح الاضطراب الأمني حاضراً بقوّة في خلفية المشهد. فقد أعلنت الحكومة، على مدار الأسبوع السابق ليوم الاقتراع وحتى نهاية ذلك اليوم، عن اعتقال أكثر من 70 شخصاً، بينهم مرتزقة أجانب من جنسيات متعددة، على رأسها كولومبيا وألبانيا وباكستان وصربيا، ووجّهت إليهم اتهامات بالتخطيط لأعمال تخريبية تشمل استهداف سفارات ومحطات كهرباء ومستشفيات ومقار حكومية.
وشملت الاعتقالات أيضاً سياسيين معارضين، أبرزهم خوان بابلو غوانيبا، المتهم بقيادة شبكة مرتبطة بالتحريض على العنف وتفجيرات مزعومة.
وبحسب وزارة الداخلية، فإن "المؤامرة المفترضة" كانت تهدف إلى الإيحاء للعالم بوجود "حالة من الفوضى تحول دون إجراء الانتخابات"، واستغلال ذلك للطعن في "شرعية نتائجها". كما أشارت التحقيقات الرسمية إلى استخدام "شبكات لتهريب الأشخاص والسلاح"، واعتماد "العملات المشفّرة في تمويل العمليات" بهدف تجنّب الرقابة وتتبع الأموال. وقد وُجّهت أصابع الاتهام صراحة إلى المعارضة المتطرفة المرتبطة بماريا كورينا ماتشادو، وإلى جهات خارجية، من بينها شبكة تهريب يقودها المرتزق الأميركي إيريك برينس.
وإلى جانب الإجراءات الأمنية داخلياً، لجأت الحكومة إلى تعليق الرحلات الجوية مع كولومبيا وإغلاق المعابر البرية معها، بعد رصد ما قالت إنه "تسلّل لمرتزقة عبر الحدود". يرتبط بعض المعتقلين بشبكات إجرامية دولية لها نشاطات في الإكوادور وأوروبا، وتحديداً مع شبكات ألبانية متهمة بتجارة الكوكايين وغسيل الأموال، يُعتقد أن لها صلات وثيقة ببعض أجنحة السلطة في كولومبيا، ما زاد من تعقيد المشهد الجيوسياسي.
وفي موازاة ذلك، انكشفت مؤخراً خلافات داخلية في واشنطن بشأن التعاطي مع الملف الفنزويلي. فبينما أعلن المبعوث الخاص ريتشارد غرينيل عن تمديد محتمل لترخيص شركة شيفرون بالعمل في فنزويلا، خرجت وزارة الخارجية الأميركية لتكذِّب ذلك، مؤكدة أنّ "الترخيص سينتهي في موعده المحدد".
واعتُبر هذا التباين تعبيراً عن صراع بين توجُّهَين داخل الإدارة الأميركية: الأول يسعى إلى "بناء الثقة" مع كاراكاس لضمان المصالح الاقتصادية بالمقام الأول، والثاني يدفع بقيادة وزير الخارجية ماركو روبيو نحو تشديد الحصار وتعميق عزل كاراكاس.
هذا التعقيد الداخلي تزامن مع ضغوط خارجية متزايدة، خصوصاً من قبل حكومة غويانا التي صعَّدت خطابها ضد فنزويلا، واتهمت مادورو بانتهاك القانون الدولي عبر ضمّ إقليم إيسيكيبو إلى فنزويلا وتنظيم انتخابات فيه. وقد ردَّت كاراكاس على ذلك باعتبار أن غويانا تمارس "دوراً وظيفياً" لحساب المصالح الأميركية، ولا سيما في ظل عقود التنقيب التي أبرمتها مع شركة إكسون موبيل في المنطقة المتنازع عليها. وجاءت تصريحات الرئيس الفنزويلي ووزير دفاعه لتعزز هذا الموقف، حيث تحدّثا عن خطة مدبّرة تستهدف "انتزاع الإقليم بالقوّة" عبر سيناريوهات استفزازية يُفبركها البنتاغون والقيادة الجنوبية للولايات المتحدة.
ورغم ما حمله النزاع على إقليم إيسيكيبو خلال الأشهر الماضية من تصريحات فنزويلية وغويانية-أميركية متصاعدة واحتمالات واردة للانفجار، لم تسجّل اللجنة الوطنية للانتخابات أي خروقات أو تجاوزات في لجان إقليم غويانا إيسيكيبا، وذلك يدلّ – حتى الآن – على أن التحشيد الإعلامي والخطاب التصعيدي الذي انتهجته حكومة غويانا والإدارة الأميركية كان مجرَّد زوبعة لا تشمل أي نيَّة لتنفيذ التهديدات، ربما لأن التدخُّل في العملية الانتخابية كان سيعني بالتأكيد تحوّل نزاع فنزويلا وغويانا إلى الميدان العسكري، حتّى في ظل المبادرات الإقليمية التي حاولت على مدار الأشهر الماضية شد جسور التواصل بين الدولتين.
وعلى أي حال، من المسائل اللافتة في هذه الانتخابات أن المعارضة الفنزويلية لم تقدر على تشكيل جبهة متماسكة، إذ انقسمت بين مقاطعين للانتخابات على رأسهم تيار ماتشادو، وآخرين شاركوا في العملية مثل أحزاب "التحالف الديمقراطي" و"اتحاد وتغيير" بقيادة المعارض المعروف إنريكه كابريليس.
ورغم أن التيار الأخير سعى إلى تأكيد نهج "المقاومة من داخل المؤسسات"، فإن نتائجه بقيت محدودة ولم يستطع حَصد أي مكتسبات في الانتخابات تقارن بما حققه الحزب الحاكم وتحالفه كما أوضحت النتائج، ما عزّز من صورة تفكك المعسكر المعارض وافتقاده لخطاب جامع، وهو المسار التراجعي المستمر منذ الانتخابات الرئاسية السابقة.
وسط كل ذلك، لا يمكن قراءة هذا الاستحقاق إلا بوصفه لحظة مركَّبة تتداخل فيها أدوات الدولة مع أوراق التفاوض والمواجهة. فالحكومة الفنزويلية عززت سيطرتها المؤسساتية، وأظهرت قدرتها على إدارة انتخابات وسط حصار متوسِّع ومخاطر أمنية متصاعدة، لكنها مازالت تواجه ادعاءات بعدم شرعية العملية السياسية في نظر جزء من الداخل والخارج. كما أن الخطوة التصعيدية بشأن إقليم إيسيكيبو، رغم رمزيتها السيادية، قد تفتح الباب لمواجهات أعقد إن لم تُدار ضمن آليات تفاوضية محكمة.
وفي المحصلة، تؤكد هذه الانتخابات مجدداً أن فنزويلا لا تزال تتقدَّم خطوة تلو أخرى في قلب معادلة مضطربة: صندوق الاقتراع أداة تثبيت واستقطاب في آن معاً، والدولة تحاول عبره انتزاع شرعية ميدانية في الداخل وورقة ضغط في الخارج. غير أن المعركة الأوسع، المتعلقة بإعادة بناء الثقة الوطنية وترميم المشروعية السياسية، لاتزال مفتوحة وتحتاج أكثر من مجرد انتصار انتخابي لتُحسَم، رغم أن حكومة مادورو تعمل على الأرض وتحصد النقاط شعبياً وقاعدياً.